ملخص
توفي الفنان التشكيلي المغربي محمد بناني، في إحدى مصحات مدينة #القنيطرة، بعد ستة عقود من الاشتغال على مشروع فني ينفتح على #الحداثة ويراهن على #التجريب
في السنوات الأخيرة رحل راود الفن التشكيلي في المغرب تباعاً، تاركين للأجيال الجديدة أن تواصل مهمة التجريب في هذا الحقل الفني، بعد أن وضعوا اللبنات الأولى لمدرسة الحداثة في التشكيل، وخلّفوا إرثاً إبداعياً تجاوز صيته العالم العربي. وأمكن لأعمال هؤلاء الرواد أن تعرض في المتاحف الدولية بالقارات الخمس.
بعد رحيل فريد بلكاهية ومحمد شبعة ومحمد المليحي وعبد اللطيف الزين غادرنا قبل يومين الرسام والنحات محمد بناني (مواليد سنة 1943 - تطوان) أحد رموز التشكيل الحديث في المغرب، عن عمر ناهز الثمانين سنة. توفي بناني، في إحدى مصحات مدينة القنيطرة، بعد ستة عقود من الاشتغال على مشروع فني ينفتح على الحداثة ويراهن على التجريب، من دون القطع مع التراث الثقافي والفني المغربي والعربي. جمع محمد بناني بين الرسم والنحت، وظل مرتبطاً في جل أعماله بالطبيعة، لا كمنتوج بصري، بل كمواد أساسية في بناء منجزه الإبداعي. لذلك كان يلجأ إلى التراب والرمل والحجارة من أجل تشكيل لوحاته، في إشارة رمزية إلى ارتباط الكائن بأصله الطبيعي.
كان بناني يتردد على مدرسة الفنون الجميلة في تطوان نهاية الخمسينيات، قبل أن يلتحق بجامعة القرويين في فاس. وبعد حصوله على منحة تعليمية إتجه إلى فرنسا لدراسة الرسم في مدرسة الفنون الجميلة - باريس مطلع الستينيات، قبل أن يعود إلى المغرب من أجل التدريس في معهد الفنون - الرباط. لكنه ما لبث أن تجه من جديد إلى فرنسا ليقضي فيها ثلاث سنوات مشتغلاً بإقامة الفنون الجميلة.
أقام محمد بناني معرضه الأول خلال السبعينيات في مدينة طنجة. ثم انطلق من مدينته تطوان باتجاه العالم، من أجل إقامة معارض فنية فردية وجماعية في العديد من البلدان. فقد عُرضت لوحاته في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا وأميركا فضلا عن بلدان العالم العربي، في 35 معرضاً فردياً و 48 معرضاً جماعياً.
البني والأزرق
كانت علاقته بالألوان مبنية على ذوق شخصي يصعب تفسيره، فهو كان ينتصر بشكل كبير للون البني، وكان يمقت بالمقابل اللون الوردي. لقد عبّر في أحد لقاءاته عن هذه الكراهية الفنية لهذا اللون، باعتبار أن الألوان شخوص، وعلى الفنان أن يتعامل معها من هذا المنطلق. ويبدو أن اللون الوردي كان بعيداً عن تمثلات بناني الفنية، وعن توجهه الفكري في الرسم. فلكل لون دلالة، بالتالي قد لا يتيح الوردي أية مساحة للاستجابة البصرية لهذا الفنان المغربي.
يقول بناني عن الألوان: "اللوحة بالنسبة لي مثل فيلم سينمائي أختار لها ألواناً تؤدي دور البطولة، وأخرى أدواراً ثانوية، لذلك تجد علاقتي ببعضها حميمة جداً، فاللون البني أحبه كثيراً، وكذلك الشأن بالنسبة للأسود والأبيض، والأزرق، وأمقت ألواناً أخرى ولا أتصورها في لوحة من لوحاتي، كاللون الوردي مثلاً، كما أن هناك ألواناً تتمرد أحياناً وتفرض نفسها في اللوحة".
كان بناني يتعامل مع الألوان بحميمية خاصة، فهي بالنسبة إليه ليست مواد جامدة، بل في كل لون روح ولكل لون لغة. في المعرض التكريمي الذي أقيم له قبل سنوات بعد توشيحه بوسام ملكي، عبّر عن علاقته بالألوان في لغة لا تخلو من الشعر: "أتحاور مع الألوان طول الوقت، فأثني على الأزرق حين يعجبني، وأقبل البني عندما يروقني، وألعن الأصفر عندما يغضبني".
وليس الشعر فناً بعيداً عن عوالم محمد بناني، بل هو امتداد لأعماله وتقاطع حواري خلّاق معها. لذلك وجد نفسه يقيم معارض ثنائية تجمع بين اللوحة والقصيدة، مثلما هو الشأن مع عائشة البصري والطاهر بنجلون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان بناني يرى أن العامل الجغرافي مؤثر كثيراً في اختيار ألوان الرسم. فمدن المال تحرص على توسّل الأزرق والأبيض في إبداع الأعمال الفنية، بينما يبدو الأحمر والبرتقالي أنسب في لوحات الجنوب. كما كان يرى أن باريس مدينة لا يمكن أن ترسم فيها بالألوان الصاخبة. إذ يتناسب معها الأسود والأبيض والرمادي. ويعكس هذا التغير اللوني نفسية الفنان وهي تتحول من مدينة إلى أخرى.
في مساره الفني يبدو اللونان البني والأزرق هما محورا اشتغاله، فثمة جنوح كبير إلى هذين اللونين اللذين يشكلان الطبيعة الشاسعة التي كانت على الدوام مصدر إلهام الفنان المغربي.
عاش بناني قطيعة مع الأحمر، مردها إلى لحظة اندلاق هذا اللون بالخطأ على إحدى لوحاته. غير أن مرحلة استثنائية شكلت حالة تحول عند فيلسوف الألوان لفترة قصيرة، قبل أن يعود إلى ألوانه. ففي عام 2004 أقام بناني معرضاً في رواق باب الرواح في المغرب هيمن فيه اللون الأسود كثيراً، وحين سئل عن سبب طغيان السواد في هذه المرحلة بالذات، كان تبريره: "إنه لون يؤثر على ذوقي الفني"، من دون أن يكشف إن كانت اللوحات السوداء العشرون التي ضمّها المعرض نتاج مرحلة نفسية معينة، خصوصاً أن هذا الفنان كان يؤكد مراراً أنه لا ينطلق من فراغ في رسم أعماله، بل يترجم لحظات حقيقية وتجارب حياتية عاشها بالفعل.