كان مشروع #الباحث عياد بومرزاق واضحاً منذ أعماله الأولى، وهو النفاذ إلى جوهر #المصطلحات_الغربية التي هاجرت إلى ثقافتنا العربية، والكشف عن مواطن الخلل في أنساقها وخلفياتها. فالمتأمل في #الخطاب_النقدي_العربي المعاصر يلاحظ أنه يعاني، في معظمه، من فوضى مفهومية تجعل هذا الخطاب ملتبساً، وربما متناقضاً. من هنا تصبح مراجعة المفاهيم وتصويبها ضرورة يحتمها مسار الثقافة العربية في سعيها إلى الانخراط في الحداثة، وتقبل شروطها .
التأمل في المفاهيم التي هاجرت إلى ثقافتنا العربية، هو محور البحث الذي أصدره الناقد الأكاديمي عن مركز دراسات الوحدة العربية، وعنوانه: "إشكالية المصطلح وتعطل النظرية النقدية: كتابات أدونيس وجابر عصفور نموذجاً".
في الفصل الأول، الذي تناول بالدرس انزلاق المصطلح العربي القديم إلى النقد العربي المعاصر وإشكالياته، يرتد الباحث إلى نشأة المصطلح وحركته، مؤكداً أن للمصطلحات عوامل كثيرة علمية واجتماعية وسياسية تسهم في توليدها، ودوافع عديدة تفرض نحتها وتأسيسها، وربما هجرتها من فضاء ثقافي إلى آخر. فالمصطلح ككل، كائن لغوي، لا بد له من بيئة معرفية ينشأ فيها، وثقافة تحتضنه وتؤطره. وتثير بيئة المصطلح من الإشكاليات مما أغرى الباحثين، على اختلاف مشاربهم، بالدراسة والبحث. ويمثل المصطلح العربي القديم الذي انزلق إلى الخطاب النقد العربي الجديد، مجالاً معرفياً أنموذجياً تخصب فيها تلك الإشكاليات.
واعتماداً على نص لأدونيس، مستل من كتابه "في الشعرية العربية"، يحيل الباحث على ثلاثة ميادين معرفية ترجع إليها المصطلحات النقدية ذات العلاقة بمفهوم الحداثة كما استتبت مقوماته في النقد الحديث، موزعاً هذه الميادين على ثلاث مرجعيات: المرجعية الدينية والمرجعية الإبداعية والمرجعية النقدية.
تشير المرجعية الدينية إلى كل النصوص الدينية الأصول، أي القرآن والسنة أو الميادين المعرفية أو العرفانية ذات العلاقة بتلك النصوص. ويقصد الباحث بالميادين المعرفية الأعمال التي انعطفت على القرآن بالشرح والتحليل، أما الميادين المعرفية فيقصد بها الأعمال التي تعاملت مع النصوص الدينية تعاملاً رمزياً، وتنحصر في نظر الباحث في التجربة الصوفية.
أثر النص الديني في تأسيس المصطلح النقدي الحديث
يستدرك الباحث قائلاً إن السنة لم تمثل مرجعاً لغوياً للخطاب النقدي المعاصر، وإن كان بعض النقاد يردون بعض المصطلحات إليها، مثل مصطلحي الحدث والبدعة اللذين كانا أصلين لغويين لاشتقاق مصطلحات أخرى كالمحدث والابتداع والمبدع والمبتدع. وكل هذه المصطلحات تتقاطع مع معاني الخروج والانشقاق والمخالفة. يقول أدونيس: "كل ما يأتيه الإنسان مما ليس له أصل في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فهو بدعة أي خروج وانشقاق". ويرد أدونيس المصطلحين إلى أصلهما الديني .أما في الاستعمال النقدي المعاصر، فتحيل المادة المعجمية "ب/د/ ع" ومشتقاتها، ومنها الإبداع، على متصورات التجاوز والاختراق والابتكار، وهي بهذه التصورات تتحد مع مصطلح الحداثة الذي يحيل، في نظر أدونيس، على متصورات التساؤل والاستقصاء والفتح والتفرد. لقد مرت المصطلحات القديمة المشتقة من المادتين: "ب/ د/ ع" و"ح/د/ ث" برحلة دلالية، فقدت خلالها أغلب متصوراتها القديمة، وتلبست بمتصورات بعيدة دلالياً عن الأولى. ويطلق المصطلحيون على هذا الفقد اسم المخالفة الدلالية أو الخرق الدلالي، وهو، في عرفهم، كل تغيير كبير يطرأ على المصطلح أثناء هجرته من معرفة إلى أخرى.
