ملخص
لم يكن بيع العبيد مقابل المال دائماً بل كانوا يباعون مقابل أساسات الحياة الأخرى أيضاً مثل الخيول والأسلحة والسجاد والأواني المنزلية حتى إنهم كانوا يباعون أحياناً مقابل الحمار أو البغل
انتشرت العبودية في مختلف أقطار العالم بشكل أو آخر منذ الأزمنة القديمة، وعلى رغم تسارع وتيرة النقاشات والتشريعات لمنعها في أوروبا أولاً ثم في أميركا بعد منتصف القرن الـ18 الميلادي، إلا أنها استمرت في وسط آسيا وأفغانستان ومناطق مستقلة أخرى تقع بين الهند البريطانية وروسيا لأنها لم تكن مشينة هناك آنذاك، وكانت ولاية شيترال في باكستان أحد الأماكن التي كان العبيد يرسلون منها إلى أسواق تلك المناطق.
تاريخ العبودية في شيترال
لا يمكن القول بالتأكيد كيف ومتى بدأت ظاهرة العبودية تحديداً في شيترال، إلا أن بعض المؤرخين يرجحون أنها أتت من وسط آسيا وبدخشان، حيث كانت تنتشر فيها العبودية وكان استعباد أسرى الحرب أمراً عادياً هناك في ذلك الزمان.
الحكام المحليون (الذين يسمون المهتر في شيترال) كانوا يشرفون على تجارة العبيد بأنفسهم، حيث إن المهتر هو الذي يقرر إذا كان الشخص يستعبد أم لا، وهل يباع العبد في الخارج أم يقدم في خدمة أحد أصحاب النفوذ في شيترال، وكان بيع وشراء العبيد من المهمات الرسمية الموكلة لوزير المالية الذي كان يسمى ديوان بيغي وكان المهتر نفسه هو الذي يتسلم الثمن في حال بيع العبيد في الخارج.
يقدم المستند الذي أعدته بريطانيا عام 1880 باسم "المعجم الجغرافي لهندوكش الشرقية" صورة يمكن من خلالها تخيل مدى انتشار بيع وشراء العبيد في شيترال، إذ يكشف أن تجارة العبيد كانت ثالث أكبر مصدر دخل لولاية شيترال، ويضيف المعجم أن استعباد الرعايا وبيعهم في شيترال وياسين كان مصدر عار كبير للحكام حتى في مجتمعهم الذي لم يعتبر العبودية شيئاً مشيناً مثل المجتمع الأوروبي.
أغلب المذكرات والتقارير والكتب التي كتبها المسؤولون الإنجليز عن شيترال تذكر أيضاً ممارسة العبودية وتجارة العبيد في تلك المنطقة، حين كان يتم بيع 500 عبد إلى خارج شيترال كل عام في نهاية القرن الـ18 الميلادي، ولم يكن في المنطقة بيت واحد لم يؤخذ منه شخص لاستعباده وبيعه في الخارج حسب البحث الذي أجراه الباحثان الإيطاليان الأخوان كاكو باردو.
أما الأسواق التي كان يرسل إليها العبيد من ولاية شيترال، فشملت خوارزم، ويرقند، وخوقند، وبخارى، وتركستان، وقندوز، وفيض آباد، وجلال أباد وكابل.
ويتضح من كتاب "شاه نامه سيئر" وهو أول كتاب منظوم لتاريخ شيترال للشاعر الشيترالي المشهور بابا سيئر الذي كتب عام 1810 أن جهان زمان والي منطقة واخان هجم على شيترال في أواخر القرن الـ18 الميلادي وأخذ معه عديداً من السكان كعبيد.
انتقاماً من هذا الهجوم، عبر حاكم شيترال الملك كتور الثاني منطقة بروغول وسار إلى واخان وأحرق القرى وأخذ كثيراً من الناس معه كعبيد، إضافة إلى الغنائم الأخرى، وكان من ضمن العبيد امرأتان شملهم الملك في حرمه.
شقيق الملك كتور شاه نواز حكم شيترال أيضاً، يقال إن أحد أسباب عزله بعد ذلك هو انغماسه المفرط في تجارة الرقيق ما جعله يفقد شعبيته بين العامة، وكانت هذه التجارة رائجة حتى إن حكام شيترال خلال الفترة التي كانوا يدفعون فيها الخراج لحاكم بدخشان، كانوا يدفعونه على شكل عبيد.
ثمن عبيد شيترال
تتراوح قيمة العبد عادة بين 100 إلى 300 روبية بناءً على عمر وجنس وجمال العبد، صغار السن من العبيد كانوا الأقل قيمة بينما كان الرجال يباعون من 100 إلى 200 روبية، وكانت قيمة النساء بين 200 إلى 300 روبية.
