ملخص
اندثار #اليسار و#حركات_التحرر في العالم ربما ترك فراغاً سياسياً وأيديولوجياً ملأته #الجماعات_المتطرفة
في العصور القديمة، قالوا إن بعضهم يعتنق التطرف مبدأ والتشدد أسلوب حياة بدافع ثالوث الفقر والجهل والحرمان. على هذا النحو كتب الكتاب وبحث الباحثون ودرس الدارسون ونظر المنظرون على مدى أعوام، ومعظمها في ما يبدو أكل عليها الزمن وشرب تحت وقع التغيرات الجارية في عالم التطرف والتشدد الآن، إذ اتضح أن للتطرف وجوهاً أخرى وللتشدد دوافع ومحفزات ومناهج وأدوات مغايرة.
آخر ما كتب قبل ساعات عن "عروس داعش" وفي أقوال ثانية المراهقة البريطانية التي تركت بيتها وأسرتها في شرق لندن لتنضم سراً إلى "داعش" عام 2015 وهي في الـ15 من عمرها مع صديقتين مراهقتين (قتلت واحدة منهما في غارة جوية في سوريا) هو أنها خسرت استئنافها الأخير في قضية تجريدها من جنسيتها البريطانية.
لم تلعن "داعش"
بيغوم التي تركت حياتها في بريطانيا طواعية وانضمت إلى "داعش" وتزوجت "داعشي" هولندي وأنجبت ثلاثة أطفال ماتوا جميعاً في مخيمات "داعش" لأسباب مختلفة، أعلنت أنها ليست حزينة على وفاة صغارها "لأن ذلك جزء انتهى".
وعلى رغم أن أخبار بيغوم التي تملأ الأثير الرقمي على سبيل الضغط والتأثير في الرأي العام والموقف السياسي لتعود إلى بريطانيا وتستعيد جنسيتها، فإنها لم تلعن "داعش" أو تبدي الندم على وقوعها أسيرة أفكار مريضة أو تذرف الدمع على أعوام ضاعت من عمرها، بل ما يلفت النظر أن وجه ندمها تمثل في اكتشافها أن أفكار "داعش" لم تكن بـ"النقاء" الذي تصورته.
"نقاء" أفكار "داعش" ربما هو الذي دفع فهمي الأسود أو رشيد المصري أو هيثم عبدالحميد (كلهم شخص واحد) إلى الالتحاق بالتنظيم هو الآخر. لكنه هذه المرة لم يترك مدرسته وبيت أسرته في العاصمة البريطانية، بل ترك المستقبل الذي ينتظر خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وهو الذي اختارها بديلاً عن كلية الطب لانجذابه إلى نوعية الدراسة (وكلتاهما من كليات القمة في العرف الثقافي والتعليمي المصري) وشد الرحال للانضمام إلى "داعش".
في البدء كان "التطرف" مع تنظيم "أحرار ليبيا" عقب أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 في مصر واطمئنانه ربما بأن "الخلافة بدأت تتبلور، وهو ما طغى على نكهة ميدان التحرير بعد أسابيع قليلة. ثم استبدل التطرف في ليبيا إلى سوريا. ونجح وارتقى سلمه حتى أصبح ’أمير حدود داعش‘".
"نور" التطرف ونار المنصات
منصات الـ"سوشيال ميديا" المروجة للإرهاب والخلافة كانت "النور" الذي جذبه إلى الفكرة، و"مشايخ السلفية" الذين تنتشر أحاديثهم وخطبهم المتاحة بدقة زر على أي "كيبورد" كانوا الوقود الذي أشعل الفكرة وحولها إلى معتنق.
ما قاله "أمير حدود داعش" في حديث قبل أيام على قناة "القاهرة الوثائقية" الجديدة يقول كثيراً عن تقادم ارتباط ثالوث العوز والجهل والحرمان بالانجذاب إلى الأفكار المتطرفة والانضمام إلى الجماعات الراديكالية.
الجماعات الراديكالية ليست تنظيم "داعش" بأفرعه فقط وليست "القاعدة" وحدها وليست "طالبان" دون غيرها، بل إن "الجماعات الراديكالية" ليست حكراً على ثقافة بعينها أو تنحصر في دين واحد.
