ملخص
مع آثار الأزمات كان من الضروري أن يسعى #الاتحاد_الأفريقي إلى تطوير هويته الاقتصادية ويفتح المجال أمام التجارة الإقليمية
بدأ الاتحاد الأفريقي منذ أعوام يعيد النظر في نظرية التكامل الإقليمي بكل عناصرها، لما وقع على قارة أفريقيا من تأثيرات مباشرة فرضها النظام العالمي الجديد وتغييرات داخلية أجبرت بلدانها على تحديد آفاقها الاستراتيجية ونماذج النمو فيها، خصوصاً مع تزايد أهمية التجارة البينية، فمنذ استقلالها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، سعت "منظمة الوحدة الأفريقية" و"الاتحاد الأفريقي" بعد ذلك إلى المضي قدماً في تحقيق فكرة "الوحدة الأفريقية" عن طريق الاعتماد المتبادل والتكامل الاقتصادي.
وعند انطلاق القمة الـ36 للاتحاد الأفريقي في فبراير (شباط) في مقر الاتحاد بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، كانت قضايا مكافحة تغير المناخ والتغلب على تحديات الأمن الغذائي على جدول أعمال القمة، ويتقدم عليها التسريع في تنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية (AFCFTA)، إضافة إلى حضور القضايا السياسية والأمنية. ومع هذه التحركات، لم تغفل التحديات التي تحيط بتعزيز التجارة القارية وتجعل تنفيذها الفعلي ونجاحها يعتمدان على ما إذا كان بإمكانها تحقيق المصالح المتعددة الوطنية والإقليمية والقارية للدول الأعضاء.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يناقش فيها الاتحاد الأفريقي مسألة التجارة الحرة ووضع خطط ومعايير تنظيمية لتفعيل الاتفاق، لكن فضلاً عن الأزمات الداخلية هناك الأزمات العالمية التي دوماً ما تلقي بثقلها وآثارها على القارة إلى الدرجة التي لم تستطع معها تحقيق أولوياتها في التنمية لأنها محكومة بدوامة قضايا سياسية واقتصادية تؤثر في هيكل منظماتها وفي استجابتها لمواجهة التحديات والتعامل مع آثار الأزمات منذ تفشي جائحة كورونا، ثم الحرب الأوكرانية.
مع آثار الأزمات كان من الضروري أن يسعى الاتحاد الأفريقي إلى تطوير هويته الاقتصادية ويفتح المجال أمام التجارة الإقليمية بدعم من الاستثمارات الخارجية وتهيئة المناخ لذلك، وهو مناخ محكوم بأمور كثيرة منها التنافس المتصاعد بين القوى الدولية على أفريقيا ووجود منطقة التجارة الحرة الأفريقية وسط كتل اقتصادية دولية متنافسة، ربما تتحالف معها وتقدم لها كثيراً وكتل أخرى "فوقية" ستخصم منها كثيراً أيضاً.
محرك النمو
ينظر إلى منطقة التجارة الحرة على أنها محرك حاسم للنمو الاقتصادي والتصنيع والتنمية المستدامة، إذ تمثل إحدى طرق جذب الاستثمارات من خلال تقديم مجموعة من الحوافز والتسهيلات والمزايا الاستثمارية، ومنذ بداية التعامل التجاري في العصور القديمة، برزت فكرة "المنطقة الحرة" بطريقة بدائية ثم تطورت وبدأت بشكلها الرسمي في عهد الإمبراطورية الرومانية من خلال الموقع الجغرافي المميز الرابط بين الشرق والغرب لجزيرة ديلوس ببحر إيجه وتطبيق فكرة الشحن والتخزين وإعادة التصدير للبضائع العابرة للحدود من دون قيود إدارية أو تشريعية.
وعندما جاء الاستعمار استطاع أن يحقق مكاسب ضخمة من الموانئ في المستعمرات، لكن لم يتحقق شرط استفادة كل الأطراف، مما جعل تحريك المدخل الإنتاجي الذي يرتكز على سوق كبيرة يصب لمصلحة طرف واحد أو أطراف متحالفة على تقاسم المستعمرات. وتطورت المناطق الحرة إلى شكلها الحديث في الستينيات بعد استقلال معظم الدول ومنها الدول الأفريقية، لكن لم يترك الاستعمار أسساً وآليات يمكن أن تقوم عليها منطقة التجارة الحرة، وما كان على القارة الأفريقية إلا أن تبدأ من الصفر.
