كلما حل تاريخ #14_فبراير (شباط)، كثر الحديث عن #الحب في البلدان العربية والمغاربية، واختفت النخب في خطاب "أخلاقوي"، نخب تراوغ المعنى الفلسفي والاجتماعي للحب بالهرب من مواجهته.
أعني الحب المرتبط أصلاً بالمرأة، زوجة وعشيقة وحبيبة، إلى ثرثرة عن "حب" آخر أملاً في النفاذ من المأزق، وتعميم الضباب.
ككل المرات، في خطاب نخبوي به لوثة تداري الحقيقة، تحول النخب العربية والمغاربية النقاش عن معنى الحب المرتبط بالمرأة الكينونة، الجسد والروح والحضور، إلى حديث عن حب الوطن بشكل عام وغامض، هكذا عن حب الوالدين، هكذا عن حب الله، هكذا عن حب زقزقة العصافير، هكذا وعن حب الطماطم مثلاً!
تتهرب النخب، بشكل عام، من إبداء موقف واضح من الاحتفال بعيد الحب، بالقول مثلاً: "الحب هو لكل يوم وليس ليوم واحد"، لكن حين تحفر في هذا الجواب وتدفع بالسؤال إلى الأعمق، يجيئك الموقف المضمر في العبارة التالية: "عيد الحب بدعة!".
في النقاشات مع النخب عن الحب، أنت تشير إلى القمر وهم ينظرون إلى الأصبع.
أشعر بأن هناك عطباً سيكولوجياً - ثقافياً مركباً وعضوياً تعانيه النخب العربية والمغاربية كلما ارتبط الحال بسؤال حب المرأة وجوداً وكياناً متكاملاً.
إن النخب التي لا تدافع عن حق المرأة في ملكية جسدها والتصرف فيه، في ملكية أحاسيسها والتصرف فيها، نخب لا تدافع عن المساواة، هي في الحصيلة نخب مجندة بشكل واع أو لاواع ضد فلسفة الحب، وللأسف تمثل هذه النخب الأغلبية الساحقة في مجتمعاتنا العربية والمغاربية.
تصور النخب العربية المعطوبة الحب وكأنه عكس الشرف، تصور الحب وكأنه المعنى المرادف للرذيلة، حين الحديث عن الحب في هذا العالم تنحاز اللغة إلى معان غير المعنى الجوهري له، بوصف الحب سلوكاً سامياً، سلوكاً إنسانياً خلاقاً.
صحيح لقد كتب العرب كثيراً في الحب وعنه، وهي كتابات تدل على أزمة ما، على عطب أو اختلال في العلاقات الاجتماعية والعاطفية بين الرجل والمرأة، كتابات تدل عن حال "القمع" لا حال "الحرية"، القمع الفردي والجماعي.
لقد دقت "الصحوة" الإسلامية التي اكتسحت الساحة الثقافية والتربوية والإعلامية والسياسية ابتداء من نهاية السبعينيات، المسمار الأخير في نعش الخطابات عن الحب، في الأدب والفنون وفي الحياة الاجتماعية أيضاً، وهو ما جعلنا نلاحظ بأن كثيراً من الشباب وغير الشباب، يستعيد اليوم بعض الصور التي تعود إلى الخمسينيات والستينيات بكل ما تحمله من انفتاح في العلاقة ما بين الرجل والمرأة، بكل احترام وتقدير، في العمل وفي المدرسة وفي الجامعة وفي الفن وفي المطعم وفي النقل العمومي، لتتم مقارنتها بصور اليوم التي تقدم العالم في سواد وكأن الجميع متهماً بارتكاب الرذيلة بمجرد حضور المرأة في الفضاء العام.
في صالات العروض السينمائية وعلى خشبات المسرح وحتى في كتابات "أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة وصولاً إلى إحسان عبدالقدوس والأخطل الصغير ونزار قباني وغيرهم"، هي تجليات فنية ونصية فيها تمرد، ولكن فيها أيضاً في المقابل توصيف لمجتمع قامع ومأزوم لم يستطع حل مشكلته مع المرأة.
