ملخص
العقوبات التي تعكف على صياغتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن يمكن أن توجه صفعة قوية إلى قادة طرفي الصراع المسلح الذين جروا بلادهم إلى الصراع وأخرجوا عملية الانتقال إلى الديمقراطية عن مسارها
مع استمرار المعارك في السودان، بدا استخدام سلاح العقوبات يلوح في الأفق للضغط على طرفي النزاع، لكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً حول تحققها ثم نجاحها، وهل ستقتصر آثارها على طرفي الصراع في شخصيهما أم ستمتد إلى السودان الذي قضى نصف عمره منذ الاستقلال تحت طائلة العقوبات.
تنطلق العقوبات من الإدراك الدولي بأن استعجال استخدام القوة ليس الحل الأمثل لفض النزاع، وإن كانت بعض الدول تدعم العمليات العسكرية، لكنها لا توفر علاجاً عملياً له، وعليه أصبح الرأي العام العالمي غير راغب بشكل متزايد في دعم العمليات العسكرية، واقتصر الأمر على القوات الأممية المشتركة في ظروف ومجالات محددة، ونبع من ذلك إيجاد البديل وهو العقوبات الاقتصادية باعتبارها أداة سياسية متاحة، لكن يكمن التحدي في تبعاتها المترتبة عليها.
تمديد العقوبات
في حين كان السودان يطالب المجتمع الدولي برفع العقوبات عن كاهله، ورفع حظر الأسلحة الذي فرض إبان الحرب التي اندلعت في إقليم دارفور عام 2003، مدد مجلس الأمن الدولي، في التاسع من مارس (آذار) الماضي العقوبات الدولية المفروضة عليه عاماً إضافياً، إذ صوت 13 عضواً من العضوية الكاملة المكونة من 15 عضواً لصالح تمديد العقوبات.
وبينما كان السودانيون يرون أن مبرر العقوبات انتهى بإسقاط النظام السابق، فإن المجتمع الدولي يرى أن الواقع على الأرض في دارفور لم يتغير باستمرار النزاع هناك، كما أن الإجراءات التي فرضها الفريق عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 زادت من ارتفاع المخاوف العالمية بحدوث انقلاب عسكري مما يعني التشبث بالسلطة والعودة إلى ما قبل ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018.
وتعمل الولايات المتحدة، الرائدة في مجال فرض العقوبات على دول عدة خصوصاً النامية، بصياغة عقوبات جديدة ترمي إلى استهداف أفراد طرفي النزاع، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع بسبب النزاع المسلح الأخير الذي نشب بينهما وتعطيل العملية الانتقالية، ووصفت العقوبات التي تعكف على صياغتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بأنها يمكن أن "توجه صفعة قوية إلى قادة طرفي الصراع المسلح الذين جروا بلادهم إلى الصراع وأخرجوا عملية الانتقال إلى الديمقراطية المستمرة منذ سنوات عن مسارها".
ولم تستطع أوساط الإدارة الأميركية حسم النقاش الدائر حول تخصيص فرض العقوبات على السودان بينما لم تفرض ضد قيادات في دول أفريقية أخرى تمر بظروف النزاع نفسها حول السلطة في السودان، ومنها مسؤولو الحكومة الإثيوبية، على رغم شدة الصراع وآثار العنف وضخامة عدد الضحايا واللاجئين.
اقتصاد منهك
يمكن النظر إلى آثار العقوبات السابقة على السودان من خلال نقطتين، الأولى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي، والثانية، ردود فعل المؤسسات الاقتصادية العالمية على تلك الإجراءات. وأعاق هذا الكم من القيود القانونية والتجارية والمالية والتكنولوجية بشكل كبير وصول السودان إلى الاقتصاد العالمي أو تحقيق التنمية الداخلية على رغم توفر الموارد الطبيعية، إذ تعطلت الزراعة بسبب عدم السماح باستيراد المعدات الزراعية، كما تعطلت الصناعة للأسباب ذاتها.
