برع الواعظ السعودي صالح المغامسي لسنوات عدة في شد أنظار أعداد واسعة من المشاهدين، وهو يفسر آيات يختار موضوعها كيف ما اتفق من دون مراعاة لترتيب السور، على طريق سلفه المصري الراحل محمد متولي الشعراوي وسط المسجد بين جموع المنصتين، لولا أن المغامسي كان أكثر اعتناءً بمظهره الخارجي ومفردات خطابه الفصيح، عكس ابن الدلتا الذي كانت فلسفته "البساطة والتبسيط" شكلاً ومضموناً.
لكن الرجل البكاء، الذي ولج بيوت السعوديين من تلك البوابة، ما إن ذاع صيته وصار يحظى بمساحة واسعة في القنوات الحكومية والخاصة، حتى بدأ يتوسع في خطابه ويخرج من دائرته المعتادة، إلى مساحات أخرى بدا أنه لم يحسن إدارتها في نظر كثيرين، خصوصاً عندما أصبح يتلقى الفتاوى الشرعية على البرامج الفضائية، ويجيب عنها من دون تردد أو تلعثم وهو الأديب الذي تخصص في علوم اللغة قبل أن تقوده إلى القرآن وعلوم الشريعة التي قال إنه أخذها عن علمائها الأكابر في حلق العلم ودروس المسجد النبوي.
تحولات لم تكن منتظرة
التحولات التي شهدها خطاب المغامسي لفتت أنظار الجهات الدينية في البلاد، فبادرت بإيقافه عن خطابة وإمامة مسجد قباء الذي عرف به لنحو 15 عاماً، ولاسيما عندما أقحم نفسه في قضايا سياسية، اعتاد مشايخ البلاد الرسميين تجنب الخوض فيها خصوصاً أمام وسائل الإعلام، مثل الإفراج عن الموقوفين، مما أثار صدمة لدى الرأي العام، الذي لم ينتظر طويلاً قرار إعفائه من جانب وزارة الشؤون الإسلامية في مارس (آذار) 2020، بيد أنه نفى أخيراً أن يكون ذلك بتعليمات من القيادة العليا في الرياض، كما أشيع، فهو من صلاحيات الوزارة، بل حتى فرعها في منطقة المدينة المنورة.
ومع أن الشيخ السعودي اعتذر عن موقفه ذاك وأقر بأنه خطأ أو "كبوة" كما يصف طلب التجاوز عنها، إلا أن شخصيته تلك ظلت هي الطاغية على أي ظهور تلفزيوني أو إعلامي، يعبر فيه عن آرائه ومواقفه الجديدة نحو الفقه والفقهاء والمدارس الفقهية ومتونها التي تحظى باحترام واسع لدى المتخصصين، إلا أنه يراها هو غير كافية للإجابة عن أسئلة اليوم، فيما ينقم عليه بعض أتباع تلك المذاهب والمتخصصين فيها، أنه لم يعرفها بالقدر الكافي بعد حتى يحكم على عصرها بالأفول.
هكذا تفجر الجدل
وفي هذا السياق جاءت تصريحاته التي فجرت جدلاً واسعاً وسخرية وتأييداً بين المهتمين، حين دعا إلى خلق مذهب فقهي جديد، تطلع إلى أن يكون هو إمامه، على طريقة أئمة المذاهب السابقين أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل.
وقال "أي صناعة بشرية قابلة أن تراجع، هم يستكثرون عليك أن تراجع الفقه الإسلامي... إذا اعترفتم أنهم بشر (أصحاب المذاهب) ما الذي يمنع؟".
ولفت إلى أن "من قرأ الفقه الإسلامي وتاريخه من مصادره الحقيقية وأعطاه الله وعياً وتجرداً لله وحباً للخير للناس... (عرف) أنه لا بد أن يكون هناك مراجعة للفقه الإسلامي القائم"، موضحاً أنه لا يقول إنه "أولى الناس أن يأتي بمذهب، فكثيرون في الأمة أكفاء لهذا الأمر، لكن إذا كان فلان تردد وفلان عجز وفلان توارى وفلان خشي هذا شيء يخصه هو"، بما يعني أنه لن يكون كذلك المتواري والمتردد وقد تجاوز الستين، بحسب قوله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من هنا جاءت دعوته إلى "قيام مذهب إسلامي جديد لا يعني هدم السابقين... فكلهم علماء أجلاء من نعرف ومن لا نعرف"، قبل أن يضيف الجزئية التي أثارت الجدل أكثر، وهو تطلعه إلى أن ينشأ ذلك المذهب الفقهي على يديه، على رغم توقعه الذي صار، بأن "سيقول الكثير من الناس من أنت"؟ بيد أنه اعتبر ذلك ليس السؤال الجوهري، وإنما هو "هل هناك حاجة؟ نعم هناك حاجة، ففي كل مرحلة من صناعة الفقه الإسلامي تطغى مسائل، وفي هذه المرحلة طغى الأخذ بالسند"، مشيراً إلى أن أحاديث عدة على رغم صحة إسنادها لا ينبغي الأخذ بها لعلة في نصها الذي يرى استحالة صدق انتسابه إلى نبي المسلمين. وهكذا هو يرى ضرورة إعادة تحرير المذاهب الفقهية على أصول جديدة.
المغامسي الذي كان يتحدث في حوار مع مواطنه الكابتن سامي جابر على التلفزيون السعودي، مع أنه لم يذكر بعد ملامح ولا أصول المذهب الذي يعد نفسه ليكون منشئه، إلا أن وقع الفكرة نفسها كان كافياً لإثارة السجال على وسائل التواصل الاجتماعي، بين مدافع عن الشيخ ومنتقد طريقة طرحه، ومشكك في المبدأ برمته، إذ كانت المدارس في تقدير كثيرين تنشأ من دون إعلان مسبق أو تخطيط من أئمتها.
