ملخص
تسبب الحروب القتلى والجرحى والدمار وأيضاً ضياع الفرص والأحلام
لم ينم تلك الليلة، فقد اقترب موعد مقابلته في السفارة البريطانية للحصول على تأشيرة دراسية لدراسة الطب في "جامعة ليفربول"، وهي فرصة سنحت لعبدالنور بعد جهد جهيد، فقد تفوق في الدراسة وحصل على واحدة من البعثات المحدودة العدد لبعض المتفوقين في الدراسة الثانوية بالسودان يقدمها المجلس البريطاني.
يوم الإثنين الـ 17 من أبريل (نيسان) الجاري وتحديداً الساعة الـ 10:00 صباحاً ستكون ولادة الأمل بمستقبل أفضل لعبدالنور وأسرته الفقيرة، وليس الفقر عيباً فهو منتشر في السودان، وعلى رغم فقر عائلته إلا أن حالها أفضل بكثير من حالات غالبية الأسر في هذا البلد المنكوب والمفقر بالحروب والدمار والعسكر.
رسم عبدالنور الطريق التي ستقوده من أم درمان إلى السفارة البريطانية بالخرطوم، سيصل باكراً حتماً ولن يتأخر عن الموعد أبداً، فهو موعد مع الأحلام، موعد مع الأمل، موعد مع العلم والتعليم والطبابة وخدمة الإنسان والحرية والخروج من دائرة العوز والحاجة ومساعدة عائلته التي تحتاج منه الكثير وتعلق عليه الآمال الأكثر.
كانت تخالجه مشاعر التعاطف مع والدته عائشة التي ترملت باكراً ولم تتزوج بعد وفاة والده عبدالدايم لحبها لأولادها فاطمة وأمل المتزوجتين، حيث فاطمة تعيش مع زوجها، وأمل تعيش وزوجها، ابن خالتها، معهما في البيت الصغير نفسه، وعبدالنور الأصغر الذي تكنه والدته في عينيها وتخبؤوه دواخل قلبها، فعبدالنور بالنسبة إليها رؤوف وذكي وجميل وحبيب وعطوف ويمثل لها الرجاء والبقاء.
والدة عبدالنور وأختاه أصرتا عليه بقبول البعثة والبحث عن فرصة أفضل للحياة، وعلى رغم تردده من أجل البقاء مع والدته إلا إنه رأى في هذه الفرصة النادرة معبراً لحياة أفضل وتعليم أرقى وأهداف أسمى، وقارب عبور نحو بحبوبة العيش التي سيوفرها لوالدته التي أنهكتها السنون، إذ مضى العمر وبقي عندها الأمل.
تتطلع عائشة لعبدالنور طبيباً ناجحاً يساعد الناس في علاجهم وأسرته في معاونتهم على شظف العيش، لكن في يوم السبت، أي قبل الموعد بيومين، تفجر القتال وانهارت البلاد ودخلت في حال الانفلات والفوضى والموت، وأغلقت السفارات وهربت البعثات الدبلوماسية فتلاشت الأحلام بأزيز الرصاص، وانهار كل شيء، ومع الانهيار مات موعد عبدالنور مع المستقبل ونور العلم والأمل.
ترى كم عبدالنور ألغيت مواعيدهم مع الأمل بسبب الحروب؟ أعرف شباباً فلسطينيين تقطعت بهم السبل خارج الكويت حين غزاها العراق عام 1990، وأعرف أحلاماً تحطمت على فوهات البنادق والمدافع، وأعرف أسراً "تلخبطت" كل مخططاتها للحياة التي تنشدها وتأمل في تحقيقها.
تسبب الحروب القتلى والجرحى والدمار وضياع الفرص والأحلام، ولا أظن أني كنت سأحقق ما أظن أنه نجاح في حياتي لولا فرص التعليم والدراسة في الخارج لإكمال تعليمي في دول مختلفة، فأشفقت على عبدالنور الذي نسجت شخصيته وأحلامه ومأساته من وحي خيالي، لأني أدرك أن الحروب تنتج مآسي للأحياء تدفعهم إلى تمني الموت، بل تشعرهم بالحسد والغيرة ممن ماتوا في الحرب وتركوهم يشاهدون أحلامهم تتحطم أمام أعينهم، ومواعيدهم مع الأمل تلغى من دون إشعار بإلغائها.
علينا أن نطالب بتجريم قتل الأمل وإلغاء المواعيد، مثل موعد عبدالنور، واعتبارها جرائم حرب عقوبتها تكون بحبس من تسبب فيها من دون أمل بالخروج إلى الحرية والنور، وقد يكون الموت رحمة لمن بقي حياً من دون أمل، ومن بقي جثة متحركة من دون مستقبل وبلا موعد مع نور العلم، مثل موعد عبدالنور الذي انطفأ بحماقة وجرائم الحروب.