Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كمال عبد الحميد يخوض شعرية المرض في "ندم المشيئة"

الجسد مدخل للحديث عن الحياة العامة وذكريات الطفولة وطيف الأم

الشعر مرسوماً في لوحة لضياء العزاوي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

حينما يكتب #الشاعر_المصري #كمال_عبد_الحميد قصيدته يدرك جيداً أن الشعر "صعبٌ وطويلٌ سُلَمُه"، وأنه "لمح تكفي إشارته"

يدرك الشاعر المصري كمال عبد الحميد جيداً أن الشعر "صعبٌ وطويلٌ سُلَمُه"، وأنه "لمح تكفي إشارته". وبناء على هذه العقيدة الشعرية ابتعد عن الاستطرادات المجانية والثرثرة وهدر الكلام. وتجلى ذلك على مستوى السطر الشعري الذي يقوم على الإيجاز والاقتصاد، وعلى مستوى ما صدر له من دواوين لم تتجاوز أربعة هي على التوالي: "تمام الجحيم"، "الوسيلة المتاحة للبهجة"، "عاطفة قاسية تلوح بالعصا"، ثم " ندم المشيئة... ما دبرته لنفسي من نهايات". وفي ديوانه الأحدث، "ندم المشيئة" (دار ميتافورا) الذي يستعرض فيه بعضاً من آلامه الأخيرة واعتلال جسده في ما يعرف بـ "شعرية المرض" على حد تسمية جابر عصفور عند حديثه عن ديوان " مدائح جلطة المخ" للشاعر حلمي سالم.

والحقيقة أن "شعرية المرض" قديمة منذ تحدث المتنبي عن "الحمى" التي يصفها بقوله: "وزائرتي كأن بها حياء/ فليس تزور إلا في الظلام". وفي العصر الحديث يُعد تصوير السيَّاب لابتلاءاته أشهر من أن يشار إليه: "لك الحمد مهما استطال البلاء/ ومهما استبدَّ الألم/ لك الحمد إن الرزايا عطاء/ وإن المصيبات بعض الكرم". ثم تأتي تجربة حلمي سالم المشار إليها وقبلها تجربة أسامة الدناصوري، ثم تجربة محمود قرني في ديوانه الأحدث "مسامرات في الحياة الثانية"، على سبيل المثال. لكن ما يميز ديوان كمال عبد الحميد هو أنه جعل من الجسد المعتل مدخلاً للحديث عن حياته عامة منذ ذكريات طفولته، وفقده للأب ثم الأم التي اتخذت مساحة كبيرة من الديوان الذي لم يخضع للانثيال العاطفي بل قام على درجة واضحة من البناء والإحكام.

صورة نثرية سردية

جاء الديوان في أربعة أقسام: أمشي مأهولاً بعويل، ليس للألم بيت، الشجرة الواقفة بي، الحزن هبة الآلهة. وجاء القسم الأخير في صورة نثرية سردية واستعاد فيه الشاعر ذكرياته وبعض قراءاته وقصة حبه الأول وطبيعة الرجل الصعيدي الذي يرى أن "الرجال لا يبكون"، فالبكاء ضعف لا يليق إلا بالنساء! وإن كان في أعماقه يفيض رقة وعذوبة. وسردية هذا القسم ليست غريبة على الشاعر الذي أصدر من قبل مجموعة من المقالات تحت عنوان "لا يدخل الليل إلا وحيداً". وبقراءة "ندم المشيئة" نستطيع أن نكتشف اعتماده على التجريب وابتعاده عن الطرائق الآمنة المعتادة حيث يضمن الكثير من المقولات الفلسفية والصوفية ونصوص التوابيت المصرية القديمة، والمزامير وبعض قصائد "الهايكو". ومن ذلك تصديره القسم الأول بقصيدة ماتسوو باشو: "مريض وقت ترحالي/ وأحلامي تتجول طافية/ في الحقول الذابلة". وهو تضمين ليس اعتباطياً بل يدل على بعض تيمات الديوان الظاهرة المتكررة مثل المرض والترحال بين قارتين: أفريقيا حيث جنوب مصر الذي يشكل انتماءه الأول، وآسيا حيث الإمارات التي يعمل فيها منذ سنوات. وتصدير الأقسام الأربعة بقصائد قصيرة ومقولات مختلفة يعد إحدى استراتيجيات الديوان الجمالية، ومن الممكن اعتبارها نصاً واحداً يمثل حركة الذات من مكان إلى مكان ومن حالة إلى أخرى.

استعارة من "المزامير"

فى بداية القسم الثاني يستعير كمال عبد الحميد من "المزامير" هذه العبارة: "لكلماتي أصغ يارب. تأمَّل صراخي"، وهي مقولة معبرة عن ذاته التي لا تجد لها ملاذاً إلا الله، وسط ذروة تدمير الداء لخلاياه في ما يشبه الموت البطيء. وفي القسم الثالث تتكرر الاستعارة من المزامير حين يضمن: "تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر"، لكن من هو هذا الآخر أو هؤلاء الآخرون الذين يسرع الشاعر الخطى وراءهم؟ "تجيئين بجدي وأبي وأختي / بغضبة الموتى الطيبين / هؤلاء الذين خذلت صلواتهم قبل الجنة بقليل". وفي القسم السردي الأخير الذي يبدو كما لو كان تعليقاً على الأقسام الثلاثة السابقة، يستعير عبد الحميد في التصدير رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس التي يقول فيها: "لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة، لا لكي تحزنوا بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي".

