ملخص
تجري البحرية الأميركية مناورات على أهداف صينية وهمية في البحر الجنوبي، فما تداعياتها على أرض الواقع؟
من المقرر أن تغرق البحرية الأميركية سفينة حربية وهمية في بحر الصين الجنوبي يوم الأربعاء ضمن مناورات بالذخيرة الحية بين الولايات المتحدة والفيليبين، في خطوة من شأنها أن تثير غضب بكين التي ردت من قبل على أفعال مماثلة بإجراء مناورات عسكرية حول تايوان ضمت سفناً حربية وطائرات مقاتلة، فيما تشعر بأن الولايات المتحدة تتحداها بتعزيز دفاعاتها شرق آسيا وعقد اتفاقات جديدة مع الفيليبين وكوريا الجنوبية وتسير سفنها الحربية حول تايوان وفي بحر الصين الجنوبي، فهل ترسم واشنطن خطوط المعركة في شرق آسيا على رغم أن الحرب الحقيقية تظل بعيدة في الأفق؟
من يحدد المستقبل؟
على رغم تأكيد كل من الولايات المتحدة والفيليبين أن تدريبات الذخيرة الحية في بحر الصين الجنوبي ليست رداً على التوترات المتزايدة مع الصين في شأن تايوان، فإن بكين ليست سعيدة بالوجود العسكري المتزايد للولايات المتحدة في المنطقة، الذي تعتبره استفزازاً للصين وتهديداً لمصالحها الاستراتيجية، غير أن المناورات العسكرية الأميركية التي تنتهج مبدأ العين بالعين والفعل يقابله رد فعل تؤكد حقيقة اضطر رؤساء الولايات المتحدة إلى التعامل معها على هذا النحو، منذ أن جعل الرئيس ثيودور روزفلت الولايات المتحدة القوة البحرية المهيمنة في المحيط الهادئ منذ أكثر من قرن.
لكن هذا الوضع مهدد الآن بحسب ما تقول أستاذة العلوم السياسية في جامعة تينيسي كريستا وغاند، إذ تسعى الصين لإزاحة الولايات المتحدة من مكانتها الرائدة في المحيط الهادئ، وأصبحت بالفعل تمتلك أكبر عدد من القطع البحرية في العالم (730) مقابل (484) تمتلكها الولايات المتحدة، فيما يدرك الطرفان أن هذا التنافس المتزايد للهيمنة على المحيط الهادئ سيحدد الجغرافيا السياسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على مدى الأعوام الخمسين المقبلة.
تغير استراتيجي كبير
ولهذا السبب، عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري في شرق آسيا من خلال الحصول على موافقة الفيليبين باستخدام تسع قواعد على مدى العام وبما يسمح للقوات الأميركية التحرك بحرية خلال التدريبات العسكرية، أو في حالة حرب حقيقية، وتدعم هذه القواعد الآن أكثر من 17 ألف جندي أميركي وفيليبيني في أكبر مناورات حربية بين البلدين منذ سنوات، مما يعد تغيراً استراتيجياً كبيراً، يعود الفضل فيه إلى الرئيس الفيليبيني بونغ بونغ، نجل الديكتاتور السابق فرديناند ماركوس، الذي قرر أن المستقبل يكمن في تجديد العلاقات الوثيقة مع واشنطن وقلب سياسات سلفه رودريغو دوتيرتي المعرقلة للتحالف الأميركي الفيليبيني، والراغبة في مغازلة الصين وتعزيز العلاقة الدافئة مع بكين لتجنب الصراع المسلح في بحر الصين الجنوبي.
دوافع بونغ بونغ تتمثل في اقتناعه بأن هناك حاجة إلى الوجود العسكري الأميركي بسبب مضايقة الصين القوارب الفيليبينية في بحر الصين الجنوبي، ومطاردتها إلى خارج مناطق الصيد التقليدية والتهديد بالاستيلاء على جزر فيليبينية صغيرة كما تشير بعض وسائل الإعلام الفيليبينية، لكن فكرة تعزيز القوات الأميركية والفيليبينية للدفاعات المشتركة يشكل تحدياً للقوات الصينية التي عملت على توسيع القواعد الجوية والبحرية في جزر سبراتلي داخل بحر الصين الجنوبي على مدى سنوات.