لكن لم يكن بيع العبيد مقابل المال دائماً، بل كانوا يباعون مقابل أساسات الحياة الأخرى أيضاً مثل الخيول والأسلحة والسجاد والأواني المنزلية، حتى إنهم كانوا يباعون أحياناً مقابل الحمار أو البغل، ويقال إن عبيد شيترال كانوا الأكثر طلباً بعد العبيد الإيرانيين في الأسواق التركستانية بسبب جمالهم إضافة إلى ولائهم وطاعتهم لأسيادهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم يكن العبيد يباعون دائماً، بل كان المهتر في شيترال يقدم النساء قسراً كهدايا لحكام الولايات المجاورة، واشتهرت نساء الولاية الباكستانية بجمالهن ولهذا كان حرم حكام كشمير وكابل وبدخشان يضم نساء شيترال اللاتي أرسلن من قبل المهتر إلى هؤلاء الحكام كبادرة حسن النية، وهذه الهدايا لم تقتصر على النساء فقط، بل كان الغلمان الشيتراليون يرسلون أيضاً لحكام الولايات المجاورة، وكان هؤلاء الغلمان محل إعجاب الحكام لولائهم لهم.
حرم المهتر نفسه أيضاً كان يشمل المحظيات اللاتي كن يلقبن بـ"قمائي"، لكن لا يمكن القول بالتأكيد إذا كانت هؤلاء المحظيات من العبيد، فلم تكن نساء الحرم عادة من الرقيق بل كن نساء أحراراً يدخلن الحرم بغرض التقرب من المهتر أو الحصول على عوائد مادية منه، وبعض النساء تم اتخاذهن "قمائي" قسراً، وتشتهر في هذا الصدد رواية تقليدية تقول إن علماء شيترال المحليين أفتوا للمهتر بسماح اتخاذ أي امرأة قمائي لأن جميع رعايا شيترال عبيد للمهتر.
الطبقية والعبودية
في العصور القديمة، كان مجتمع شيترال يتألف من طبقات مختلفة، حيث تم تقسيم الناس على أساس العرق، والقبيلة، والقوة والنفوذ السياسي، الشرفاء أو الطبقة العليا كانت تسمى "آدم زادہ"، والطبقة الوسطى كانت تسمى "یوفت" أما الطبقة الدنيا فكانت تسمى طبقة الفقراء والمساكين، وحسب الصلاحيات التي أعطاها المهتر لنفسه، كان يحق له أن يستولي على أراضي وممتلكات أي شخص واتخاذه عبداً أو بيعه خارج شيترال باستثناء الأشخاص الذين ينتمون لطبقة آدم زاده.
العبودية والطبقية كانت مرتبطة ببعضها في المجتمع الشيترالي، فطبقة الفقراء والمساكين تتألف من مزارعين يعملون لدى الناس مقابل أخذ الأراضي، ويمكنهم التحرر من العمل بإرجاع الأراضي إلى أصحابها، وهناك مجموعة أخرى في طبقة الفقراء والمساكين تسمى خانة زاد، وهؤلاء كانوا عبيداً لطبقة الشرفاء ولا يحصلون على أرض أو مقابل للعمل الشاق الذي يقومون به ويحق لأسيادهم أن يتاجروا بهم.
العبودية كانت تستخدم أيضاً كعقاب للمجرمين من الطبقات الدنيا، فأحياناً كان يباع أهل المجرم بعد قتله، وكان المهتر إذا غضب من شخص يسلمه لوزير المالية حتى يباع في الخارج أيضاً، وكان أسرى الحرب، خصوصاً الجنود الشيعة والدوغرا المهاجمين من منطقة غلغت، يتخذون عبيداً.
كتب فيض بخش، أحد الضباط المحليين، للاستخبارات البريطانية في تقرير سري أعده الإنجليز عام 1883 أنه لو ارتكب أحد الأفراد من طبقة الشرفاء جريمة القتل فبدلاً من معاقبة الجاني، كان يتم استعباد وبيع أفراد العائلة التي تربى وترعرع فيها، إضافة إلى ذلك، كان المديونون والسارقون والمسافرون بمفردهم من الطبقات الدنيا يستعبدون ويتاجر بهم.
كان المهتر قادراً على استعباد أي شخص دون أي سبب ودون إبداء أي تبرير، لذلك كان بعضهم يستغل سلطته في حماية أسوأ أنواع العبودية، وساد في عهد المهتر أمان الله على سبيل المثال بيع الأرامل والأيتام.
استهداف قبيلة كالاش
معظم المستعبدين في شيترال كانوا ينتمون إلى قبيلة كالاش التي ترجع أصولها لمنطقة نورستان في أفغانستان التي كانت تسمى كافرستان، قبل أن يحول حاكم كابل الأمير عبدالرحمن شعبها إلى الإسلام قسراً.
