ملخص
الحصار الاقتصادي الذي فرضته #الولايات_المتحدة على #العراق كان ورقة ضغط شعبية لإطاحة نظام #صدام_حسين
مثّل تحطيم الطبقة الوسطى العراقية التي كانت تمثل معياراً للهوية الوطنية نتيجة التدهور الاقتصادي والسياسي نكسة كبرى في المجتمع العراقي وبداية التحول إلى حال مزرية كانت مستعدة للتحول إلى هويات طائفية وعرقية بعد عام 2003، بحسب ما رصد مراقبون عن تداعيات الغزو الأميركي للعراق في الذكرى الـ 20.
ذكرى وقائع جرت
ذكر مؤرخون أن الولايات المتحدة وجدت في الحصار الاقتصادي الذي فرضته على العراق الأداة الأفضل لتهيئة الأرضية الملائمة لجعل شرائح واسعة من العراقيين تتقبل الغزو للخلاص من نظام صدام حسين، وبالفعل أسهمت العقوبات الدولية التي فرضت على العراق خلال التسعينيات في وضع نظام صدام حسين بحالة من العزلة الداخلية والتي أدت في النهاية إلى عدم دفاع معظم العراقيين عن النظام عام 2003 بعد انهيار كبير في اقتصاد البلاد وبناه التحتية وتدهور ملحوظ في الصناعة والزراعة وتصاعد كبير في معدلات الفقر.
بين عقدين من الزمان
لا يمكن اختزال المعاناة التي يعيشها العراق عند حدود العقدين الأخيرين اللذين أعقبا الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، إذ تمتد حلقات المعاناة التي أحاطت بالبلاد إلى العام 1990 بعد أن قرر نظام صدام حسين احتلال الكويت وإدخال العراق في دوامة إشكالات لم تنته.
وتمثل لحظة الغزو الأميركي للعراق امتداداً لحقبة التسعينيات من القرن الماضي، بحسب مراقبين، خصوصاً الأحداث والتداعيات التي تلت غزو العراق للكويت عام 1990، وما تبعها من تدمير للبنى التحتية نتيجة حرب الخليج والحصار الاقتصادي الذي عصف بالبلاد طوال السنوات التي سبقت احتلال العراق من قبل القوات الأميركية.
وفي الذكرى الـ 20 على الغزو الأميركي للعراق يستدعي العراقيون حصاد أكثر من ثلاثة عقود من المعاناة، إذ مثلت الأعوام الـ 13 التي سبقت الغزو بداية الانهيار الكبير على جميع الصعد الاقتصادية والسياسية، بل وحتى على مستوى النسيج الاجتماعي والانشقاقات الكبيرة التي حصلت فيه، إذ لم يتوقف الدمار الذي حل بالبلاد خلال السنوات التي تلت الغزو الأميركي وحسب، كما يعبر مراقبون.
انهيار الاقتصاد
على المستوى الاقتصادي بدأت الإشكالات بالتفاقم مع جملة قرارات في مجلس الأمن إثر غزو نظام صدام حسين دولة الكويت عام 1990، إذ فرضت واشنطن على بغداد واحداً من أقصى أنواع الحصارات في التاريخ الحديث مما أدى إلى انهيار كبير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
وأسهم الحصار الاقتصادي والعقوبات الشاملة المفروضة على العراق في فترة التسعينيات إلى انهيار كبير في البنى التحتية، إذ تدهورت الصناعة والزراعة وتراجع الاقتصاد بشكل سريع مما أدى إلى انخفاض قيمة الدينار العراقي حينها من أربعة دنانير للدولار الواحد نهاية الثمانينيات إلى نحو 3 آلاف دينار للدولار الواحد منتصف التسعينيات.
ولم تتوقف قرارات مجلس الأمن عند هذا الحد وحسب، إذ مثّل القراران (660) و(661) للأمم المتحدة عام 1990 اللذان يقضيان بإدانة غزو العراق للكويت ويدعوان إلى سحب العراق كامل قواته منها، فضلاً عن فرض عقوبات اقتصادية كبيرة عليه، بداية انهيار النظام.
وفي الـ 17 من يناير (كانون الثاني) 1991 بدأت حرب الخليج بقصف جوي على العراق، وأطلق على الحرب حينها "عملية عاصفة الصحراء" التي أدت إلى تدمير شامل للبنى التحتية في البلاد.
وخوّل مجلس الأمن الدولي من خلال القرار رقم (678) في الـ 29 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 الدول المتعاونة مع الكويت استخدام جميع الوسائل الضرورية لتنفيذ القرار رقم (660) الذي مثّل إيذاناً ببدء الحرب على العراق حينها.
وقف إطلاق النار وبداية الصراعات
بعد تحرير الكويت في الـ 27 من فبراير (شباط) 1991، أُعلن وقف إطلاق النار، وفي الثالث من مارس (آذار) من العام نفسه وافق العراق على شروط وقف إطلاق النار، إلا أن الإشكالات في الداخل العراقي لم تتوقف نتيجة حال السخط الشعبية على النظام آنذاك.