ويظهر السجل التاريخي أن العقوبات الاقتصادية التي فرضت خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير فشلت وأضرت بالبلاد أكثر مما حققت أهدافها، وكانت أداة سياسية عنيفة كونها أوقعت العقوبات على السودان بأكمله، اقتصاده ومواطنيه، ولم تقتصر على القادة في نظام الحكم، الذين كانوا يثرون من عائدات النفط والموارد بالالتفاف حول العقوبات، كما عملت العقوبات على التخفيض من المساعدات الخارجية، ما ألحق أضراراً كبيرة على اقتصاد السودان الذي يعتمد على العون الخارجي.
وعلى رغم ما تتمتع به العقوبات من بعض النجاح في منع نشوب النزاع أو إيقافه، لكنها تعتمد على عوامل، من بينها تقييم بيئة الصراع والتكاليف المرتبطة بفرض العقوبات الاقتصادية، ففي حالة السودان يعاني منذ ثلاثة عقود من تأثير العقوبات في الاقتصاد وحياة المواطنين، حين أبعدته الظروف الاقتصادية عن مواكبة التطور التكنولوجي، كما أثرت في الاستقرار فزادت نسبة الهجرة، وكذلك من بين العوامل كيفية تحديد العقوبات أو أهدافها والمواءمة بينها وبين الطبيعة القاسية لمهمة منع النزاع.
أداة سياسية
بتصنيفه من اقتصادات الدول النامية، فإن استهدافه لا يعادل استهداف الاقتصادات الكبيرة التي لها وزن في الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية، مما يجعل صرامة العقوبات تنعكس بشكل مباشر وكامل على الداخل، ونظراً إلى ضعف تأثيرها في الخارج فإن المجتمع الدولي لن يكون حريصاً على رفعها أو تخفيفها أو حتى التردد في فرضها، ومع ذلك لا يمكن إغفال حقيقة أن الاقتصاد العالمي أكثر تكاملاً وأن العقوبات اليوم لها آثار اقتصادية عالمية أكبر بكثير من أي وقت مضى، وينبغي أن يدفع حجمها إلى إعادة النظر في العقوبات كأداة سياسية قوية لها آثار اقتصادية عالمية كبرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الآثار غير المباشرة للعقوبات المفروضة على السودان، فتمتد إلى صادرات السلع السودانية مثل الصمغ العربي والقطن والسكر والماشية وغيرها، إذ سترتفع الأسعار مما يضغط على فواتير الاستيراد للأسواق والاقتصادات النامية المستوردة لهذه السلع.
خلال الفترة الانتقالية، بدأت المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بذل مساعداتها للسودان، مستندة إلى الشروط السياسية مثل التي تحيط بالبلدان خلال فترات حكمها الانتقالي، وتمثلت تلك المعايير في احترام حقوق الإنسان، والديمقراطية، ومستويات الإنفاق العسكري.
حدة المشكلات
الاقتصاد السوداني لا يتمتع بأدوات سياسية مالية لذا يقع عليه ضغط أكبر مما يقع على اقتصادات الدول النامية الأخرى، فهو يواجه عدداً من المشكلات، منها ارتفاع الديون، وارتفاع تكلفة الإنتاج، وارتفاع أسعار الفائدة، كما يقع عليه مثل غيره عبء الركود التضخمي العالمي.
كانت الخطة الموضوعة بعد إزالة العقوبات السابقة بشكل تام والوصول إلى حكومة مدنية هي أن يساعد عدد من تعديلات السياسة في التركيز على الاستثمار طويل الأجل في البنية التحتية، وهو مشروع ضخم بدأته الصين في فترة استثمارها النفطي في السودان، لكن توقف بعد انفصال الجنوب وفقدان السودان لنحو 75 في المئة منه.
كما أنه بسبب التضخم لم يستطع تجنب تشديد السياسة النقدية لمنع هروب رأس المال، ثم أطل الفشل في معالجة مشكلات الديون وميزان المدفوعات وتبددت الوعود الدولية بهيكلة الديون واستفادة السودان من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك).