سوق عملاقة
كانت "منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية" التي أطلقت في الدورة الاستثنائية الـ12 لمؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي، ووقع اتفاقها في نيامي بالنيجر في 7 يوليو (تموز) 2019 أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، إذ تضم 55 دولة من الاتحاد الأفريقي وثماني مجموعات اقتصادية إقليمية. ودخلت حيز التنفيذ في 30 مايو (أيار) 2019 بعد أن أودعت 44 دولة أفريقية من إجمالي 55 صكوك تصديقها بعد سلسلة من الارتباطات القارية المستمرة الممتدة منذ عام 2012. وتتمثل مهمتها الأساسية في إنشاء سوق قارية واحدة يبلغ عدد سكانها حوالى 1.3 مليار نسمة كأكبر سوق في العالم من حيث عدد السكان وناتج محلي إجمالي يبلغ حوالى 3.4 تريليون دولار أميركي وإزالة الحواجز التجارية وتعزيز التجارة بين البلدان الأفريقية.
ومن أجل النهوض بالتجارة في الإنتاج ذي القيمة المضافة عبر جميع قطاعات الخدمات في الاقتصاد الأفريقي، ستسهم منطقة التجارة الحرة في إنشاء سلاسل القيمة الإقليمية في القارة، مما يتيح الاستثمار وخلق فرص العمل. وتستهدف الوصول بالتبادل التجاري القاري إلى 60 في المئة بحلول عام 2034 من خلال إلغاء متدرج لجميع التعريفات الجمركية. كما تعد أحد المشاريع الرئيسة لأجندة 2063 تحت عنوان "أفريقيا التي نريدها، استراتيجية التنمية طويلة الأجل للاتحاد الأفريقي لتحويل القارة إلى قوة عالمية".
لكن في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وقعت 15 دولة آسيوية على "اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة" في العاصمة الفيتنامية هانوي لتحتل المرتبة الأولى كأكبر منطقة للتجارة الحرة متعددة الأطراف في العالم، متقدمة على "منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية"، إذ إن الاتفاق الآسيوي يتمتع بزخم كبير لتحرير التجارة والاستثمار ويتوقع أن يسهم في بناء سوق عملاقة تضم أكثر من 2.3 مليار شخص وتمثل نحو 30 في المئة من حجم الناتج المحلي العالمي.
تعاون إقليمي
على رغم توافر السياسات الإقليمية والقارية التي تهدف إلى تسهيل زيادة التجارة داخل القارة، إلا أن التعامل التجاري لأفريقيا مع مناطق أخرى في العالم، خصوصاً الصين، أكبر مما يتم مع الدول الأعضاء. ولا تزال حصة أفريقيا في إجمالي التجارة العالمية منخفضة للغاية، إذ لا تتعدى ثلاثة في المئة، مما منعها من تحقيق إمكاناتها الاقتصادية الكاملة، وهو وضع لا يتناسب مع الموارد الهائلة التي تزخر بها أفريقيا من النفط والذهب والماس والمعادن الأخرى والمنتجات الزراعية بأنواعها. وهنا يتضح التناقض وسببه أن البلدان الأفريقية درجت على بيع المواد الخام وشراء السلع المصنعة.
كما أن ذلك لا يتناسب مع تاريخ التكامل الأفريقي، فمعاهدة أبوجا التي دخلت حيز التنفيذ عام 1991 وانضم إليها أعضاء منظمة الوحدة الأفريقية، دعت إلى نهج تدريجي للتكامل بلغ ذروته في إنشاء "المجموعة الاقتصادية الأفريقية"، وكانت هي نواة "المنطقة الأفريقية الحرة"، فبدأت بإلغاء التعريفات الجمركية على السلع المتداولة داخل المجتمعات الإقليمية المختلفة، ثم أنشأت مجموعات اقتصادية مناطقية في شرق أفريقيا ووسطها وغربها وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونظراً إلى الأخطار المعقدة التي تحيط بالتعاون الإقليمي الرسمي في تعزيز مرونة سلاسل التوريد ودعم النمو وتقليل الحواجز أمام التجارة والاستثمار وتعزيز المنافسة وضمان عمل الأسواق بشكل عادل وفاعل من خلال قواعد واضحة يمكن التنبؤ بها، فإن حاجة المجتمعات الأفريقية أنعشت السوق السوداء التي وفرت جزءاً من الدخل للفقراء، ولو بطريقة غير عادلة، لكن ثمن هذا هو أنه أصبح من الصعب تحديد الفرق بين الأعمال التجارية الرسمية وغير الرسمية.