وتعد السنوات الخمس الأولى التي تلت حرب الخليج من أكثر السنوات صعوبة على العراقيين نتيجة العقوبات الاقتصادية وعمليات القمع الواسعة التي شهدتها تلك الحقبة، إلا أنها تراجعت نسبياً بعد قرار مجلس الأمن رقم (986) في أبريل (نيسان) 1995 القاضي بالسماح للعراق بالاستئناف الجزئي لصادرات النفط مقابل شراء الطعام والدواء، ويعرف ببرنامج "النفط مقابل الغذاء"، والذي وافق نظام صدام حسين عليه في مايو (أيار) 1996.
تداعي الهوية الوطنية
أدت الإشكالات الاقتصادية الكبيرة خلال التسعينيات إلى تداعي كثير من الطبقات الاجتماعية في البلاد، وارتفعت نسب الفقر إلى حدود قياسية في وقت قصير وصل حد ألا تتجاوز رواتب موظفي الدولة حينها حدود الخمسة دولارات في الشهر الواحد، مما أسهم بشكل واضح في زيادة النقمة الاجتماعية على نظام صدام حسين.
وزادت الحرب وغزو الكويت حال النقمة من نظام صدام حسين في الداخل العراقي، إذ أدت في منتصف مارس 1991 إلى اندلاع انتفاضة واسعة في المحافظات الجنوبية والشمالية للبلاد، إلا أن القمع الواسع لها من قبل قوات النظام حينها أدى إلى إجهاضها.
وعلى رغم تمكن نظام صدام حسين من تدعيم أوضاعه مرة أخرى، فإنه فقد كثيراً من سيطرته على عدد من المدن العراقية وتحديداً محافظات إقليم كردستان، إذ صادق الاتحاد الأوروبي في الثامن من أبريل عام 1991 على خطة لإنشاء ملاذ آمن تابع للأمم المتحدة في العراق من أجل حماية الأكراد، فضلاً عن تحديد منطقة محظورة على الطائرات العراقية في شمال العراق وجنوبه في أغسطس عام 1992.
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي أن الأحداث بعد عام 1990 وجهت ضربة قاسية للطبقات الوسطى في العراق، مما أدى إلى "طمسها وتحويلها إلى طبقة غير فاعلة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي".
ويتابع أن "تحطيم الطبقة الوسطى التي كانت تمثل معياراً للهوية الوطنية نتيجة التدهور الاقتصادي والسياسي مثّل النكسة الأكبر في المجتمع العراقي وبداية التحول إلى حال مزرية كانت مستعدة للتحول إلى هويات طائفية وعرقية بعد عام 2003"، لافتاً إلى أن الغزو الأميركي "أسهم بشكل واضح في تعزيز حال تشظي الطبقات الوسطى من خلال تعزيز الهويات الفرعية على الهوية الوطنية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم الإشكالات التي عاشها العراق خلال الفترة التي سبقت عام 1990 إلا أن "الكتلة الوطنية كانت متماسكة"، كما يعبر الهيتي الذي يرى أن الانهيار السريع الذي وقع بعد غزو الكويت مثّل دافعاً للنظام السياسي حينها إلى "اللجوء للقبلية والإسلاموية" مما شكّل بداية الـ "تخريب الواسع للهوية الوطنية".
ولعل ما جرى خلال التسعينيات "هيأ المجتمع العراقي لتعميق الهويات الفرعية سواء العشائرية أو الطائفية على حساب مبدأ المواطنة"، بحسب الهيتي الذي يشير إلى أن وصول الأحزاب التي تمثل الطوائف في عراق ما بعد 2003 وتكريس فكرة المكونات على حساب فكرة المواطنة في الدستور العراقي بعد الغزو الأميركي عمّق حال الخراب الاجتماعي الذي بات يمثل المعضلة الكبرى التي يعانيها العراقيون حتى الآن".
قمع متصاعد وقطيعة بين النظام والعراقيين
وفي مقابل الإشكالات الاقتصادية التي وجهها العراق شهدت البلاد في تلك الفترة واحدة من أكثر عمليات القمع حدة في تاريخ البلاد التي كانت منغلقة بشكل تام على نفسها، إذ شهد عام 1991 واحدة من أكثر عمليات القمع وحشية شملت معظم المدن العراقية وتحديداً المدن الكردية والشيعية وأدت إلى مقتل مئات الآلاف من معارضي النظام، فضلاً عن امتلاء المعتقلات حينها بآلاف المعارضين وعشرات المقابر الجماعية التي تم الكشف عنها بعد عام 2003.