كان الآباء والأجداد، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، الذين شكلوا النخب الثقافية والفنية العربية والمغاربية، في المسرح والسينما والأغنية، يتصرفون بعفوية في علاقة الوجود في الفضاء العام الذي يجمع ما بين الرجل والمرأة. فكثير من الأفلام والمسرحيات غامرة بالأحاسيس العاطفية وبالرسائل الصريحة والمضمرة عن الحب، كل هذا الطرح لم يكن ليثير سؤال الرذيلة لدى المستقبل، بل كان الجمهور الذي تغص به صالات العرض، يرى فيها تمثيلاً فنياً لقضية إنسانية. أما اليوم فهناك "وصفة" يجب التقيد بها في الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، مسطرة من الممنوعات، حيث يمنع على الممثل أن يظهر في خلوة مع الممثلة، يمنع أن يظهر الممثل في سرير مع ممثلة، القبلة ممنوعة، لكن الصفعة مسموح بها، يمنع على الممثل حتى أن يلمس أصابع الممثلة.... وسلسلة الممنوعات طويلة، وكأن القيام بذلك هو ارتكاب للجريمة الكبرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مجتمع يحارب الحب، باسم "الفضيلة"، وهو غارق في الاختلاسات والرشوة والتسيب والعنف. الجميع يعلم أن عالمنا الذي يحارب الحب النظيف هو أكبر مستهلك في العالم للسلع الثقافية الجنسية الرديئة، كل هذا النفاق الاجتماعي والجبن الفكري سببهما خطاب النخب المهزومة، التي تريد إخفاء عجزها بالتستر بطهرانية شكلية ومزيفة.
حين تحارب النخب الحب بصمتها أو بكتاباتها، فإن العامة، من خلفها، تحاربه في المجتمع، تطارده في الشوارع وفي السلوك الاجتماعي الفردي والعام.
حين يحارب الجامعيون والمبدعون الحب في محاضراتهم وفي نصوصهم الإبداعية، ينتج من ذلك وبشكل آلي مجتمع يناصر العنف ضد المرأة ويعتبر "قتلها" عملية "عادية"، لأنها تصنف تحت بند الدفاع عن "الشرف" مثلاً، إذ تتحول الجريمة إلى "فحولة".
حين يحارب الفقهاء الحب في خطبهم ودروسهم، يمارس العامة من خلفهم وبلغتهم وبشكل أوتوماتيكي رجم المرأة رمزياً أو فعلياً، واعتبار ذلك من صميم "الدين"، من أجل تربيتها. فهي في عيونهم كائن خلق بنصف عقل، غير راشد طوال العمر، بهذا المنطق الذي لا منطق فيه فالمرأة مهما فعلت، هي دائماً في الخطأ أو في الرذيلة أو محل تهمة.
إن الأمة التي يحارب فيها الحب، هي عبارة عن جغرافيا بشرية لإنتاج الكراهية وتثميرها وتوريثها للأجيال، وهي أمة مرتع للحروب النفسية وغير النفسية.
من لم يعرف قيمة الحب لا يعرف الدفاع عن قيم الإنسان السامية الكبرى.
من يعادي الحب فهو يراهن على الحرب وفي صفها.
حين أدقق في وضع الحب في مجتمعاتنا، فإنني أراه يعيش في حال من السرية التي لا تشبهها سوى ما تعيشه بعض أحزاب المعارضة السياسية الجادة.
يحدث هذا في الجزائر
يحدث هذا في الجزائر، مع اقتراب عيد الحب سان فالانتاين Saint Valentin، تنصب محاكم التفتيش ضد هذا الاحتفال، لنقرأ معاً هذه المراسلة الغريبة، التي تناقلتها شبكات التواصل الاجتماعي، التي لم يصدر أي تكذيب ينفيها من الجهة التي هي مصدرها، والموجهة من مديرية التربية لولاية قالمة (الموجودة شرق مدينة الجزائر حوالى 500 كلم) إلى رؤساء المؤسسات التربوية تحت الوصاية، وهذا نصها:
"الموضوع: تفتيش مستعجل وسط التلاميذ
يشرفني أن أطلب منكم القيام بحملة تفتيش مستعجلة في كل المؤسسات التربوية، تستهدف بصفة خاصة تلاميذ الثانوي والمتوسط وحجز كل ما له صفة مادة، الشوكولاطة في حوزة الذكور والإناث على حد سواء وتخريبها ورميها مع توخي الحذر أثناء عملية التفتيش.
ملاحظة: هذه العملية تكون طيلة شهر فيفري".
هذا أمر محزن ومخزي، فماذا يا ترى ستنتج مدرسة تفتش بشكل بوليسي عن قطعة شوكولاتة قد يقدمها تلميذ لصديقته، أو تقدمها تلميذة لصديقها، ستنتج العنف والقتل والعنصرية الجنسية، أن يقدم تلميذ لتلميذة قطعة شوكولاتة فكأن هذا السلوك يضع البلد وأمن البلد في خطر، يضع الله تبارك وتعالى ورسوله في خطر. يحدث مثل هذا ولا أحد يتكلم، لا أحد يناقش هذا التصرف، الجميع يسكت لأن الأمر يتعلق بالحب، هذا الحب الذي هو ثقافة منبوذة في مجتمع ذكوري، ثقافة ترتبط معناها في أذهان الجميع بالرذيلة لا بالرحمة والود.