ولكن الواقع المؤسف والسائد منذ أعوام أن كلمة "راديكالية" والمفردات القريبة والشبيهة لها من "تطرف" و"تشدد"، إضافة إلى درجاتها المتصاعدة والمتطورة إلى "عنيفة" أو "مسلحة" أو "دموية" باتت لصيقة بالإسلام والمسلمين. وعلى رغم وجود جماعات راديكالية أخرى تعتنق أفكاراً دينية تنسب إلى أديان عدة، أو سياسية لا علاقة لها بالدين من الأساس، أو أيديولوجية غارقة في سمو العرق أو فوقية النوع أو غطرسة الانتماء، فإنها تظل محدودة، إن لم يكن عدداً فهي أثراً، وإن لم يكن كليهما، فشعبية وأيضاً "جاذبية".
جاذبية التطرف أمر معروف، حتى إن أنكره المثاليون أو تبرأت منه الملائكة أو لعنه رجال الدين والشرطة والقضاء والسياسة. عام 2014 كتب الممثل والكاتب والمخرج والمعلم الهولندي الشاب دانيال فان كلافيرن مسرحية تدور حول جمال الطفل الغاضب من العالم، لا سيما المجتمعات الغربية، فقرر أن يصنع قنبلة وهو لا يعلم على وجه الدقة كيف يستخدمها، أو إن كان سيستخدمها من الأصل، لكنه استمر في صنعها. وفي النهاية يتضح أن غضبه وبناء القنبلة ما هما إلا صرخة طلباً للمساعدة أو بحثاً عن شيء أو هوية ما ينتمي إليها. وبعد فترة كتب مسرحية أخرى بطلتها فتاة وذلك بعدما وجد أن أعداداً متزايدة من الفتيات والنساء في مجتمعات غربية ينضممن إلى "داعش" بحثاً عن "الخلافة".
بدأوا مثاليين وانتهوا إرهابيين
قال فان كلافيرن في ملتقى حول "صناعة الراديكالية" في برلين عام 2017 إنه تحدث إلى عدد من أفراد الشرطة الهولندية الذين تعاملوا مع الفتيات الهولنديات اللاتي سافرن من هولندا إلى سوريا بعدما انضممن إلى "داعش" وإن الغالبية أجمعت على أن هذا النوع من "التطرف" لم يبدأ بالدين، بل انتهى إليه. وذكر أحد أفراد الشرطة أن هؤلاء الفتيات كان يمكن أن ينضممن إلى جماعات أنصار البيئة الراديكالية، لكن المسألة كلها هي من قابلوا أولاً؟ أو من سعى إلى ضمهم قبل الآخر" بمعنى آخر، يبدأ بعض المتطرفين رحلتهم كمثاليين وينتهون إرهابيين بالغي التطرف.
وهناك من يرى أن بعضهم ممن "تطرف" وانضم إلى "داعش" بدأ رحلته مع التطرف بسبب الأحوال الجيوسياسية وأن كثيرين جذبتهم الراديكالية بفعل الأحداث في سوريا، إذ وجه بعضهم شعوره الفطري بكراهية الاستعمار والظلم إلى مساندة "المظلومين" في سوريا متصورين أن "داعش" وبقية الجماعات المتحاربة هناك تسعى من أجل نصرة المظلومين.
اندثار اليسار
ويبدو أن وجهة نظر سياسية اجتماعية تنتشر هذه الآونة بين الأوساط السياسية الأكاديمية والبحثية قوامها أن اندثار اليسار وحركات التحرر في العالم ترك فراغاً سياسياً وأيديولوجياً ملأته، أو ملأت جزءاً منه الجماعات المتطرفة.
لكن تبقى الفكرة المتطرفة متفردة في جاذبيتها متميزة في سحرها أخاذة في اختلافها ساخنة في نيرانها المشتعلة. اشتعال النار يحتاج إلى مادة قابلة للاشتعال وإلى مصدر للحرارة. المصدر هو الفكرة، فكرة التطرف. والمادة القابلة للاشتعال هي تركيبة من العوامل النفسية والشخصية. لكن يبدو أن هذه التركيبة لم تعد فقط منتشرة، بل أقرب ما تكون إلى امتلاك اليد العليا لدى الملايين.
صحيح أن هذه الملايين لا يدق جميعها على أبواب "داعش" وأقرانه، لكن مظاهر الحياة في مجتمعات عدة، لا سيما العربية منها، سواء في المنطقة العربية أو في دول المهجر تشير إلى أن الفكرة المتطرفة، لا سيما المتعلقة بالدين لها جاذبية خاصة.
