ملخص
كيف لـ#فلاديمير_بوتين أن يصمد في موقعه وسط #القرارات_الخاطئة والمدمّرة وتبعاتها الثقيلة على شتّى الصعد لولا #غسل_دماغ الشعب الروسي بشكل ممنهج؟
هو لم يغيّر السيناريو كثيراً. فبالنسبة لفلاديمير بوتين، يبدو وكأنّ العام المنصرم المشحون بالانتكاسات والنقاشات وإذلال قوّات بلاده لم يحدث مطلقاً. من وجهة نظره، الغرب هو من بدأ بالحرب وهو "الملام" عليها وليست روسيا.
على ما يبدو، الأوكرانيون هم النازيون الجدد العدائيين وليس القوميين العنيفين في الكرملين الذين أرسلوا الدبابات إلى أوكرانيا منذ عام، وفيما لم يتمكّنوا من غلب خصمهم في ساحة المعركة، أمضوا الأشهر الاثني عشر الماضية في ترهيب المدنيين وترويعهم. حتى اليوم، وعلى رغم ارتفاع عدد الإصابات لتبلغ أرقاماً عالية إلى درجة اضطرّ الرئيس الروسي إلى الإعلان عن إنشاء وكالة وطنية جديدة لدعم الثكلى، لا يزال يُطلق على أكبر حربٍ في أوروبا منذ عام 1945 تعبيراً ملطّفاً هو "العملية العسكرية الخاصة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يزال بوتين يزعم بأنّ أوكرانيا ليست بلداً شرعياً مستقلاً بل هو وليد مؤامرة إمبراطورية بولندية ونمساوية-مجريّة تعود إلى القرن التاسع عشر. وبالطبع، كما جرت العادة، تُعتبر الولايات المتحدة الشيطان الذي دمّر يوغوسلافيا والعراق وليبيا ويسعى اليوم أيضاً إلى تدمير أوكرانيا، على رغم أنّ قوّات الكرملين هي التي تمطر المباني ومحطات توليد الطاقة بوابلٍ من القذائف وترتكب جرائم حربٍ في أنحاء الأراضي المحتلّة. وتُستخدم أوكرانيا في هذه السرديّة البشعة من قبل الغرب "كبش فداءٍ ضدّ روسيا" ورداً على ذلك تلجأ "روسيا إلى القوّة لوقف الحرب".
وكالعادة أيضاً، تمّت استعادة الكليشيهات الدعائية القديمة بشأن معامل الأسلحة الكيماوية الغربية واستحواذ أوكرانيا على أسلحة نووية. ولمصلحة أولئك في الغرب الذين يفضلون قيم بوتين الرجعية ويميلون إلى الدفاع عنه، يقوم الرئيس الروسي باتّهام الحكومات الغربية بإعلان البدوفيليا أمراً "عادياً" و"إجبار الكهنة" على إتمام احتفالات زفاف بين مثليي الجنس. هنا، هزّ البيروقراطيون الذين يرتدون البدلات الرسمية والجنود يرتدون الزي العسكري ورجال الدين برؤوسهم وصفّقوا له بقوّة.
لعلّه بهدف إثبات فعالية العقوبات الغربية، كرّس بوتين وقتاً كافياً للتطرّق إلى الاحصائيات حول الأداء الاقتصادي الروسي المذهل. بالإصغاء إلى أكاذيبه التي صيغت بذكاء، لا يُخيّل أبداً إلى المرء بأنّ روسيا هي التي غزت جارتها الصغيرة أوكرانيا بشكلٍ غير مبرّر في 24 فبراير (شباط) 2022. حتى وإن كان كلّ ما قاله بوتين بشأن استفزازات حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومعاملة النواب الروس صحيحاً، فهذا لا يبرّر، أخلاقياً أو قانونياً، محاولة ضمّ دولة أخرى تحت الجناح الروسي.
على رغم كلّ هذا، لا يزال بوتين صامداً. إنّها مفاجأة العام 2023 الحقيقية. وعلى رغم فشل "عمليّته العسكرية الخاصة" وتردّي معايير العيش في روسيا والعزلة الدولية، لم تتمّ الإطاحة بالزعيم الروسي من خلال ثورة شعبية أو تدخّل عسكري أو انقلاب في القصر. حصلت بعض التظاهرات، مع ما ترافق من السرديّة المعتادة عن المخاوف داخل الدوائر الصغيرة التي تدير البلاد، ولكن مع ذلك، بالإمكان القول إنّ موقع بوتين لا يزال آمناً نسبياً.
على رغم إطلالته الغريبة نوعاً ما (بوجهه المنتفخ)، ونظرته المغرورة والمليئة بجنون العظمة تجاه العالم، فضلاً عن الإشاعات المرتبطة بتلقيه علاج للسرطان والباركنسون، يبدو أنّ بوتين لم يستسلم للمرض أبداً.