صراع متجدد
وكلما تحدت السفن البحرية الأميركية ادعاء الصين بالسيطرة على أحد الممرات المائية الدولية الحاسمة في العالم داخل بحر الصين الجنوبي، احتجت بكين بقوة وحذرت من تداعيات ما تصفه بالاستفزازات الأميركية، وعلى سبيل المثال اتهمت الصين في الآونة الأخيرة مدمرة أميركية تدعى ميليوس بانتهاك سيادتها عبر الإبحار ضمن مسافة 12 ميلاً من مدرج هبوط بناه الصينيون على شعب مرجانية في جزر سبراتلي، وهي منطقة كانت مغمورة جزئياً بالمياه قبل سنوات اعتماداً على الطقس والمد والجزر، لكن المهندسين الصينيين جعلوها منشأة عسكرية دائمة ومركزية للدفاع عن مطالبتهم بالبحر المحيط بالجزر، لكن بياناً صادراً عن الأسطول السابع للولايات المتحدة أوضح أن مجرد تحويل الصينيين الشعاب المرجانية إلى قاعدة لا يدعم مطالبهم ولا يجعلها شرعية.
وينذر هذا الوضع بمزيد من التصعيد والتوتر، إذ تقع إحدى القواعد الفيليبينية التي يمكن للأميركيين الوصول إليها في جزيرة بالاوان الواقعة جنوب غربي الفيليبين التي تواجه بحر الصين الجنوبي حيث تنتشر القوات البحرية والجوية الصينية، وعلى رغم امتناع الولايات المتحدة والصين عن إطلاق النار حتى الآن والتحلي بضبط النفس، فإن طائراتهما حلقت بشكل خطر بالقرب من بعضها بعضاً في بعض الحالات.
نزاعات بحرية أوسع
ولا تقتصر النزاعات البحرية الجارية على الفيليبين، إذ تتحدى الصين بانتظام الحقوق البحرية لفيتنام وماليزيا وبروناي وإندونيسيا في بحر الصين الجنوبي، واليابان في بحر الصين الشرقي، لكن المياه المتنازع عليها لها أيضاً أهمية استراتيجية كبيرة للولايات المتحدة، إذ تستعرض الصين قوتها العسكرية المتنامية في مواجهة حلفاء وشركاء أميركا، لا سيما تايوان التي التزمت الولايات المتحدة الدفاع عنها، وإذا اندلعت شرارة الحرب بين الصين والولايات المتحدة حول تايوان في أي وقت فسيكون بحر الصين الجنوبي ساحة رئيسة في المعارك لأسباب اقتصادية وجيوسياسية.
على مدى قرون كانت عشرات الجزر والمياه الضحلة والشعاب المرجانية والصخور في بحر الصين الجنوبي تمثل أخطاراً على الملاحة، لكن مع اكتشاف احتياطات كبيرة من النفط والغاز في السبعينيات وعديد من مصايد الأسماك التي تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات، اكتسب البحر الذي تم تجاهله في السابق اهتماماً كبيراً من البلدان التي تطل على شواطئه، وأدى ذلك إلى إحياء المطالبات المتضاربة في شأن حقوق الملكية والسيطرة على البحر، إذ تطالب الصين حالياً بحقوق قانونية في الغالبية العظمى من بحر الصين الجنوبي، التي تمتد إلى ما هو أبعد من الحدود التي حددتها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982.