الأكاديمي المتخصص في علم الاجتماع السياسي سعيد صادق يقول لـ"اندبندنت عربية" إن "الفكرة المتطرفة أكثر جاذبية من نظيرتها المعتدلة، خصوصاً حين تتوافق الأفكار أو تدق على أوتار إحباطات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية وتلمس عصب الغضب المتوطن لدى بعضهم، أو مزاج المهمشين أو الساعين إلى الشهرة، أو المتمسكين بعادات وتقاليد قديمة ولم يعد لها مجال أو منطق في العصر الحديث، أو من لا يعرفون من أمرهم سوى بيئة اجتماعية محافظة رافضة للتغيير".
كل هؤلاء يكونون أكثر انجذاباً إلى الفكرة المتطرفة، بل يتطورون ويرتقون سلم التطرف فمنهم من يبرر العنف اللفظي وكذلك الجسدي ويقدس العنف، ويعتبر ذلك أو يتم دفعه إلى الاعتقاد بأن العنف أسلوب حياة الأقوياء وسمة العظماء والسبيل الوحيد لتحقيق الحق والخير والجمال، مع الأخذ في الاعتبار أن هؤلاء يخضعون لعمليات غسل أدمغة وإعادة صياغة للمفردات ومعانيها فيصبح الحق هو حق الجماعة، والخير هو الخير الذي يحدده أميرها أو شيخها، والجمال هو جمال الموت واللون الأسود والبؤس والشقاء باعتبار أن الدنيا فانية وأنه كلما أحب الإنسان الموت وكره الحياة كلما كان جميلاً.
"شجاعة" التطرف
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعتبر صادق أن هذه الأفكار لا تحتاج إلى مجهود أو شجاعة أو جرأة كتلك التي يحتاج إليها أولئك الواقفون على الضفة المقابلة، المناقضة للأفكار المتطرفة ولثقافة العنف التي تغلغلت حتى أصبحت عادات وتقاليد عدد من المجتمعات، أو مجموعات في داخل المجتمعات.
يصف صادق الشخص الذي ينجذب للأفكار المتطرفة بأنه من يعيش في خواء فكري أو لديه وقت فراغ طويل أو يبحث عن مكانة تحت الشمس أو شهرة أو زعامة أو توليفة من كل ما سبق. والفكر المتطرف يمنحه الوسيلة لتحقيق ذلك، بل يمنحه رداء القاضي في محكمة التفتيش حيث يصبح حقه الأصيل باعتباره متديناً جداً، أن يتنمر على الآخرين ويفرض عليهم أحكامه ويوصمهم بوصمات التكفير والزندقة وإشاعة الفسق، مما يمنحه مكانة سامية في المجتمع أو المجموعة التي تشبهه. ويصبح هذا "القاضي" (المتدين) قدوة أو نموذجاً يحتذي به الآخرون ويتمنى كثيرون أن يصبحوا مثله، مما يضمن استمرار دوران وإغلاق دائرة الفكر المتطرف.
دائرة التطرف المغلقة
دائرة الفكر المتطرف تتميز كذلك بالخلط الواضح والمقصود بين حرية الرأي وحرية السب. وحين يرتبط السب بسب "الكفار" أو "الداعين إلى فصل الدين عن السياسة" أو "العلمانية باعتبارها كفراً وخروجاً على الدين"، فإنه يصبح سباً حميداً عزيزاً عظيماً محموداً.
يقول صادق إن الأفكار المتطرفة أضفت صفة القداسة على السباب وجعلت من التخلف الفكري والثقافي تميزاً وتفرداً وغاية يسعى إليها "المتطرفون" وفي قولهم "المتدينون". كما تم تصوير وتسويق التطرف شعبياً على أنه تدين ودفاع عن الدين ضد أعداء الدين، وهو عنصر إضافي من عناصر جاذبية التطرف للآخرين. فهل هناك ما هو أفضل من اعتناق فكرة تساعد على حماية الدين ودحض أعدائه؟!
ترتبط الفكرة المتطرفة بالعاطفة عكس الفكرة المعتدلة أو المنطقية التي تعتمد على دلالات عقلانية وتفكير نقدي، وكلاهما بحسب صادق، لا وجود لهما في المجتمعات أو الجماعات أو الثقافات التي تميل إلى التطرف، لا سيما تلك التي تتصور أنها متدينة ويضيف أن العقلانية والتفكير النقدي هما ألد أعداء الفكر المتطرف.
توصيل التطرف إلى المنازل
من جهة أخرى وجدت الأفكار المتطرفة أو المتشددة في الأثير العنكبوتي أرضاً خصبة وطقساً ملائماً وأجواء رائعة لنشر الفكرة. ملايين القابعين خلف الشاشات في غرف نومهم أو مدارسهم أو جامعاتهم أو في المقاهي أو مقار أعمالهم يجدون ملايين الفيديوهات والتدوينات والمقالات والخطب والقصص التي تدغدغ مشاعر كل منهم بطريقة ما. ببساطة أصبحت هناك خدمة توصيل التطرف إلى المنازل.