لئن مثلت المخالفة الدلالية خصيصة المصطلح ذي المرجعية السنية، فإن هناك خصائص أخرى يتميز بها المصطلح ذو المرجعية القرآنية. فالقرآن مثل واحداً من المراجع الرئيسة التي استند إليها النقاد العرب القدامى والمعاصرون، في اشتقاق مصطلحاتهم، فقد صرح أدونيس في كتابه "الشعرية العربية" أن جذور الحداثة الشعرية العربية، بخاصة، والحداثة الكتابية، بعامة، كامنة في النص القرآني. وفي كتابه "النص القرآني وآفاق الكتابة"، يوضح أدونيس هذه المسالة مبرزاً العلائق القائمة بين النص القرآني والحداثة. ولعل نقطة الالتقاء يمثلها مصطلح الكتابة. فمن خصائص النص القرآني تأسيسه للنقلة من الشفوية إلى الكتابة، وقد أحدثت هذه النقلة انقلاباً جذرياً على الثقافة الشفوية التي سيطرت على الفترة التي سبقت ظهور الإسلام. وقد حصر أدونيس، مستعيداً منجزات النقد الحديث، سمات الكتابة في أربعة مفاهيم أساسية هي: النص الجامع والقطيعة والبنية الحرة والإيقاع الحر.
وكل هذه المصطلحات تحيل القارئ على المدارس النقدية الحديثة، وخصوصاً المدرسة السيميائية، كما تحيل، في الوقت نفسه على المصطلحات التي نحتها شعراء غربيون كبار مثل الفرنسيين ستيفان مالارمه وبول كلوديل وبول إيلوار.
الدراسات القرآنية وأثرها في النقد الحديث
إن أهم ما تفيد به الدراسات القرآنية القديمة هو تأسيسها، في نظر أدونيس، مفاهيم تعتبر مركزية في النقد الحديث، من بين تلك المفاهيم النص الاحتمالي– المتعدد المعاني، وثقافة الإبداع، وجمالية التقبل.
لقد تطورت البلاغة العربية في كنف الدراسات القرآنية بحيث لم تعد تنويعاً على المعنى بل أصبحت إيحاء به وتحفيزاً على توليده وإخصابه، وبذلك تراجع مصطلح المجاز وحل محله مفهوم الصورة الفنية، والصورة في هذ السياق، هي مغامرة مشتركة بين المبدع والمتقبل بحيث يوحي الأول ويؤول الثاني.
لا شك في أن استحضار مصطلحات معاصرة للتعبير عن متصورات قديمة أو تأويل مصطلحات قديمة تأويلاً شخصياً، يطرح أسئلة كثيرة منها: ما مراجع أدونيس التي استند إليها أثناء الاصطلاح على المتصورات القديمة، وما غايته من وراء ذلك، وهل يتناسب المصطلح المولد مع التصور القديم؟.
نقلة المصطلح الغربي إلى النقد العربي المعاصر
يتأمل الباحث، في الفصل الثاني من عمله، هجرة عدد من المصطلحات من الثقافات الغربية إلى اللغة العربية، معتمداً أعمال أدونيس وجابر عصفور. وأول المصطلحات التي يتأملها مصطلح الرومنطيقية الذي وفد على الثقافة العربية في أوائل القرن الـ20، لافتاً الانتباه إلى أن الناقدين لم يدرسا المدرسة الرومنطيقية ومبادئها دراسة وافية تكشف عن تاريخ المصطلح، وتحيط بحقوله الدلالية. فأدونيس اختار مصطلح "الرومنطيقية"، واستخدمه على نحو واسع في أعماله، أما جابر عصفور فقد جنح إلى استعمال مصطلحي "الرومانتيكية" و"الرومانسية"، والمصطلحان قلما يستعملهما جابر عصفور للتعبير عن حركة أدبية عربية، ولكنه يميل إلى استعمالهما كلما تعلق الأمر باتجاه أدبي غربي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي صفحات من الأدب الرفيع يعود الباحث إلى مصطلح "الرومنطيقية" ليحفر في ذاكرته الأدبية والفلسفية والاجتماعية، موضحاً أن هذا المصطلح ينطوي على دلالات كثيرة أحصى منها الباحث جورج لوكاس أكثر من 11 ألف مفهوم. أما اللغة العربية المعاصرة، فإنها استخدمت مصطلحي "رومانسي" و"رومانسية" في سياق لغوي عام، بينما استخدمت مصطلحي "رومنطيقي" و"رومنطيقية" في سياق أدبي محض .
يلتفت الباحث بعد ذلك، إلى الطرائق التي توسل بها الناقدان أدونيس وجابر عصفور في قراءة الأدب الرومنطيقي العربي، ويتبسط في تحليل قراءة أدونيس لأدب جبران الذي مثل اتجاه الرومنطيقية الثورية التجددية، بحسب عبارة أدونيس، مقابل رومنطيقية التصنع التي يمثلها عدد من الأدباء الآخرين .