تكتيكات المنطقة الرمادية
يتداخل هذا الادعاء الصيني، المحدد على الخرائط بتسعة خطوط، مع الحقوق البحرية والإقليمية المعترف بها قانوناً للفيليبين وفيتنام وماليزيا وبروناي وإندونيسيا، وعلى مدى العقد الماضي انخرطت الصين باستمرار في أنشطة قسرية منخفضة المستوى تسمى "تكتيكات المنطقة الرمادية"، إذ ينتشر على نطاق صغير خفر السواحل الصيني في المياه المتنازع عليها ويتم تزويد سفن الصيد بالمدنيين المدربين من قبل الجيش الصيني بهدف مضايقة الآخرين وتأكيد الحقوق البحرية الصينية خارج المياه الصينية القانونية، على النحو المعترف به بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
ومنذ عام 2013 شيدت الصين جزراً اصطناعية فوق عديد من الشعاب المرجانية والمياه الضحلة، وأقامت قواعد عسكرية مع مدارج طائرات وعززتها بتكنولوجيا الرادارات وقدرات لإطلاق الصواريخ، لكن في عام 2016 قضت لجنة تحكيم تابعة لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بأن مطالبات الصين المكونة من تسعة خطوط تعد غير قانونية، ورفضت حقوق الصين في المعالم البحرية في المياه القانونية للفيليبين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن على رغم الطبيعة الملزمة قانوناً للحكم، استمرت الصين في عسكرة جزرها المصطنعة ومضايقة السفن العسكرية وسفن الصيد في البلدان المجاورة، كما رفضت دخول سفن البحرية الأميركية التي تبحر عبر المياه في بحر الصين الجنوبي، وهو ما جعل الإدارات الأميركية المتعاقبة تبدي قلقها في شأن التطورات في البحر، ففي عام 2020 أصدر وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو موقفاً أميركياً في شأن بحر الصين الجنوبي، رافضاً مزاعم الصين البحرية وتكتيكاتها التي وصفها بأنها "تنمرية وغير قانونية"، كما أعلن خليفته أنتوني بلينكن عام 2021 أنه لا يوجد مكان يتعرض فيه النظام البحري القائم على القواعد لتهديد أكبر من بحر الصين الجنوبي.
أهمية بحر الصين الجنوبي
وفقاً لدراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، يمر ثلث حركة الشحن العالمي أي ما يصل إلى أكثر من 3.4 تريليون دولار من المنتجات، عبر مياه بحر الصين الجنوبي الذي يربط المحيط الهادئ بالمحيط الهندي، مما يسمح للتجارة من دول شرق آسيا بالتدفق من وإلى مليارات الأشخاص في جنوب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا، كما يمر من خلاله 14 في المئة من جميع حركة التجارة البحرية الأميركية، ولهذا فهو طريق حيوي للبضائع الصادرة من وإلى الولايات المتحدة ومن دونه، يتباطأ نقل المنتجات ويتزايد سعرها.
وبحسب إدارة المعلومات في وزارة الطاقة الأميركية يمر نحو 30 في المئة من جميع النفط الخام العالمي عبر بحر الصين الجنوبي، كما أن هناك ما يقدر بنحو 11 مليار دولار من النفط و190 تريليون قدم مكعب من رواسب الغاز الطبيعي المؤكدة في البحر، إضافة إلى النفط والغاز غير المكتشفين، وفي الوقت نفسه يعمل أكثر من نصف سفن الصيد بالعالم في بحر الصين الجنوبي، ولهذه الأسباب الاقتصادية فقط تحتاج الولايات المتحدة وبقية دول العالم إلى طرق تجارية مفتوحة وممرات بحرية في بحر الصين الجنوبي.
سياسات القوة في البحر
على رغم أن الاقتصاد يلعب دوراً فإن تصرفات بكين في بحر الصين الجنوبي هي جزء من حملة أوسع بكثير، إذ تنظر بكين إلى السيطرة الإقليمية والبحرية في المنطقة من منظور أمنها القومي، وهي تسعى إلى إبراز قوتها في المنطقة والدفاع عن البر الرئيس الصيني، وبحسب الحكومة الأميركية تتطلع الصين إلى قلب الوضع الراهن، واستبدال الولايات المتحدة كقوة عظمى، بل بدأت هذه المعركة تتشكل بالفعل في بحر الصين الجنوبي، مع مواجهات منتظمة بين السفن البحرية الأميركية والميليشيات البحرية الصينية.
ووسط هذه المواجهات تزود الجزر الاصطناعية في بحر الصين الجنوبي بكين بقدرات عسكرية تتجاوز حدود البر الرئيس وحده، إذ يمكن استخدام هذه الجزر للمساعدة في مواجهة ومحاربة الولايات المتحدة وحلفائها في حرب محتملة حول تايوان على سبيل المثال، وهو ما يشكل خطراً لمصالح الأمن القومي لواشنطن، وهذا هو السبب في قيام الولايات المتحدة وحلفائها بمهام لتأكيد حرية الملاحة عبر بحر الصين الجنوبي والمشاركة في التدريبات البحرية مثل تلك التي تجري مع الفيليبين، الأمر الذي يبقي خطر الاشتباكات في البحر حقيقياً للغاية، بل قد يؤدي إلى صراع بين أقوى دولتين في العالم اليوم.
جوهر المواجهة
يزيد من احتمالات التوتر والصراع أن التحول الأخير في سياسة الفيليبين تجاه الولايات المتحدة يوازيه تحول مماثل في سياسة كوريا الجنوبية، إذ أيد رئيسها يون سوك يول المناورات العسكرية البرية والبحرية والجوية المشتركة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، والتي كان قد ألغاها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بعد قمته في سنغافورة مع كيم يونغ أون، زعيم كوريا الشمالية عام 2018، واستمر الرئيس الكوري الجنوبي السابق مون جاي إن في عرقلة المناورات المشتركة لبقية فترة رئاسته وحتى هذا العام، إذ كان على الأميركيين والكوريين الجنوبيين أن يكتفوا بألعاب حربية معقدة على أجهزة الكمبيوتر لا تشبه تماماً المناورات بالذخيرة الحية التي تحاكي أحداث العالم الحقيقي.
ومع ذلك فإن جوهر المواجهة المتصاعدة الأخطار يتمثل في المياه المحيطة بتايوان، حيث تحلق بشكل روتيني تقريباً الطائرات الصينية في منطقة تحديد الدفاع الجوي في تايوان، بينما تقترب السفن الحربية الصينية من المياه الإقليمية للجزيرة ضمن لعبة ترهيب لمعاقبة رئيسة تايوان تساي إنغ وين لتعايشها مع الأميركيين الذين تعول عليهم للحصول على الأسلحة، على رغم أن الولايات المتحدة تعترف "بصين واحدة" عاصمتها بكين.
بالنسبة إلى الصينيين فإن إحياء العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة والفيليبين أمر مقلق بالقدر نفسه، ذلك أن ثلاثاً من القواعد الفيليبينية التسع التي يمكن للأميركيين الوصول إليها تقع ضمن النطاق الذي يمكن الطائرات المقاتلة الأميركية تنفيذ عملياتها في تايوان، وقد وعد الرئيس بايدن بأن الولايات المتحدة ستفي بالتزامها الدفاع عن تايوان، لكن في حالة نشوب حرب من أجل تايوان ستكون كوريا الجنوبية مترددة في الانضمام إلى المعركة، إذ لا يريد الكوريون إثارة غضب الصين في صراع حول الجزيرة، كما أن كوريا الجنوبية مثل معظم البلدان الأخرى تعترف بتايوان كمقاطعة صينية.
غير أن قرب تلك القواعد الفيليبينية من تايوان لا يقل أهمية عن قربها من بحر الصين الجنوبي، وقلما تدخل السفن الحربية الأميركية مضيق تايوان بشكل دوري، فإنها تفعل الشيء نفسه في بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي يبدو كما لو أن خطوط المعركة المقبلة يتم رسمها من أجل المواجهة، على رغم أن الحرب الحقيقية تظل سحابة بعيدة في الأفق.