ملخص
معرض استعادي في #الدار_البيضاء يحتفي بالعلاقة بين #الفن والبعد الروحي ولوحات خالية من صخب #الألوان
بعد خمسة عقود من الاشتغال البصري وقف التشكيلي المغربي أحمد جاريد في ما يشبه قراءة تأملية في مساره الفني الزاخر. لذلك اختار أن يقيم معرضاً استعادياً يضم 100 لوحة تشغل حيزاً زمنياً مهماً من تجربته الفنية التي انطلقت مع بداية السبعينيات. يحمل المعرض الاستعادي الذي تنظمه مؤسسة المدى في دار الفنون - الدار البيضاء عنوان "الفن والبعد الروحي"، ويستمر حتى 29 أبريل (نيسان) المقبل. وانسجاماً مع الشعار الذي يحمله معرض جاريد اختار أن تكون الأعمال المعروضة خالية من كل مكون كيماوي، لذلك انحاز إلى لوحاته التي تشكلت من مستخلصات طبيعية ونباتية ومعدنية، فضلاً عن مسحوق الرخام وقشور الموز والرمان، إضافة إلى الشاي والقهوة. ولعل هذه المواد الطبيعية هي الأكثر استجابة للحساسية البصرية التي يبحث عنها الفنان المغربي. ويسعى جاريد عبر هذه التظاهرة الفنية إلى الاحتفاء بالمشاعر الداخلية بدل الانتصار لمظاهر الطبيعة الخارجية. يقول جاريد في شهادة ذاتية عن تجربته: "أرسم موضوعاً تجريدياً ينهل من العمق الروحي أكثر مما يلتفت إلى العالم الخارجي، وحتى إذا ما حصل التفات للواقع الخارجي فليس إلا بغرض تحويله لفائدة هذا البعد الصوفي موضوعاً ولوناً".
تجمع أعمال جاريد المعروضة بدار الفنون بالدار البيضاء بين الواقعية والتجريد، غير أن ثمة أواصر كثيرة تربط بينها. فحالات السكينة والصفاء التي تحملها اللوحات التجريدية تنعكس بشكل لافت على قسمات الوجوه في الأعمال التشخيصية.
قد تكون تجليات الصفاء في أعمال جاريد ترجمة لرغبته الدائمة في التخلص مما يسميه "أوساخ الطفولة". لقد أتاحت له حياة الفقر التي عاشها في صغره الانخراط في تجارب عيش تفتقد إلى النظافة، بالتالي قد يكون توسّل الفن لمحو أدران الماضي.
عاد التشكيلي المغربي إلى تاريخ التصوف العربي والإسلامي، ليستلهم منه روح أعماله المقترحة في معرض "الفن والبعد الروحي". ويرى الشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري أن التدفق الصوفي في أعمال جاريد ما هو إلا طريقة فنية للاقتراب من هشاشة العالم.
راهن أحمد جاريد على تحويل الخيال الصوفي لابن عربي والحلاج والنفري والخيام وغيرهم من الرموز الروحية إلى مادة بصرية، لقد سعى إلى نقل حالات الهيام والتيه والوجد والتشعبات الروحية إلى لوحاته. وإذا كان قد ركز على اللون الأسود في بداياته الفنية من أجل تشكيل تلك الأحوال الروحية، فقد اختار لاحقاً أن يعبّر عن الحالات نفسها، لكن عبر جعل اللون الأبيض هو المهيمن والطاغي على منجزاته البصرية بديلاً للون الأسود.
فلسفة اللون الأبيض
ليس البياض عند أحمد جاريد لوناً يؤثث لوحاته ويصنع معانيها، بل هو فلسفة تنبع من مرجعيته القرائية الشاسعة وجنوحه الروحي، وتمتد إلى أسلوب عيشه. فالمعروف عنه هو حرصه على ارتداء ملابس بيضاء أثناء الدخول إلى ورشته التي يهيمن عليها هي الأخرى اللون الأبيض، إنْ على مستوى الجدران أو السقف، كأنما يريد أن ينتقل هذا البياض المحيط به إلى الأعمال التي تتخلّق أمامه.
في أعماله المعروضة بدار الفنون تخلى الفنان المغربي عن الألوان باعتبارها ثرثرة، وركز على الأبيض بما هو رمز للزهد والتخلي، تناغماً مع حالات الارتقاء الصوفي التي تتطلب قدراً كبيراً من النقاء والتخلص من المادة.
ثمة مسحة من الهدوء والطمأنينة تهيمن على الوجوه التي شكّلها جاريد في أعماله، وتركيز بالمقابل على فئتين عمريتين: الطفولة والشيخوخة، كأن الأبيض هو الاستعارة اللونية للبراءة من جهة وللسكينة من جهة أخرى. فالإنسان يأتي إلى العالم متخففاً من كل الأثقال المادية، ثم ما يلبث أن تتعكر يداه بأدران الحياة اليومية في مرحلتي الشباب والكهولة، لكنه غالباً ما يعود إلى بياضه في مرحلة الشيخوخة، ليغادر العالم متخلياً عن كل الأوهام التي شغل بها حياته. هذه الروح الطهرانية تحلق باستمرار في أعمال أحمد جاريد، ويحس المتأمل في لوحاته كما لو أنه يرفع نداءً خفيضاً من أجل عودة الإنسان إلى الحالة الرحمية، حيث الصفاء والانقطاع عن كل الأساليب والأشكال المكدرة لهذا الصفاء.
لقد كان اللون الأبيض رمزاً للنقاء في مختلف الثقافات الدينية. فملابس كهنة مصر القديمة كانت بيضاء، مثلما سيكون الأبيض لاحقاً اللون الرسمي لملابس الرهبان المسيحيين، ورجال الدين في الشنتو اليابانية، وهنود البراهمة، وهو أيضاً لون ملابس الإحرام عند المسلمين. إن الدلالات الرمزية للأبيض في ثقافات الشعوب متقاربة، فعند الرومان كان هذا اللون دليلاً على المواطنة، أما في الثقافة الحديثة فهو يرمز، فضلاً عن النقاء والطهارة، إلى البراءة أحياناً، والسلام والسكينة أحياناً أخرى، ويكون أيضاً رمزاً دالاً على غياب المادة. هذه الدلالات حاضرة في أعمال أحمد جاريد المعروضة في دار الفنون، إنّ الأبيض بالنسبة إليه لون روحاني، وهو الأقدر على التعبير عن النزعة الطهرانية لدى المتصوفين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن البعد الروحي في أعمال جاريد ليس سمة جديدة لمنجزه، ولا ينحو إلى أن يكون لمسة جمالية فحسب، بل هو إيمان عتيق لدى الفنان، منذ أعماله الأولى في السبعينيات، وما المعرض الجديد إلا ترسيخ لهذا الإيمان. لقد سبق لجاريد أن صرّح قبل أربعة عقود ونيف بأن الرسم وسيلة لإنقاذ العالم، لم يكن هذا التصريح تناغماً مع أحلام السبعينيات فحسب، بل كان قناعة ظلت راسخة لديه على مدار عقود. إن وظيفة الفنان بالنسبة إليه هي التنبيه الدائم إلى خطورة المادة على الجانب الروحي للإنسان، ثمة نداءات متكررة لديه بضرورة حفاظ الإنسان المعاصر على إنسانيته. هذه النداءات تحملها لوحاته وكتاباته وتصريحاته، وما نصوصه الشعرية والسردية التي يكتبها من حين لآخر إلا امتداد حرفي لرسائله البصرية.