لم تعد الأفكار المتطرفة الملجأ والملاذ للفقير المتضور عوزاً وجوعاً وحاجة، كما لم تعد الفجوة التي يتسلل منها أشرار العالم لاستغلال الأميين والمقهورين. الفكرة المتطرفة اكتسبت رونقاً وجاذبية أشبه بـ"فلاتر" "تيك توك" ومؤثرات "فيسبوك".
يقول صادق إن "الإنترنت يمنح كل أصحاب الأفكار المتطرفة، سواء كانوا أفراداً هواة أو جماعات محترفة، فرصة أكبر في الانتشار. وأوجدت لكل مستخدم ما يروي ظمأه أو يحقق غاية يفتقدها".
يضيف، "للبسطاء هناك محتوى بسيط من حيث اللغة والصور والفيديوهات. وللمتعلمين، ولا أقول المثقفين، هناك لغة ترضي غرورهم وتمنحهم الشعور بأن متعلمين مثلهم لديهم هدف عظيم وغاية نبيلة يقدمونها إليهم. وللضعفاء محتوى يناسب ضعفهم بحيث يملأ فجوة العجز ويقنعهم بأنهم باعتناقهم الفكرة المقدمة لهم سيتحولون من خانة الضعف إلى القوة والبأس، وهلم جرا فالبضاعة المتطرفة يسهل تشكيلها لتناسب الحاجات والفجوات".
يتابع، "المنصات العنكبوتية ومحتواها يحققان شغف كثيرين بالتنمر بآخرين ممن لا يشبهونهم أو يتفوقون عليهم، وتتعاظم القيمة حين تكون الفكرة المتطرفة دينية لأنها تمنح هؤلاء إحساساً كاذباً بأن التنمر إنما هو ’جهاد‘ وإعلاء لكلمته وتحقيقاً لرسالته. وهذا شعور يمنحهم الإحساس بالفوقية ما يبقي على الفكرة المتطرفة حية ترزق، تورث من أب لابن ومن جار لجاره ومن معلم لتلاميذه ومن جيل لآخر حتى تتغير سمة المجتمع بأكمله ويصبح مائلاً إلى التشدد والتطرف بدرجات متفاوتة".
التطرف اللاعنيف
وعلى رغم تراوح التطرف بين العنيف وغيره، إلا أنه كفكرة أشبه بالخلية السرطانية، فما إن تصيب الجسد حتى تصبح عرضة للتكاثر والتمدد أو البقاء في حيز الفكر فقط. كما أن الفكرة المتطرفة معدية بمعنى أنها قابلة للانتقال من شخص إلى آخر، لا سيما بعدما يصبح التطرف أسلوب حياة.
الغريب أن منظرين وأكاديميين في علوم السياسة والاجتماع والنفس في دول غربية عدة يميلون إلى التركيز على الفرق بين التطرف الذي ينتهج العنف والتطرف "السلمي"، بل هناك من يثني على الراديكالية السياسية المتطرفة التي يقولون إنها كانت ضمن أسباب تقدم المجتمعات الديمقراطية سواء في الغرب أو غيره. وأبرز أسماء الراديكاليين المطروحة في هذا الصدد مارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا وغاندي. لماذا؟ لأن هؤلاء تجرأوا على اختراق أنماط فكر وعادات وثقافات راسخة عبر النقد الجذري، مما أدى في نهاية المطاف إلى إحداث تغيرات إيجابية في هذه المجتمعات وغيرها التي رأت في هذا النوع من الراديكالية أمراً محموداً من باب "الغاية تبرر الوسيلة".
سيكولوجية الجماعات المتطرفة
تبقى الفكرة المتطرفة عربياً، وفي أقوال أخرى إسلامياً، ذات طبيعة خاصة. يرى الأكاديمي المتخصص في علم النفس بالجامعة الأميركية في القاهرة هاني هنري، له دراسات حول "سيكولوجية الجماعات الإرهابية"، أن جذور الجماعات المتطرفة والمسلحة مثل تنظيم "داعش" عادة تعود لفراغ السلطة أو غياب الحكومة أو سلطة مركزية مثل ما جرى في العراق وسوريا، حيث قام "داعش" بملء هذا الفراغ، ومن ثم القيام بدور الحكومة. استولى التنظيم على السلطة وقام مقام الحكومة واستمال الشباب وأعاد خلق روح الجماعة التي يسعى البشر إليها بشكل عام.