وعلى رغم المصالح الإقليمية التي جعلت غالبية الدول الأفريقية توقع على الاتفاق، إلا أن التكامل الاقتصادي الإقليمي لم يسفر عن النتائج المرجوة حتى الآن كآلية لتعزيز التجارة الشاملة التي تتبنى مبادرات التكامل الإقليمي الاقتصادي وتوفر إمكانية تعزيز التنمية الاقتصادية الإقليمية الشاملة.
نظرة متفائلة
بحسب تقرير أصدره البنك الدولي في يونيو (حزيران) 2022، "إذا تم تنفيذ الاتفاق التجاري لمنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية تنفيذاً كاملاً للمواءمة بين قواعد الاستثمار والمنافسة، فإنه ربما يؤدي إلى زيادة الدخول في المنطقة نحو تسعة في المئة إلى 571 مليار دولار. ويمكن أيضاً أن يؤدي إلى خلق قرابة 18 مليون وظيفة جديدة أعلى أجراً وأفضل جودة، خصوصاً للنساء والعمال المهرة. وبحلول عام 2035 ربما تساعد الوظائف الناجمة عن الاتفاق ونمو الدخول حوالى 50 مليون شخص على الخروج من دائرة الفقر المدقع".
ومن المتوقع أن تحصل بعض الدول الأعضاء الموقعة على الاتفاق، خصوصاً النفطية والمستقرة نسبياً، على مكاسب أكثر من غيرها من الدول التي تنشط فيها النزاعات والحروب الأهلية، لكن الأمر قد يستغرق بعض الوقت قبل أن ترى أية دولة الفوائد التي ستكون رهينة بشروط معينة.
ومن المكاسب المتوقعة، أولاً، سيساعد الاتفاق على مواجهة أفريقيا لسياسات الحمائية والانعزالية التي تنتهجها بعض الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، من خلال تعزيز وجودها في أفريقيا، كما يمكنها توظيف تنافس القوى الدولية وفي مقدمتها الصين التي أصبحت أكبر شريك تجاري للقارة.
ثانياً، يمثل التصنيع حوالى 10 في المئة فقط من إجمالي الناتج المحلي في أفريقيا في المتوسط بحسب إحصاءات عام 2018، وهي نسبة أقل بكثير من تلك التي تمثلها المناطق النامية الأخرى. ويمكن للتنفيذ العملي لاتفاق التجارة الحرة القارية الأفريقية أن يقلل من هذه الفجوة بأن يقود قطاع التصنيع في الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى خلق مزيد من الوظائف ذات الأجور الجيدة، بخاصة للشباب من خلال تعزيز التصنيع وخلق فرص العمل والاستثمار، بالتالي تعزيز القدرة التنافسية لأفريقيا على المدى المتوسط إلى الطويل، مما يؤدي إلى التخفيف من حدة الفقر.
ثالثاً، ستسمح منطقة التجارة الحرة للشركات المملوكة لأفريقيا بدخول أسواق جديدة، مما يؤدي إلى توسيع قاعدة عملائهم بمنتجات وخدمات جديدة وستجعل الاستثمار في الابتكار والتكنولوجيا قابلاً للتطبيق.
تحديات ماثلة
هذه النظرة المتفائلة تحيط بها عقبات كثيرة متعلقة بالإجراءات التنفيذية وتخضع في مجملها للأزمات العالمية، فضلاً عن معاناة دول القارة مديونية عالية وقروضاً طويلة الأجل تستنزف الموارد. وبالنظر إلى أن دول القارة لم تتوصل إلى الاتفاق في شأن جدول خفض الرسوم الجمركية بعد الاتفاق الذي وقعته كل دول الاتحاد الأفريقي باستثناء إريتريا، فإن الإصلاح الاقتصادي والسياسي سيكون أساس مواجهة التحديات التي تعمق المخاوف من خسائر كبيرة وعقبات رئيسة أمام تكامل القارة.