ويرى أستاذ العلوم السياسية عصام الفيلي أن الحديث عن حقبة ما بعد عام 1990 تمثّل "المرتكز الرئيس لفهم المعضلات التي عصفت بالبلاد بعد عام 2003"، مبيناً أن الظروف الاقتصادية القاسية وحال الاستبداد والتسلط التي عاشها العراقيون في تلك الفترة أسهما بشكل واضح "في جعل شرائح واسعة من العراقيين تبحث عن منقذ بأية وسيلة".
ويضيف الفيلي أن أميركا وجدت في الحصار الاقتصادي الذي فرضته على العراق "الأداة الأفضل لتهيئة الأرضية الملائمة لجعل شرائح واسعة من العراقيين تتقبل الغزو للخلاص من نظام صدام حسين".
ولا يتوقف تأثير حقبة التسعينيات في العراق على المستويات السياسية والاقتصادية، كما يعبر الفيلي الذي يشير إلى أن الأثر الأكبر كان على المستوى الاجتماعي، إذ أسهمت تلك الفترة في جملة من الانشقاقات على المستوى الاجتماعي وأضعفت الهوية الوطنية في مقابل الولاءات للنظام مما أدى في النهاية إلى "تغليب الهويات الطائفية والقومية على الانتماء الوطني بعد الغزو الأميركي عام 2003".
عزلة النظام السياسي
وفي المقابل يرى الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي أن اختزال صدام حسين للنظام السياسي بنفسه يمثّل المرتكز الرئيس لفهم أسباب تدهور الحال الوطنية في العراق وتحديداً بعد عام 1990، مبيناً أن هذا الأمر "سهل بشكل كبير عملية انهيار النظام من دون أن يجد من يدافع عنه".
ويضيف أن "سنوات ما بعد غزو الكويت أدت إلى أن يكون النظام عبئاً على المواطنين، خصوصاً مع تصاعد عمليات القمع والاستبداد وتدهور الحال الاقتصادية".
ويتابع أن لجوء نظام صدام حسين إلى اجتياح الكويت مثّل "رصاصة الرحمة على كل الشعارات التي أطلقها، خصوصاً أنه بدأ حياته السياسية بالإعلان القومي عام 1979 والذي نص على أن استخدام السلاح باتجاه الدول العربية محرم، وإذا به ينقلب على خط الشروع الذي مكنه من الدولة".
وأسهمت العقوبات الدولية التي فرضت على العراق خلال التسعينيات بوضع نظام صدام حسين في "حال من العزلة الداخلية إضافة إلى العزلة عن المجتمع الدولي"، بحسب الشريفي، الذي يرى أن هذه العزلة أسهمت بشكل واضح في عدم دفاع معظم العراقيين عن النظام عام 2003.
ويختم الشريفي أن الفشل الواضح في منظومة الحكم ما بعد 2003 يدفع إلى تكرار مجريات الأحداث التي حصلت بعد عام 1990، معبراً عن اعتقاده أن واشنطن وحلفاءها سيعملون على "إحداث تغيير شامل وإيجاد نموذج سياسي جديد يكون أقرب لأميركا والغرب في حال استمرار فشل النموذج في البلاد".
تداعيات الغزو لم تتوقف بعد
ولم تتوقف العمليات العسكرية التي شنها نظام صدام حسين عند حدود عام 1991، إذ شنت القوات العراقية نهاية أغسطس 1996 هجوماً على إقليم كردستان لتحتل مدينة أربيل لمساعدة "الحزب الديمقراطي الكردستاني" الذي يتزعمه مسعود بارزاني في صراعه مع "الاتحاد الوطني الكردستاني" الذي كان يتزعمه حينها رئيس الجمهورية الأسبق جلال طالباني، مما أدى في النهاية إلى توسيع الولايات المتحدة منطقة حظر الطيران على العراق في سبتمبر (أيلول) 1996.
وفي مقابل العقوبات الاقتصادية شكلت الأمم المتحدة لجنة خاصة بمراقبة وتدمير أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق، والتي قالت واشنطن حينها إن نظام صدام حسين لا يبدي التزاماً في هذا الشأن، مما دفع أميركا وبريطانيا إلى شن حملة قصف عسكرية سميت بـ "ثعلب الصحراء" في أكتوبر 1998، وقالت إن هدفها "تدمير برامج الأسلحة النووية والكيماوية التي يمتلكها النظام"، وهو ما كان ينكره نظام صدام حسين.
وعلى رغم مطالبة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش الابن قادة العالم بمواجهة ما سماه "الخطر الجسيم والمتراكم" للعراق أو التنحي جانباً لتتصرف واشنطن، أصدر كبير مفتشي الأسلحة الدوليين في العراق هانز بليكس خلال مارس 2002 تقريراً جاء فيه أن "العراق زاد من تعاونه مع المفتشين وأنهم بحاجة إلى مزيد من الوقت للتأكد من إذعانه"، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً حتى قررت واشنطن بدء العمليات العسكرية لإسقاط النظام في الـ 19 من مارس 2003 والذي لا تزال تداعياته مستمرة حتى اليوم.