أما كيف تؤثر تلك الجماعات في العقول، فهذا يتم عبر عمليات شبيهة بغسيل المخ، حسبما يؤكد هنري، لا سيما بين الفئات المهمشة، وتساعدهم على اكتساب هوية جديدة.
يضيف، "بعض هذه الجماعات يستغل تكاسل الناس عن التفكير بشكل منطقي، فتبادر بإعطاء هؤلاء الكسالى إجابات سهلة وشعارات فارغة وحلول مبسطة للأمور كافة. وتدعي أن لديها الإجابة عن كل صغيرة وكبيرة، مما يجعلها أيقونة فكرية".
يشير هنري إلى أن هذه الجماعات بينها "داعش" لا تكتفي بجذب وتجنيد الفئات المهمشة فحسب، وإنما تستهدف المنتمين إلى الفئات المتميزة فتلعب على وتر فكرة متطرفة ولكن متميزة تجد صدى لدى هؤلاء. هؤلاء من أصحاب المكانات المتميزة في المجتمع والذين ربما يعانون فراغاً من نوع آخر له علاقة بعلاقاتهم الاجتماعية أو قوة تأثيرهم بين الأصدقاء أو في الأسرة وغيرها، فيجدون في الفكرة المتطرفة المتميزة ملاذاً لهم. ويقول هنري إن جزءاً من التميز في فكر "داعش" مثلاً الذي يمنحه جاذبية شديدة هو أن المنتمين للتنظيم يتمتعون بإخضاع الآخرين وإذلالهم وإهانتهم، مما يمنحهم شعوراً بالقوة والأهمية.
حزمة مميزات
ويلخص هنري جاذبية فكرة التطرف مستخدماً "داعش" نموذجاً بقوله، "حين تصبح عضواً في هذه الجماعة تحصل على حزمة مميزات. والجماعة المتطرفة تحمل حزم مميزات جاذبة منها ما يناسب المهمشين ومنها ما يدغدغ مشاعر المتميزين. المهم أنها تستغل نقاط الضعف وكذلك الأنانية لدى الجميع".
وعن الصورة الذهنية التي تصنعها الجماعة صاحبة ومبتكرة الفكر المتطرف، يقول هنري "الصورة هي جماعة شجاعة، تروع الناس من أجل الله والدين، وتخلق شعوراً بالانتماء لدى أعضائها، وهو ليس انتماء وطنياً عادياً، بل إنه انتماء يقوم على أساس الفوقية والتميز لمجرد الانتماء لهذه الفكرة ويبدعون في جعل الفكرة وثيقة الصلة بالله والدين. غاية القول، هم يقولون للعالم، نحن على حق ومختلفون ومتميزون، وسننال منكم جميعاً".
أما عواقب الارتماء في أحضان الفكرة المتطرفة، فإن الأمر بالغ التعقيد ويختلف من شخص لآخر. وشغلت أسئلة حول "إنسانية" المتطرفين، لا سيما الذين يعتنقون العنف وهل يفقدون إنسانيتهم للأبد أو موقتاً، لكن الإجابات ليست نهائية أو شافية.
يقول هنري إن البشر خليط من الطيبين بالفطرة وآخرين تحركهم غريزة تميل إلى التدمير، سواء النفس أو الغير أو كليهما. "وقد سمح من سلموا أنفسهم إلى الأفكار المتطرفة المعتنقة العنف بأن تتمكن منهم الغرائز التدميرية، فتغمر حياتهم وتستحوذ عليها وتصبح أسلوب حياة. ويتمكنون من الاستمرار، بل وتوريث الأفكار وأسلوب الحياة بفضل القدرة على تشويه تفسير النصوص الدينية وجعلها داعية ومباركة ومطالبة بهذا التدمير بغرض إعلاء شأن الدين".
ولأن التطرف فكرة والفكرة لا تموت، فإن خفوت نجم "داعش" هنا أو انكماش دور "القاعدة" هناك أو تقهقر جماعة الإخوان المسلمين هنا وهناك لا يعني أبداً أن الفكرة المتطرفة خفتت أو انكمشت أو تقهقرت، بل الأرجح أنها في حال كمون أو راحة لشحن الطاقة أو استعداد لطرح نفسها مجدداً برداء مغاير وجلباب جديد بحسب إيقاع العصر وأذواق الجماهير.