الإمامة ليست بالتمني
ويعلق في هذا الصدد الأكاديمي في جامعة أم القرى البروفيسور حاتم العوني على الجدل الدائر بأن "من ظن المذاهب نشأت من الحكي في اللقاءات، فلا عتب عليه. العلم ليس بالتمني ولا بالتحلي، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته المؤلفات الدالة على العلم، فمن لم يكن له مؤلف واحد يشهد له بتميز العلم، عليه أن يسكت عن أمنيات الباطل، وإلا سيكون إسقاطاً له من عين العلم قبل أن يسقط من عين الناس".
وعلى النقيض يرى المحامي أسامة القحطاني وآخرون اعتبروا الاجتهاد ليس حكراً على المذاهب الشائعة، وأن رجاء المغامسي ليس فيه ما يستدعي التحامل عليه، بل يشجع على جرأته وحماسته، طالما أنه يبتغي تقديم الفقه في روح عصرية.
وقال "البعض يقف في وجه أي شخص يخرج عن الأفكار التي يتبناها أو يعرفها، وهذا في الأصل ميل بشري موجود في كل أتباع الديانات، وله أسبابه التي تعود أحياناً إلى الجهل وقصور العلم وأحياناً إلى نزعة الإنسان للسيطرة وجبر الناس ليكونوا تحت دائرة تفكيره ومدرسته وخلافه"، على حين يرى هو أن بين أكبر عوائق التطور الحضاري تاريخياً عند الشعوب والديانات "تشدد الجماعات الدينية المتطرفة لمنع أي محاولة للخروج عن أفكارهم وميلهم نحو كتم أي فكر أو بحث قد يؤدي إلى ضعف مكانتهم وسيطرتهم".
عقلية عميقة
وبين هذا وذاك، اتجه أستاذ المغامسي الناقد السعودي عبدالله الغذامي إلى ناحية ملكة تلميذه البيانية في مرحلة الماجستير، قائلاً في تغريدة تجاوزت مشاهداتها المليونين "لكم أن تقولوا عن الشيخ المغامسي ما شئتم ولكن له عليَّ حق الشهادة، لقد درس عندي في الماجستير (نظرية الأدب)، فكان على درجة لافتة في قاعة الحوار عن النظريات والمفاهيم الدقيقة، وحضوره كان حيوياً ومحفزاً. نعم فكرة المذهب الفقهي الجديد قوية لكن مؤهلات المغامسي أيضاً متينة وعقليته المعرفية عميقة".
لكن تلك الشهادة ما زادت الطين إلا بلة عند معلقين، برهنت في حسبانهم على أن إمام المذهب المنتظر لم يكن متخصصاً وفق أبجديات العصر الذي أراد أن يبني مذهباً فقهياً على منواله، فتمكنه من علوم العربية التي تسمى "علوم الآلة"، ومعرفته التي لا تنكر بالتفسير وأجزاء من الفقه، لا تصل به حتى إلى درجة العلماء المتخصصين من فقهاء الشريعة والقانون، فكيف بالمجتهدين أرباب المذاهب الأكابر، من ذوي النظريات التي عمت الآفاق، وكان القلة منهم مع ذلك من صار إمام مذهب، وليس فيهم الداعي إلى تنصيبه إماماً.
الإخوان في التفاصيل
وقد يفسر جانباً من السخط الذي طبع أكثر الردود على تطلع المغامسي لتبوؤ مكانة فقهية، تطرقه إلى تيارات راديكالية عدة بالنقد مثل الإخوان المسلمين والسرورية وجناح من السلفية سماه "السلفية المنتفعة"، وهم المعروفون على الصعيد الشعبي بـ"الجامية أو المدخلية" نسبة إلى مشايخها، فهي اتجاهات فضلاً عن تنافسها المحموم على سيادة المشهد قبل إصلاحات العهد الجديد في السعودية، تحترف الإيقاع بخصومها وشيطنتهم لمجرد تعارض المصالح أو الاختلاف في مسائل عادية.
لكن التساؤل الأكثر تردداً بين السعوديين على وسائل التواصل الاجتماعي، هو ما الذي أحوج هذا الشيخ الذي كان واعظاً بكاءً أسيفاً محبوباً، إلى كل هذه الاستماتة في الدعاية للذات والبحث عن الأضواء التي يرونها تناقض ورع أهل القرآن وكياسة الفقهاء؟
كبار العلماء تتدخل
وعلقت هيئة كبار العلماء في وقت لاحق على الجدل، مؤكدة عبر أمانتها العامة أن "الدعوة إلى إنشاء مذهب فقهي إسلامي جديد، تفتقد الموضوعية والواقعية". واعتبرت أن الفقه الإسلامي بمذاهبه الفقهية المعتبرة، واجتهاداته المتنوعة، "يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة، ويوفق بين حاجاتها والشريعة الإسلامية، وهو ما تبرهن عليه الهيئات العلمية، والمجامع الفقهية، التي تمارس الاجتهاد الجماعي".
وأضافت في بيان وزعته وكالة الأنباء الرسمية في البلاد (واس) أن "من نعم الله على المسلمين - في هذا الوقت - تيسر الاجتهاد الجماعي عبر هذه الهيئات والمجامع، التي تتفاعل إيجاباً مع حاجات المجتمع وتطوراته المعرفية والاجتماعية والاقتصادية، ومئات القرارات التي صدرت عن هذه المؤسسات المجمعية في مختلف المجالات برهان ساطع على ذلك".