وفي هذا السياق، سياق تأمل المصطلحات، يؤاخذ الباحث أدونيس على ما يسميه الإسقاط المنهجي، ويتجلى هذا الإسقاط في الجمع بين الرؤية الرومنطيقية الحديثة وبعض التجارب الإبداعية العربية القديمة، وقد جوز أدونيس لنفسه اجتراح مصطلحات تجمع بين فعاليتين إبداعيتين متباعدتين زمانياً ومتباينتين رؤية، من تلك المصطلحات: الرومنطيقية الجاهلية، ورومنطيقية الشنفرى.
ومن المصطلحات الأخرى التي تأمل الباحث انزلاقها من فضاء غربي إلى فضاء عربي، مصطلح السوريالية والشعرية والبنيوية التوليدية. وفي هذا السياق، أخذ الباحث كلا الناقدين على بعض المواقف التي أفصحت عنها أعمالهم النقدية، مثل الانحياز الأيديولوجي وهو الانحياز إلى منهج من دون آخر، أو إلى نظرية من دون أخرى. والغريب أن هذا الانحياز يكون متأخراً عن تاريخ ظهورها في مظانها. فالشعرية والبنيوية نجمتان في أعمال الناقدين بعد أفول نجمهما في الغرب. ومن المآخذ التصرف المفهومي الذي يدفع الناقدين إلى توليد بعض المصطلحات، ومن ذلك أن غياب متصور قصيدة النثر ومصطلحها في الثقافة العربية دفعا أدونيس إلى توليد مصطلح قصيدة النثر العربية.
صورة المبدع في الثقافة العربية
يدور القسم الثالث من الدراسة حول مصطلح المبدع كما تمثله الناقدان أدونيس وجابر عصفور. حدد أدونيس الشروط الضرورية التي تجعل من المبدع مبدعاً وأهمها: الرؤية، وهي رؤيته الخاصة للعالم، وقدرة هذه الرؤية على تأسيس علاقات خاصة بين اللغة والأشياء، ثم القدرة على خلق لغة شعرية خاصة. ومن أجل تقريب مفهوم الرؤية من الأذهان وتحديد سمات المبدع اختار الناقدان صورتين مجازيتين تستجيبان لتلك الشروط: صورة الشاعر الرائي وصورة شاعر الفاجعة. صورة الشاعر الرائي الموروثة عن الثقافة اليونانية جعلت الشاعر على علاقة قوية بالآلهة، وأضفت قداسة على الخطاب الشعري. وفي إطار هذه الدائرة الدلالية نظر جابر عصفور إلى عدد من المبدعين المعاصرين من أمثال أمل دنقل وصلاح عبدالصبور ومحمد عفيفي مطر، لكن هذا التصور للفعل الإبداعي لم يجد صدى عند أدونيس الذي يدخل عنده، مصطلح الرؤيا في منظومة علاقات مغايرة، ويكتسب خصوصيات مفهومية تختلف عما نجده عند جابر عصفور، بل يبدو هذا المصطلح محيلاً عنده، على مفهوم مركب من تصور الشاعر رامبو وتصور المتصوفة العرب، وتبعاً لذلك يختلف منظور كلا الناقدين إلى متصور المبدع. أما صورة شاعر الفاجعة فهي حصيلة رؤيتين نقديتين، فهي في الرؤية الأولى مرادفة للإحساس العميق بعذابات الحياة ووطأة الحدث، وهي في الرؤية الثانية معادل موضوعي للوعي الحاد بعذابات الكتابة والشعور الدقيق بآلام الخلق والابتكار.
انطلاقاً من هذين المفهومين تشكلت صورة شاعر الفاجعة في كتابات أدونيس وجابر عصفور. في هذا الإطار نفهم تعريف جابر عصفور بقوله: "الإبداع معاناة وارتحال دائم. وتعريفه للشعر بكونه حياة وموضوعاً للحياة" .
تلك بضعة من المصطلحات التي تأملها هذا البحث المهم في أعمال أدونيس وجابر عصفور، إضافة إلى مصطلحات أخرى كثيرة مثل الهوية الإبداعية والنص.
وقد توصل هذا البحث إلى جملة من الاستنتاجات، لعل أهمها أن الناقدين لم يلتزما من الناحية المنهجية بمناهج التعريف والتحليل الاصطلاحيين التزاماً علمياً دقيقاً تراعى فيه النظريات المصطلحية المتعاقبة. أما من ناحية التنظير فلا نلمس مساهمة حقيقية في تطوير نظرية المصطلح جمعاً أو وضعاً أو تعريفاً أو تحليلاً، لكن هذا لا ينفي دورهما في التغيير والتحديث وفي المشاركة بتأسيس خطاب نقدي جديد، يفصح عن خصوصية المرحلة التاريخية التي نشأ فيها. ولا ينفي دورهما في التنبيه إلى أن النقد القديم وأنساقه الثقافية ليست شيئاً مقدساً يجل عن النقد، وأن النقد الغربي ليس دنساً ينبغي تجنبه، وهما بذلك أسهما في تأسيس مرحلة جديدة من مراحل التاريخ النقدي العربي .