إذاً تقف مجموعة معقدة من القيود الجمركية وغير الجمركية التي تبطئ التجارة في مقدمة التحديات على أرضية فقيرة وبنية تحتية متهالكة. وفي تصريح لرئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي بختام مشاورات القمة الأخيرة، قال "هناك 600 مليون أفريقي لا يحصلون على الكهرباء".
كما يتمثل أحد التحديات الرئيسة في عدم مواءمة الاقتصادات المتباينة في مستويات التنمية بين الدول الأفريقية الغنية والأخرى التي ترزح تحت وطأة الفقر، ومثال لذلك أن عدداً من الأسواق الأفريقية الناشئة هي اقتصادات تقليدية تعتمد على الزراعة العائلية الصغيرة ولا يمكنها التنافس مع الشركات الزراعية الكبيرة في البلدان الأفريقية ذات الدخل المرتفع.
أما من التحديات التي اتخذت بعداً دولياً، فهو أن لا توجد لدى بلدان أفريقية عدة قوانين معمول بها تحمي براءات الاختراع، بحيث تتعرض العمليات الجديدة وأفكار الشركات للسرقة، وتجدر الإشارة إلى أن بروتوكول حقوق الملكية الفكرية لمنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية "يتيح للدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي الفرصة لإعطاء الأولوية للمجالات التي تملك ميزة نسبية لدى البلدان الأفريقية في صك دولي عن الملكية الفكرية. كما أنه يمكن استخدامه لتعزيز قواعد الملكية الفكرية ومعاييرها التي تكيف لتناسب مستوى التصنيع في القارة وتتماشى مع أهداف منطقة التجارة الحرة".
وفي هذ الشأن ذكر مارومو نكومو من جامعة كيب تاون في مجلة المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) "هناك منذ أمد طويل خلاف في وجهات النظر بين البلدان النامية ومختلف البلدان الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية حول الميدان الاقتصادي بمنظمة التجارة العالمية في شأن التنوع البيولوجي والمعارف التقليدية وإصدار البراءات لأشكال الحياة، وهو ما يسمى ’الخلاف الثلاثي‘. وهذا مثال واحد للمفاوضات متعددة الأطراف في شأن الملكية الفكرية التي لم تتمكن من معالجة شواغل البلدان الأفريقية".
استعمار حديث
إذا عولجت هذه التحديات، فإن تنفيذ خطط "منطقة التجارة الحرة" ينطوي على إمكانات كبيرة من حيث البيئة الواعدة كمحفز لتحقيق الانتعاش الاقتصادي في أفريقيا وفق التكامل الاقتصادي الإقليمي والتحول الهيكلي لاقتصاد القارة. لكن ستتأثر بعض الدول ذات الظروف الخاصة من ألا يشملها ذلك ومنها المعلقة عضويتها في الاتحاد الأفريقي وهي دول مالي وغينيا والسودان وبوركينا فاسو.
عموماً، هذا المشروع لا يخلو من توقعات تدخل بعض القوى الدولية مثل الولايات المتحدة لإعاقة إتمام تشكيل "المنطقة الحرة" عبر شروط تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان مرتبطة بتعاونها الاقتصادي مثل فرض التعاون مع بعض الدول الأعضاء وعدم التعاون مع أخرى. ولم يخفت بعد صوت الاتجاه الذي يرى أن التاريخ الاستعماري لا يزال مؤثراً في سياسات التجارة الأفريقية الحالية بين الدول، مما جعل القارة ككل "تبدو فاشلة في إنشاء أنماط طويلة الأمد للسلطة والقواعد التجارية واللوائح التي من شأنها أن تسمح للتجارة ليس فقط بحاجات أفريقيا لكن لضمان أن تحكمها أفريقيا أيضاً".
وعليه فإن هذا التيار يرى أن التجارة الأفريقية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقوى الاستعمارية السابقة التي تحولت من استعمار سياسي شامل إلى استعمار اقتصادي حديث وأن إعادة النظر في أنماط التجارة في القارة ستحررها من هذه القوى.