فالشاعر لم يكتب "شعرية المرض" لكي يصدر إلينا حزنه، بل ليهدي المحبة، وذلك التواصل الإنساني الحميم. ولأن "الموت" هو محور هذا الديوان، فإن الشاعر يهديه إلى أمه: "هناك حيث يكتفي الموتى بأرواحهم". يقول تحت عنوان "كان يجب ألا تموت الأمهات": "وحشي ما فوق الأرض / موحش ما تحتها". ولا تهمنا الآن الإشارة إلى الجناس الناقص بين وحشي وموحش، فالفارق الدلالي بينهما واضح، فما فوق الأرض افتراس ووحشية وما تحتها وحدة موحشة. غير أن الموت يبدو خروجاً عن كل هذا أو تحليقاً وطيراناً حيث تأخذ ذراعا الميت "هيئة جناحين يحملانه إلى سحابة جهزت مسبقاً لانتظاره / وسط زغاريد مهللة / يمكن اعتبارها مؤشرات لائقة بواقعية سحرية لرحمة السماء".

متون الأهرام

وتستدعي الواقعية السحرية "مائة عام من العزلة" لماركيز وشخصية "ريميديوس" تحديداً : "أليس هذا مبهجاً حد اعتباره أمنية/ كأن تقول لك أمك من فرط محبتها: جعل الله طيرانك قبل طيراني". إن الشاعر كما يصف نفسه ليس كائناً راغباً في الخلود أو في امتلاك قدرات خارقة، وينصح أصدقاءه بعدم الحلم بهذه القدرات، "كأن يلمسوا الطاولات/ فتطير بهم/ وتصبح المقاهي والبارات/ خارج الجاذبية". وفي نهاية مقطع تال يستعير نصين من "متون الأهرام" والتوابيت المصرية القديمة، مع تأنيث المخاطب الذي كان مذكراً في النصين لكي يناسب حديثه إلى الأم. فبعد أن يشير إلى انتقالها من عام الوباء إلى أبيه حيث توضع برفق في ترابه يقول، مستعيراً النصين المشار إليهما: "خذي رأسك... اجمعي عظامك/ نادي أطرافك/ أنثري الغبار عن جسدك"، و"قومي فأنت كبيرة كي تنهضي". وليس غريباً في هذه الحالة من صراع الموت والحياة، أن يشير إلى "أنوبيس"، إله الموت والحياة السفلى في الديانة المصرية القديمة: "جالساً على عرشه السفلي كان أنوبيس/ يحرك بعينيه مؤشر الألم في غرف الإفاقة/ بإذنه راح الخبيث يخرب خلاياي/ حافراً بمهارة بين دم ولحم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واللافت أن عنوان القسم الأول لا يرد إلا في القسم الثاني كما يبدو في قوله: "الآن ولسبب ما أعرفه / أمشي مأهولاً بعويل"، مما يدل على أن الفصل بين الأقسام ليس قاطعاً أو نهائياً. فهناك دائماً تداخل أسلوبي ودلالي واضح. وعلى الرغم من تيمة "الجسد المعتل" الذي تتآكل خلاياه بفعل مرض خبيث، فإن "الإروتيكا" تحضر على سبيل التوهم أو الإنتاج الشعري: "دخلت برجيل بكتاب إروتيكا /خرجت بعد ساعتين بقصيدة وسرطان عائلي / راجعت  كليفلاند في حضور ريتسوس أيضاً / أضافوا بهدوء / انسداد الحالبين / يعقبه غالباً فشل كلوي". وفي مقطع آخر يوظف الشاعر قصة الخلق ويرى أن "ستة أيام تكفي للخلق / كما تكفي للهجر / هي تمام ونقصان كل شىء". وذلك بعد أن اكتفت حبيبته في عام السرطان بالبكاء ستة أيام على الهاتف ثم أخبرته في اليوم السابع: "أرى في المنام أني أهجرك". والهجر هنا مرادف للذبح طبقاً لرؤيا النبي إبراهيم. كما نلاحظ في بعض السطور تقنية المشاهد المتوازية حين يصور مشهداً بينه وبين الطبيب وآخر بينه وبين حبيبته: "يقول الطبيب المجنَّس: خذ نفساً عميقاً ثم اكتمه / أقول لحبيبتي: كم تعلمنا أن نتنفس سراً".

التشبث بالحياة

نحن إذاً أمام موت محيط بكل شىء، موت محلق على الرؤوس وداخل الدم، لكنّ الشاعر لا يكف عن استئناف الحياة والتشبث بها: "لكننا كناجين محتملين / نشحذ أظافرنا لاستئناف الحياة / ولو بوحشية أقل". وهكذا يظل متأرجحاً بين الحياة والرغبة في الرحيل إلى أمه التي تمثل له الحياة الأبدية. وفي هذا السياق يستحضر قصة النبي يونس، يقول مخاطباً أمه: "خذيني كما أخذك أبي / بطريقته التي لا ترد / أخبريه أنني عائش هنا / في بطن حوت نافق". والاطلاع على عالم الموتى يذكرنا بـ "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، فالشاعر هنا رأى يد أبيه وعيني أخته وعصا جده في أحد هذياناته. وأحياناً يتم هذا بحفر التراب فتخرج "البندار"؛ قريته في الصعيد، حتى يزدحم المكان بالموتى، ويواصل الحفر متسائلاً: "كيف امتلأتُ بقريةٍ كاملةٍ من الموتى؟". ويظل الشاعر متنقلاً من تيمة إلى أخرى بشاعرية فائقة عوَّدنا عليها في دواوينه السابقة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة