في مطلع كل صيف يبدأ في أوروبا وفرنسا تحديداً، موسم يسمى "القراءة الصيفية". هذا الموسم ترسّخ عاماً تلو آخر وبات ينتظره القراء كما ينتظرون عادة موسم الخريف أو الشتاء. وعلى غرار المواسم أضحت له طقوس يتم خلالها الاحتفال بالقراءة والكتاب على اختلاف أنواعه وحقوله. ولعل من أبرز هذه الطقوس هو طقس الترويج لهذا الموسم وللقراءة خصوصاً، وهو ينم عن مدى احترام دور النشر الفرنسية القارئ والكتاب. واعتمدت هذه الدور أساليب راقية وفريدة في الترويج لهذا الموسم الذي يدوم ثلاثة أشهر. هذا الصيف مثلاً نشرت دار دونو إعلاناً غاية في الطرافة يروج للفلسفة التي يمكن جداً قراءتها خلال الإجازة، على الشاطئ أو في حديقة، في الطائرة أو في القطار. واختارت جملة بديعة للإعلان هي "كرسي بحر، شمس، كتاب... لذة الذهاب إلى لقاء الأفكار الكبيرة والمفكرين الكبار". وحوت هذه السلسلة الصيفية كتباً تحمل الوصفة نفسها: كارل ماركس على الشاطئ (تأليف فرانسي ميتيفيه)، كانط على الشاطئ (تأليف جان نونا دوكانج)...اينشتاين على الشاطئ (تأليف مارك لا شياز راي) هذه الكتب الموضوعة لتقرأ فعلاً في الإجازة الصيفية تقارب موضوعاتها بعمق وبساطة في آن واحد، متوجهة إلى القراء العاديين والمتخصصين الذين يبغون استعادة الفلسفات الكبيرة وهم في حال من الاسترخاء. عطفا على كتب أدبية وروائية لكتاّب كبار مثل بروست وكوليت... وأذكر أنني قرأت مرة تحقيقاً في مجلة فرنسية عنوانه "قراءة الفلسفة على الشاطئ"، وحمل الغلاف صورة لفتاة تتمدد على الرمل وبين يديها كتاب لأفلاطون تقرأه والبحر وراءها. حينذاك كان لا بد من طرح السؤال: هل تمكن قراءة الفلسفة على الشاطئ خلال إجازة الصيف، أم أنها حملة إعلانية ذكية لترويج القراءة؟ لكنّ أرقام المبيع في الصيف، كما تشير مجلة اتحاد الناشرين الفرنسيين "ليفر إيبدو" هي إلى ارتفاع، وهذا ما يشجع دور النشر على المضي في مشروعها الصيفي. تُرى لو حمل قارئ عربي كتاباً لأفلاطون أو نيتشه أو الفارابي وسواهم وذهب إلى الشاطئ، ألن يكون محط أنظار المستحمين الذين سيتحسرون عليه ويسخرون منه ربما، مدهوشين ومستغربين تصرفه الشاذ؟ القراءة الحقيقية مستهجنة على شواطئنا وفي حدائقنا خلال الصيف، مثلما هي مستهجنة في أي مكان عام، ما عدا بعض المقاهي التي يحمل بعض روادها كتباً ومجلات وصحفاً.
القراءة تحت الشجر
إعلان آخر أبدعت إحدى دور النشر في ابتكاره، يمثل رجلاً جالساً على مقعد في حديقة، وخلفه شجرة تتدلى من أغصانها كتب. وبدا الرجل كأنه ينتظر سقوط كتاب مثلما تسقط الثمرة، ليلتهمه ولكن بعينيه. هذا إعلان أشبه بعمل فني يحمل بعداً رمزياً فهو يذكر بشجرة المعرفة التي جرى الكلام عنها في الكتب الدينية، وليس الرج لسوى المخلوق التائق إلى المعرفة. هكذا يبدأ صيف الناشرين والقراء في فرنسا وبعض الدول الغربية، مثلما يبدأ خريفهم أو شتاؤهم تقريباً، والفرق أن موسم القراءة في الصيف يحل في الحدائق، في الجبال أو على الشطآن، ويتمتع القراء خلاله بجمال الطبيعة التي تحيط بهم. أما موسم الشتاء، فيحل في المترو والباصات أو المقاهي، علاوة على المنازل التي تحلو فيها القراءة. لم أشاهد إعلاناً "صيفياً" أجمل من إعلان نشاهد فيه رجلاً أو امرأة يضعان بضعة كتب في الحقيبة التي سيحملانها في إجازة الصيف، وكأن هذه الإجازة لا تكتمل من دون قراءة الروايات، أياً تكن، أو الكتب الأخرى التي تعني الذاهبين إلى إجازتهم. تُرى هل يقدم الرجال والنسوة العرب والشباب خصوصاً، على وضع كتب في الحقائب عشية السفر في إجازة قد تطول؟ ألا تعني الإجازة عربياً استراحة من كل ما يشغل العيون والرأس والمخيلة؟ هنا، لا بد من استثناء نخبة من القراء العرب، يظل الكتاب واحداً من هواجسها. لكنها تظل نخبة ونادراً ما تتسع رقعتها لتشمل أعداداً كبيرة. ويمكن الإشارة إلى أن قراء الرواية في العالم العربي يرتفع عددهم، بخاصة مع بروز ظاهرة الجوائز وفي مقدمها جائزة البوكر العربية وبروز ظاهرة الروايات المترجمة. وهاتان الظاهرتان تحتاجان إلى مقال على حدة. غير أن ظاهرة الروايات المترجمة رائجة أيضاً في أوروبا والغرب عموماً. أجرت مرة مجلة "لير" (القراءة) الفرنسية تحقيقاً حول القراءة الصيفية في أوروبا، ودار الاستفتاء تحديداً حول الكتب المحلية والعالمية التي يقبل عليها القراء في كل دولة. ولم يكن مفاجئاً أن تحل في المرتبة الأولى أوروبياً رواية الأميركي دان براون " دافنتشي كود " وفي المرتبة الثانية رواية الكاتب البرازيلي المشهور باولو كويلو "إحدى عشرة دقيقة". روايتان شعبيتان جداً تنتميان إلى ما يسمى "البست سلرز" استطاعتا أن تغزوَا أوساط القراءة في أوروبا والعالم. يأخذ بعض المثقفين الأوروبيين على بروز "الرواية الرائجة" (البست سلرز ) في صيف أوروبا على حساب الروايات الجادة والطليعية. وقد يكون هذا من حقهم، فهذه الروايات غالباً ما ينطوي أثرها بعد فترة قصيرة لأنها لا تنتمي إلى الأدب الحقيقي.
تقاعس الناشرين العرب
إذا سألت بعض الناشرين العرب عن تقاعسهم في إحياء حملة ترويجية للقراءة في الصيف، يكون جوابهم جاهزاً في الغالب: إذا كان الناس لا يقرأون في الشتاء فهل يقرأون في الصيف خلال الإجازة؟ ويبدو واضحاً أن الناشرين في عالمنا العربي لا يبالون كثيراً بموسم الصيف ولا يضعون خطة لترويج الكتاب خلال الشهور الثلاثة. لم نشاهد مثلاً إعلاناً واحداً عن مهرجان صيفي للكتاب، ولم نقرأ خبراً عن معرض كتب أو عن تظاهرة تكون القراءة نجمتها. غير أن بعض المعارض الصغيرة والمحلية تقام في ساحات المهرجانات الفنية والغنائية التي تعم مناطق عدة في بلدان عربية عدة. إنها معارض على هامش الحفلات الفنية والطربية وقليل جمهورها.
يصعب أن يتحول الكتاب في العالم العربي رفيقاً دائماً للأفراد، وأن تصبح القراءة بذاتها متعة دائمة تماثل المتع الأخرى التي تحتل حياة الفرد العربي. وعوض أن تنتعش دور النشر والمكتبات في الصيف تغدو كأنها ضامرة وغائبة ومنصرفة بدورها إلى عطلة الصيف. وحال كهذه تزيد من حال اليأس الثقافي وتسلط الضوء مرة أخرى على أزمة القراءة المتفاقمة في العالم العربي. هل يمكن أن يواصل عدد القراء العرب تراجعه بدلاً من أن يتقدم وأن تقفل مكتبات كثيرة أبوابها سنة تلو أخرى كما حصل ويحصل؟ هل يمكن أن يظل الكتاب محصوراً بفئة قليلة جداً هي إلى مزيد من الانحسار؟ كلما طرحت قضية "الكتاب" العربي ارتفعت استغاثة الناشرين وصرخة الكتاب والمؤلفين... والأسباب هي نفسها والجميع يعرفها ولكن ما من حل.
الصحافة الثقافية
اللافت أن الصفحات الثقافية في الصحافة الأوروبية، تفرد كعادتها كل صيف، مساحات لما يسمى "قراءات صيفية". هذا تقليد درجت عليه هذه الصحافة متعاونة مع دور النشر والمؤسسات التي تعنى بصناعة الكتاب. تقدم الصحف والمجلات "جردة" شاملة عن الكتب التي تكون في متناول القراء، تصنفها، وتدرجها في "دليل" بحسب الأنواع والموضوعات، وتقدم نصائح مهمة للقراء. وتركز هذه الصفحات كثيراً على كتب "الجيب" الشهيرة والرائجة جداً. وظاهرة كتب "الجيب" نفتقدها كثيراً في العالم العربي، علماً أنها أضحت عريقة في أوروبا وأميركا وأميركا اللاتينية وشرق آسيا... ولا يمكن فصلها عن سياسة النشر وخططه الترويجية. وهذه قضية تحتاج إلى مقال على حدة أيضاً. أما الصحافة العربية فنادراً ما تولي "قراءة الصيف" اهتماما، فتهيء قوائم تضم عناوين صالحة للقراء خلال الصيف. وقد تتحمل دور النشر العربية جزءا كبيرا من تقاعس الصحافة في هذا القبيل، فهي تكاد لا تمدها أصلا بإصدارتها ولا تسعى معها لتثبيت برنامج للقراءة.