ملخص
يدخل الفيلم أروقة حرب "#الغفران" والصراعات الداخلية التي شهدتها وكيف حوكمت #رئيسة_الوزراء_الإسرائيلية السابقة على أخطائها
شهد مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 فبراير - شباط) العرض العالمي الأول لفيلم "غولدا" (إنتاج أميركي بريطاني) للمخرج الإسرائيلي غاي ناتيف، المبرمج خارج المسابقة في قسم "خاص برليناله" والذي ينتظره الجميع، لكونه يتناول رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير (أول إمرأة تسلّمت الحكم في إسرائيل بين عامي 1969 و1974)، والنحو الذي تعاملت فيه مع حرب أكتوبر، في العام 1973، عندما شنت مصر في عهد أنور السادات، وسوريا خلال حكم حافظ الأسد حرباً على إسرائيل، وهي كانت خامس الحروب العربية الإسرائيلية منذ العام 1948. مع اقتراب الذكرى الـ50 لهذه الحرب في نهاية هذا العام، يبدو أن الإسرائيليين لم ينسوا هذا التاريخ الذي أطلقوا عليه "حرب الغفران" والذي شكّل تروما لديهم.
والدليل على أنه يلازمهم، هو هذا الفيلم الذي يعود بالوقائع، ولكن من خلال ما عاشته مائير في أروقة تلك الحرب طوال الأيام التي استغرقتها، من قلق نفسي وصراعات داخلية واتصالات ومفاوضات، أدت في النهاية إلى اتفاق وقف إطلاق النار. مائير شخصية مثيرة للجدل في بلادها ولم تكن يوماً محل إجماع. لكنّ الفيلم ينصفها، أو على الأقل يحاول إنصافها، كما فعلت في السابق أفلام مثل "أحلك الظروف" التي أظهرت دور وينستون تشرشل في الحرب العالمية الثانية و"السيدة الحديدية" التي قيّمت تجرية مارغريت تاتشر بـ"موضوعية". تصوير سياسيين من زاوية جديدة ومختلفة، وهم الذين تورطوا في صراعات وحروب تسببت بموت الآلاف، هو فن كامل متكامل، يعتمد على التلاعب النفسي وتقديم الأشياء بطريقة مجتزأة. وفي النهاية، تحتاج خطوة مثل هذه إلى الكثير من الجهود لتصبح مقنعة. تبرئة أي شخص انخرط في السياسة، مهمة تحتاج إلى قدرة عالية على الاقناع، وذلك مهما بحثنا في التفاصيل ومهما حاولنا إظهار المأزق الذي وجد بعضهم نفسه فيه، ومهما اكتشفنا أنهم تعاملوا مع الأمر الواقع بأقل الخسائر. لكن، في المقابل، هناك إنسان خلف السياسي، وهو، وإن لم يكن منفصلاً عن السياسي تماماً، إلا أن من المفيد مقاربته وقراءة تجربته انطلاقاً من مبدأ أن ما يجمع الجميع، هو طبيعة بشرية واحدة. فيلم ناتيف أهدافه واضحة: نفض الغبار عن شخصية لا تحظى بسمعة جيدة، وهذه مهمة شاقة ولكن يخرج منها ناتيف منتصراً على المستوى السينمائي والجمالي. أما في ما يتعلق بالوقائع التاريخية، فهذه مهمة المؤرخين، علماً أن ذكاء الفيلم هو في رواية الحرب والصراع من وجهة نظر مائير، مما يعفيه من الكثير من الإنتقادات.
الممثلة البريطانية هيلين ميرن (77 عاماً) تجسد دور غولدا مائير التي كان عمرها 75 سنة عندما اندلعت الحرب. هذه ليست المرة الأولى تلعب فيها ممثلة مرموقة دور مائير. آن بانكروفت جسدتها في المسرح، وجودي دايفيس وإنغريد برغمان في التلفزيون. أما لين كوهين، فتولت دورها في السينما. لكن، لا أحد بلغ مرتبة ميرن. من خلال عمل ماكياج فظيع وأداء متقن، تعطي ميرن الاحساس بأنّ غولدا مائير تعود إلى الحياة مجدداً. فهي اشتغلت على كل التفاصيل التي تقرّبها من الشخصية من دون أن تبدو مزيفة ومفتعلة، وفي تقنيتها هذه ومقاربتها تلك، اتقان رهيب وتفان قل نظيرهما. أول هذه التفاصيل هي السيكارة التي لا تفارق شفتي مائير، وكانت رفيقتها الدائمة حتى في أحلك الظروف، نراها تنفخ في الهواء من دون أن تكترث لصحتها ونصيحة أطبائها، علماً أن صحتها كانت تتدهور باستمرار. أما شنطة اليد التي كانت تحملها على ذراعها، فعلامة أخرى من علاماتها، بالإضافة إلى حذائها الشهير الذي أطلق عليه "حذاء غولدا". هذا كله ليس كافياً لبناء شخصية كاملة متكاملة، فهناك استعداد نفسي كبير خضعت له ميرن، كي تقدّم شخصية تاريخية عاصرها كثر، وبالتالي التحدي أكبر. لكن، مَن سبق أن شاهدها في دور الملكة إليزابيث الثانية التي نالت عنه أوسكار أفضل ممثلة، فلن يُفاجئه تجسيدها لمائير، وهي منذ الآن مرشحة قوية لنيل أوسكار ثان عن دورها هذا.