وإضافة إلى هذه المشكلات التي يتوقع زيادة حدتها، فإن هنالك مشكلة تتعلق بتعطل الإغاثة الإنسانية بعد إجلاء موظفي الإغاثة على أثر تعرض بعضهم للقتل ونهب مواردها، مما يحدث نقصاً كبيراً في الغذاء والدواء، ويثقل بالتالي على ميزانية الدولة التي تتوزع بين الصرف على الحرب والحالات الإنسانية.
هذه الحرب المدمرة تهدد أيضاً دول الجوار ومصالح الدول الكبرى في المحيط الإقليمي، كما أنها تشكل كارثة إنسانية تتحمل القوى العظمى والمنظمات الدولية مسؤولية أخلاقية لمعالجتها، من واقع أنها ستفرض تكلفة توفير حل لمشكلة اللاجئين يقع عبؤها على الأمم المتحدة، وتهدد ممرات التجارة العالمية وغيرها من الآثار.
فاعلية العقوبات
بالنظر إلى التجربة السابقة في العقوبات الأميركية والدولية على السودان، فإن فشلها يعود إلى آليات تطبيقها وانحراف أهدافها عن مسارها الطبيعي مما أضعف فاعليتها، إذ ظلت الدول التي تنشط في فرض العقوبات تبحث عن أفضل السبل من أجل تعظيم فاعليتها، كما ظلت تبحث كثيراً عن جميع أشكال التعاون الدولي من أجل دعمها أخلاقياً وتبرير فرضها بسرعة والإبقاء عليها سارية حتى بعد استيفاء الشروط.
ويمكن لهذه العقوبات المقترحة أن تعمل على تجميد أصول طرفي الصراع، وهو إجراء عقوبات قوي، وبترتيبات معينة قد لا يضر باقتصاد السودان، إلا إذا كان هناك ارتباط بين أصول الأفراد المعنيين وأصول الدولة، وهذه الأداة سلاح ذو حدين، فمع احتمالات نجاحها، هناك احتمال لفشلها إذ من الممكن تقويضها في حال مساعدة أحد طرفي النزاع أو كليهما، ولدينا من الأمثلة ما يرجح هذه الفرضية ومنها قيام الاتحاد السوفياتي (سابقاً) بتقويض العقوبات الأميركية ضد كوبا عام 1960 من خلال تقديم مساعدات خارجية وشحن سلع أساسية مثل النفط، وكذلك استفاد النظام السابق من علاقته مع الصين للالتفاف على العقوبات الأميركية، فانتعش التنقيب عن النفط في تلك الظروف، ونشطت التجارة بين البلدين حتى غدا السودان رقماً مهماً ضمن السوق الصينية الضخمة في أفريقيا.
ولأن العقوبات تكلف الدول التي تفرضها خصوصاً الولايات المتحدة القليل نسبياً، ولا تلحق بها أي أضرار واضحة أو مخاطر، فإنها لا تتردد في فرضها حتى لو لم تثبت جدواها.
وفي الواقع، لم تثبت العقوبات الواقعة على السودان نجاحها مقارنة بفرضها على دول أخرى، إذ استمر نظام الحكم السابق نحو ثلاثة عقود أثناء العقوبات. وترجع بعض الآراء أن إيضاح الهدف من فرض العقوبات، أي إيقاف الصراع الحالي في السودان، دون أن تكون هناك أهداف خفية، هو عامل مهم في نجاحها، ويدللون على ذلك بأن سلاح العقوبات استخدم في ما قبل بهدف علني هو إيقاف الصراعات في مناطق متعددة من العالم، بينما كانت الأهداف الخفية التي ظهرت في ما بعد هي احتواء الشيوعية، ومنع الانتشار النووي، أي إنه نادراً ما توجد حالات طبقت العقوبات صراحة لمنع نشوب حرب أهلية أو دولية.