ملخص
تتميّز مسرحية "رحيل الفراشات" بعودة الممثّلة اللبنانيّة #زينة_ملكي إلى الأضواء بعد عشرين سنة من الغياب
يقدّم شادي الهبر مسرحيّة "رحيل الفراشات"، نصّ الكاتب المسرحيّ المتميز ديمتري ملكي وإنتاج "مسرح شغل بيت". ويتميّز هذا العمل بكونه يعيد إلى عالم التمثيل الممثّلة اللبنانيّة القديرة زينة ملكي التي تعود إلى الأضواء بعد عشرين سنة من الغياب. تؤدّي ملكي إلى جانب الممثّلة أُلفت خطّار مسرحيّة قائمة على ثنائيّة متضادّة بين شقيقتين اثنتين، إحداهما هادئة مدلّلة خجول، والأخرى قويّة مستفزّة متهوّرة، حتى لتصبح خشبة المسرح نوعاً من كرسي اعتراف، تحاسب فيه كلّ شقيقة الشقيقة الأخرى، وبطريقة مبطّنة تحاسب الزمن والطفولة والمجتمع وذاتها، ليبقى العنوان لغزًا مفتوحًا قابلاً لأيّ تأويل ولأيّ رمزيّة. فمن هي الفراشات؟ ولماذا ترحل؟ وإلى أين ترحل؟
صراع بين الرذيلة والفضيلة
تبدأ مسرحيّة "رحيل الفراشات" بعتمة دافئة وصوت دفّ (عزف أشرف الحسيني) يطرق كطرقات القدر أو طرقات العمر، لتنطلق من وسط الخشبة ضحكة ماجنة صاخبة يكتشف الجمهور أنّها صادرة عن امرأة ذات شعر أحمر مستلقية في حوض للاستحمام. وهذه المرأة ذات الشعر الأحمر ليست وحدها. هناك قرينة لها ذات شعر أسود هادئة صامتة تفتتح حديثها بعودة إلى ذكرى لها في الكنيسة.
تروح سبحة الذكريات تكرّ، بين صاحبة الشعر الأحمر القويّة الشهوانيّة القاسية الساخرة العابثة، وصاحبة الشعر الأسود المنتظرة الخائفة الجبانة المدلّلة الخجول. امرأتان وقصّتان متعارضتان متقابلتان متضادتان تحيطان بالنفس البشريّة، بتفاصيلها وقصصها ونزواتها وأهوائها وهواجسها وتوجّساتها. فبينما صاحبة الشعر الأحمر صاخبة صارمة ذات صوت خشن عريض مبحوح ومرتفع، تكون صاحبة الشعر الأسود أنثويّة الصوت، رفيعته، منخفضته، وكأنّ حديثها همس أو وشوشة. وكأنّ التعارض بين المرأتين والطبعين قائم على مستوى حاسّتي السمع والنظر. فعدا عن الاختلاف في لون الشعر يلاحظ المتفرّج أنّ المرأتين ترتديان الفستان نفسه بلونه وتصميمه، إنّما المرأة ذات الشعر الأسود ترتدي معه أكماماً طويلة كنوع من إشارة إلى ورعها وخجلها واحتشامها.
يقوم نصّ المسرحيّة بأسره على العودة إلى الوراء، فلاش باك تقوم به الشقيقتان المختلفتان على شتّى الأصعدة، فتسترجعان ذكرياتهما ليكتشف المتفرّج أثر التربية المسيحيّة المحافظة على إحداهما والتفلّت الذي تعيشه الأخرى. وكأنّ الشقيقتين هما وجهان لا يلتقيان، لعملة واحدة، ملاك وشيطان، فضيلة تقابلها الرذيلة، كأنّهما النفس البشريّة الواقفة أمام مرآتها والمنقسمة إلى الطاعة والتمرّد، إلى الأحمر الماجن والأسود المتقشّف. وكأنّ المرأتين، هما الخير والشرّ اللذان يتخبّط بينهما الإنسان.
تمنح هذه العودة إلى الوراء عنوان المسرحيّة بعداً رمزيّاً جديداً، فرحيل الفراشات قد يكون رحيل الطفولة أو رحيل البراءة أو رحيل العمر أو رحيل الأحلام. والسؤال الذي يُطرح في نصّ المسرحيّة "إلى أين ترحل الفراشات؟" قد يكون انعكاساً للسؤال الأبديّ الذي طرحته البشريّة على نفسها منذ فجر التاريخ: إلى أين نرحل عندما نموت؟ إلى أين نرحل عندما ينتهي العمر؟ فنصّ ديمتري ملكي يطرح ومعه عنوانه، قضايا العمر والطفولة والزمن الذي يمرّ.
ديكور وأداء
تقدّم الممثّلتان صراع الفضيلة والرذيلة بأداء جميل قويّ تركّزان فيه على الحركة والصوت وتعابير الوجه، يساعدهما في ذلك الديكور الرمزيّ القائم على حوض استحمام ومقعدين وصندوق خشبيّ. أمّا حوض الاستحمام، رمز الحميميّة والغوص في ماء الباطن واللاوعي، فهو مرادف العودة إلى الرحم الأوّل، إلى الماضي والطفولة. والمقعدان اللذان ترتاح عليهما الممثّلتان، يحوّلهما إلى حكواتيّتين تعيدان الجمهور إلى زمن بعيد، إلى سنوات الطفولة والبراءة عبر أسلوب قصّ الذكريات الذي يقوم عليه النصّ. أمّا الصندوق الخشبيّ الكبير فيشكّل خزّاناً للذكريات، يشكّل نوعاً من صندوق سحريّ تسترجع عبره المرأتان ماضيهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إنّ أشياء العرض بسيطة قليلة تعكس أسلوب شادي الهبر وتقنيّاته، إنّما كان من الممكن توظيف أشياء أكثر، كان من الممكن تشخيص الحنين والعودات إلى الوراء بأشياء من الطفولة كألعاب أو ملابس أو روائح أو غيرها، تمنح النصّ حركيّة وتضفي عليه عنصر المفاجأة.
"رحيل الفراشات" عمل جميل تعاون فيه ديمتري ملكي وشادي الهبر لتقديم نصّ متماسك وإخراج محفوف بالرمزيّة وأداء متقن.