لا تصعب رؤية كيف يتولّى زمام الأمور. فهو يتحكّم بوسائل الإعلام بطريقةٍ تضمن حصول الشعب الروسي على سرديّة شاملة واحدة تتطرّق إلى عدائية حلف الناتو والعدوان المتوحّش والانحطاط الأخلاقي. أمل الكثيرون بأن يساعد الإنترنت على كسر هذا التدفّق الأحاديّ المصدر للأخبار والمعلومات، بيد أنّ معظم الروس لا يزالون يعتمدون على التلفزيون في ظلّ وجود العديد من أتباع بوتين في مؤسسات البثّ ممّن يهللون له، إذ تقوم انتقاداتهم الوحيدة الموجّهة للحكومة على أنّها استخدمت الليونة بشكلٍ كبير تجاه النازيين الجدد في كييف.
لا يمكن تغطية الإصابات ولا حتى الهزائم العسكرية بالكامل، ولكنّها تحوّلت إلى فصول من السرديّة القوميّة عن المواجهة البطوليّة. تعرّض الشعب الروسي لغسل دماغٍ هو الأكبر في تاريخهم، باستثناء ما حصل في ذروة حقبة ستالين. يصعب تصديق ذلك من وجهة نظرٍ غربيّة مع رفع المشهد الإعلامي والاجتماعي شعار الغرب الجامح (وايلد ويست) متاح للجميع، ولكنّه واقع علينا مواجهته.
لا شكّ أنّ خروج ماك دونالدز ورينو وشيل من الأسواق الروسية لم يمرّ مرور الكرام، بيد أنّه لم يحطّم المعنويات. فقد مرّ الروس بأسوأ من ذلك، وهم مقتنعون بأنّها التضحية الوطنية التي يتوجّب عليهم بذلها. وشكّلت الحرب الدعائية الجانب الوحيد الذي نجح فيه الكرملين.
ولكن يتخطّى الأمر مجرّد ذلك. قام بوتين بتكرار الأساطير المشوّشة والقصص الخرافيّة التي غذّاها بقرنٍ من جنون العظمة، بعضه مبرر أحياناً، بشأن النوايا الغربية الخبيثة التي تعود إلى أعقاب الثورة البولشيفية ومن ثمّ عملية بارباروسا، تخللتها بعض المحاولات المتقطّعة للالتفاف والتقارب. ولأسبابٍ تاريخية قويّة وراسخة، يجد الروس أنّه يستحيل عليهم رؤية أنفسهم كفاشيين أو نازيين جدد حتى وإن كان قائدهم يتّبع قواعد لعبٍ "هتلريّة" (نسبةً إلى هتلر).
تكمن الحقيقة المرّة في أنّ انشغال بوتين بتراجع موقع بلاده في العالم وحنينه للنظام واحترام أمر الاتحاد السوفياتي القديم والإذعان للمعتقدات التقليدية الأرثوذكسية القديمة هي أمور يتشاركها معه العديد من مواطنيه.
فقد تربّى هؤلاء على مزيجٍ تاريخي من الأيقونات البطوليّة القيصريّة والسوفياتية بدءاً من القيصر بطرس الأكبر إلى يوري غاغارين. تتعايش النجوم الحمراء مع النسور ذات الرأسين على شعارات وأعلام روسيا الحديثة، وهي تعرف من هو العدو التاريخي. إنّها ثقافة الاضطهاد الراسخة بعمقٍ والتي لم يبذل الغرب الكثير من الجهد لتدجينها وتخفيفها من خلال هذه الفرصة الضيّقة التي فُتحت والتي تمتدّ بشكلٍ عام بين سقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1991 ووصول بوتين إلى السلطة ممسكاً بأجندته الانتقاميّة عام 2000.
بالكاد تم استكشاف الفرصة لشراكة حقيقية كما تصوّرها ميخائيل غورباتشوف خلال سنوات يلتسين الفوضوية، وإلى هذا الحدّ، قام الغرب بالتخلّي عن روسيا وألحق ضرراً بمصالحه الطويلة الأمد وبمصالح السلام العالمي أيضاً.
عندما تنتهي هذه الحرب وتستعيد أوكرانيا استقلالها، يتوجّب على الغرب ألا يطوّر نظرة انتقامية أو ثأريّة تجاه الشعب الروسي. فمن شأن سلوك طريق المطالبة بالتعويضات وما شابه أن يغذّي جيلاً آخر من الامتعاض وأساطير الخيانة. سيكون التعامل مع جرائم الحرب وموقف بوتين، في حال تمكّن من الصمود في مكانه، تحدياً كبيراً وسيستوجب اتخاذ بعض القرارات الصعبة.
مع الافتراض أنّ "الاستسلام غير المشروط" ليس موجوداً في معجم السياسة الأوكرانية أو الغربية، علينا البدء الآن بالتفكير في إطار عمل أمني جديد لضمان السلام الطويل الأمد في أوروبا. بعباراتٍ أخرى، يجب على الغرب القيام بما فشل في إنجازه بعد الفوز بالحرب العالمية الثانية والحرب الباردة ووضع خطّة لسلامٍ ثابت ومستمرّ مع روسيا.
© The Independent