قبل هذه الحادثة، كان من المعتاد أن يغزو مهتر شيترال كافرستان ويستعبد أفراد شعبها، بعض المراجع التاريخية تعطي انطباعاً أن الكالاش والإسماعيليين فقط كانوا ضحايا الاستعباد، لكن يبدو أن العبودية تتعلق بالطبقية الاجتماعية أكثر من علاقتها بالمعتقد الديني والمذهب.
ويحكى في بيع الرقيق من المشاهد الدامية ما تدمع له العيون ويفطر القلوب حتى إن أنينهم عند توديعهم في القلعة التي يجلبون إليها للبيع كان يقض مضجع المهتر نفسه وأهله.
تقول الرواية إن المهتر أمر بأن تقرع الطبول الملكية وقت مغادرة العبيد حتى لا تصل صرخاتهم إليه، وذات مرة، توفي أحد أبناء المهتر الصغار وشرع أهله في الحداد حزناً، وعندما وصل صوت بكائهم إلى أصحاب الطبول ظنوا أنها أصوات العبيد فتسلقوا أبراج القلعة وبدأوا يقرعون الطبول كعادتهم تنفيذاً لأمر المهتر الذي وبخهم بعد ذلك على صنيعهم.
يحكي لنا أحد الأفراد من قرى شيترال أن جده وجد في طريقه إلى شيترال عائداً من كابل امرأة اشتراها تجار بدخشان من المهتر، توسلت هذه المرأة للرجل بأن يشتريها من التجار ويعيدها إلى وطنها ووعدته بأنها ستعطيه قطعة أرض مقابل ذلك بعد عودتها إلى شيترال، استجاب الرجل لطلب المرأة وحررها بـ240 روبية وأعادها إلى بلدها، ولا تزال قطعة الأرض التي حصل عليها الرجل من المرأة مقابل هذا المعروف في حوزة عائلته اليوم.
فيض بخش، الضابط الذي سبق ذكره، نقل أيضاً في تقريره طلباً من امرأة مغلوبة الحال للمهتر تقول فيه إن المسؤولين تحته أخذوا ابنيها العام الماضي وباعوهما في بخارى، والآن أخذ مسؤول آخر ابنها الأخير معه. توسلت المرأة في طلبها للمهتر كثيراً بأن يصدر حكم استعادة ابنها وستدعو له دعوة أم لو فعل ذلك، لكن المهتر لم يعرها أي اهتمام.
يصف تقرير آخر مشابه لتقرير فيض بخش لقاء جمع زعماء شيترال وبدخشان، حين تم تقديم 21 عبداً كهدية من شيترال إلى زعماء بدخشان.
متى انتهت ظاهرة العبودية في شيترال؟
كان المهتر أمان الله يتمتع بعلاقة وطيدة مع الإنجليز الذين كانوا يذكرونه دائماً في مراسلاتهم أن إنهاء تجارة العبيد في شيترال أحد شروط إبقاء علاقة جيدة معها.
في أواخر القرن الـ19 الميلادي مع ازدياد النفوذ البريطاني في أفغانستان والنفوذ الروسي في وسط آسيا، بدأ حظر أسواق الرقيق هناك وانكمشت تجارة العبيد في شيترال تبعاً لذلك، لأن العبيد كانوا يرسلون من شيترال إلى تلك الأسواق.
السياسة والخلافات الداخلية لعبت دوراً أيضاً في إنهاء الاستعباد، حين بدأ الخلاف على السلطة في العائلة المالكة بعد وفاة المهتر أمان الله عام 1892، هذه الفترة كانت فترة "اللعبة الكبرى" بين بريطانيا وروسيا، وكان الإنجليز ينظرون لشيترال كمنطقة عازلة بينهم وبين الروس، لذا لم يريدوا أن ينعدم فيها الأمن أو تنتشر فيها الفوضى.
خلال هذه الفترة، استخدم الإنجليز نفوذهم ووضعوا الشاب شجاع الملك على حكم شيترال لتحقيق مصالحهم، وكان شجاع الملك حاكماً صورياً فقط وكانت السلطة الحقيقية في يد المفوض السياسي الإنجليزي، وسنحت الفرصة آنذاك للإنجليز فأنهوا تجارة العبيد تماماً في شيترال.
في الجانب الآخر، لم يشعر الإنجليز بضرورة تشريع القوانين لمنع الاستعباد داخل شيترال، بل كان المزارعون محور التشريعات الإصلاحية، لأن الشرفاء في شيترال كانوا يعتمدون على المزارعين أكثر من العبيد، ولم تكن أعداد الخانة زاد كبيرة في شيترال، إضافة إلى أن تعامل المحليين مع العبيد لم يكن سيئاً للغاية.
ختاماً، الاتجار بالناس وبيعهم في مناطق نائية كان فصلاً مظلماً في تاريخ شيترال، ولا يزال الناس يذكرون الحكم المهتري كنظام قمعي بسبب هذه الممارسات، وربما لهذا السبب يقال للظلم القاسي في شيترال اليوم "الظلم المهتري".