يتطور الفيلم ضمن خطين متوازيين: الخط الأول يقتصر على سرد للأحداث التي أدت إلى اندلاع الحرب، منذ التوتر الذي سبق تنسيق الهجومين المفاجئين والمتزامنين على القوات الإسرائيلية، وصولاً إلى الإرتباك الذي تشهده أروقة تل أبيب بين المسؤولين السياسيين والعسكريين من جانب، ومائير من جانب آخر. نشهد على الخلافات في وجهات النظر، فهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع الهجوم، وما القرارات السريعة التي يجب اتخاذها. فكل قرار يحمل في داخله سلبيات سياسة وخسائر بشرية، واختيار أي منه يرتب على مائير مسؤوليات ضحمة. أما الخط الثاني فيجري بعد عام من نهاية الحرب ويقتصرعلى جلسات تخضع لها من قبل لجنة تحقيق، تلومها بالتقصير والاستخفاف بالتهديدات والاعتماد على التقارير الاستخباراتية بالكامل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أفكار إخراجية كثيرة ينطوي عليها الفيلم وتجعلنا نرى الوقائع من مكان قريب لمائير، ضمن فيلم حميمي ينزلق تدريجاً إلى الجو الكابوسي. العامل النفسي مهم جداً لإشاعة هذا الجو، والفيلم يترجمه بعدد كبير من التفاصيل، ولا يتردد في استخدام الكثير من المؤثرات البصرية والسمعية وحركات الكاميرا والتنوع في أحجام الكادرات. كل هذا لنجد أنفسنا وقد جلسنا في حضن مائير، والفيلم يكشف درجة ضعفها في لحظات، وصلابتها في لحظات أخرى. مشاهدة "غولدا" متعة خالصة، وهذا ما يتناقض مع جوهر ما يقدمه. إنها مشاهدة مشبعة بإغراءات كثيرة تكشف مرة أخرى، مدى عظمة السينما في توظيف كلّ الامكانات لمحاولة اثارة التعاطف.
نكاد لا نرى في الفيلم أي حرب، ولكن نسمعها من خلال أصوات الجنود الذين يقتلون على الجبهة. الحرب سمعية عند ناتيف أكثر منها بصرية، لا لأسباب متعلقة بضعف الإمكانات بل لأسباب جمالية وسياسية. سياسية لأن الفيلم يعتمد في الأساس على تغييب بضعة عناصر ليصل إلى هدفه. فمثلاً، لا يذكر الأسباب التي ولّدت هذا الصراع منذ نشأة إسرائيل، كما يتجاهل المسار الطويل للصراع العربي الإسرائيلي، مركّزاً على أحداث "ربع الساعة الأخير"، ومظهراً إسرائيل ضحية "عداون".
رغم ذلك كله، نحن أمام فيلم كبير على المستوى السينمائي، وهنا معضلة المشاهد الذي يحب الفن السابع. يعي الأخير تماماً إلى أي حد الأمور معقّدة، ولا بد أن يسأل نفسه كيف يحب فيلماً عن الحرب، يغيب فيه الكثير من النقد اللاذع وإدانة العنف، ويصرف النظر عن الظروف والخلفيات والمسببات، وكلها أشياء عودتنا عليها أفلام الحرب الكبيرة. واذا كانت "حرب الغفران بمنزلة حرب فيتنام بالنسبة لإسرائيل"، كما قال غاي ناتيف في برلين، فهو الذي كان مولوداً جديداً عندما اندلعت الحرب، نسي حتماً الدرس الأهم: وحدهم الأموات شاهدوا نهاية الحروب.