Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المعلقات... هل سقط الرافعي في فخ التدليس (3-5)؟

نجيب البهبيتي ضعّف أسانيده وأسقط مذهبه بالجرح والتعديل وكشف خيانته للنصوص

الشعر الجاهلي جسد حياة عرب ما قبل الإسلام  (اندبندنت عربية)

ملخص

وقع "تاريخ آداب العرب" للرافعي تحت مجهر الجرح والتعديل في كتاب "المعلقات سيرة وتاريخا" الذي قدمه الناقد نجيب البهبيتي نهاية القرن العشرين

نبدأ من حيث انتهينا بالحكم العاطفي للشيخ محمود شاكر، أحد أئمة علم التحقيق في القرن العشرين، وموقفه من آراء أستاذه مصطفى صادق الرافعي، وذكره من أمر الأخير، "كان الإيمان في قلب الرافعي دماً يجري في دمه، ونوراً يضيء له في مجاهل الفكر والعاطفة ويُسني له ما أُعسر إذا تعاندت الآراء، واختلفت وتعارضت، وأكذب بعضُها بعضاً".

وهو الموقف الذي ربما التقطه المنظَّر الأول للشعر القديم نجيب محمد البهبيتي، الذي تنبه إلى أن "عمر الشعر الجاهلي" في ضوء النقوش الأثرية الحديثة، والمصادر التاريخية واللغوية الموثوقة يعود إلى تاريخ أبعد ما يكون عما أشاعه المستشرقون وتلامذتهم من أنه يصل إلى مئتي عام قبل الإسلام على أبعد تقدير.

ما اتفق عليه البهبيتي وشاكر

إذا كان البهبيتي وشاكر اختلفا في شأن تقدير مجمل آراء الرافعي، فإن هناك الكثير مما جمع بينهما كل على طريقته العلمية المتفردة.

وفيما كان الأول قد سبق الأخير في تدقيق وإعادة النظر في مسألة "عمر الشعر الجاهلي"، وأكد مغالطة المستشرقين ومعهم الرافعي، عبر ما أشار في أطروحته عن "أبي تمام الطائي" من طريق اعتماده المنهج الذي استند إلى التاريخ والمنطق والاستدلال والقياس عام 1936، فإن الأخير أكد الأمر ذاته عبر علم الجرح والتعديل وتحقيق النصوص استناداً لنص ذكره ابن سلام ونقله عنه الجاحظ وشاع بين المتأخرين، وكشف هو بدوره اضطراب النص من طريق شرح وتحقيق المخطوط في مرحلة متأخرة جاءت عام 1974، وهو ما سنتوقف عنده لما له من علاقة وطيدة بـ"ثورة الشك" في الشعر الجاهلي، ولما تضمنه من عبقرية للبرهنة على عمر الشعر الجاهلي وغيره من المسائل التي كانت شائكة.

جمعهما أيضاً أن كليهما كان لهما، إلى جوار غيرهما بالطبع، يد بيضاء في حسم عدد من المسائل النقدية والأدبية صوبوا بها مسار الأدب والتاريخ العربيين. كما نالت منهما خصومة طه حسين بالجامعة المصرية آنذاك، وإن حصل الأول على الدكتوراه ولم يطل الأخير المقام بالجامعة، بعدما طاولهما الاغتراب الذهني والروحي لمدة طالت إلى أن استقرت أحوالهما.

قصة شاكر قد تكون معروفة لدى الكثير. أما حياة البهبيتي التي يغيب عنها الكثير من التفاصيل الدقيقة فلا تزال غامضة رغم ما يبدو عليها من القسوة، وقد انتهى به المآل إلى جامعة الرباط بعد رحلة شاقة انتظر ثمرتها طوال 14 عاماً ذاق خلالها الأمرّين، بينها 8 أعوام ظل يترقب الإفراج عن أطروحته للماجستير التي كانت حبيسة أدراج طه حسين خلالها. بحسب روايته في مؤلفه "أبو تمام حياته وشعره".

 

 

عند جذور التاريخ

غاية القول، في عام 1981 صدر لنجيب البهبيتي كتابه الضخم، "المعلقة الأولى – عند جذور التاريخ" في جزءين تجاوزا الألف صفحة، بعدها بعامين أصدر كتاباً ثالثاً في شأن المعلقات جاء تحت عنوان "المعلقات سيرة وتاريخاً"، وفيه اختص "تاريخ آداب العرب" للرافعي بالنقد الدقيق الذي لم يخل من حدة.

ولا نعلم ما السياقات التي أدت إلى تأخر هذا الكتاب طويلاً بينما البهبيتي شرع في الكتابة وهو في سن الثامنة والعشرين وكان هذا في عام 1936 حين أتم أطروحته للماجستير التي نشرت عام 1945؟ لكن يبدو أن ثمة سيناريوهات درامية جرت في حياة ناقدنا الذي عانى حياً وميتاً.

بيت القصيد، أنْ لو سارت الأمور على طبيعتها وقُدر لمثل هذا الكتاب وصاحبه الظهور المبكر لربما كانت الظروف لتخلق آنذاك معركة فكرية فريدة ونصوصا ثرية كتلك التي قدّمها محمود شاكر عن "المتنبي"، ونشرت في عدد المقتطف عام 1936 بمناسبة ذكرى انقضاء ألف سنة على مصرع المتنبي الذي قتل في 27 رمضان عام 354 هـ.

ولكانت قد صادفت حياة الرافعي قبل أن يرحل عام 1937، وهو ما لم يحدث، ليخسر بذلك تاريخ اللغة مساجلة أدبية من طراز رفيع بين البهبيتي والرافعي بعدما تتبع الأول أثر الأخير فضعّف أسانيده، ورصد اجتزاءه المصادر، وأسقط مذهبه بالجرح والتعديل. المنهج الذي دعا إليه الرافعي، رفضاً لآراء المستشرقين بينما سقط في أخطائهم بعدما عجز عن ضبط إجراءات منهجه، وسط غفلة من أنصاره بلغ ثناؤهم حد التقديس. على نحو ما مر بنا، فلم ينتبه أحد منهم إلى خطورة نتائجه أو تداعياتها على اللغة والأدب العربيين على النقيض تماماً مما ذهبوا إليه بعين الرضا.

 

 

الرافعي في ميزان الجرح والتعديل

يقول البهبيتي في سياق نقده للرافعي بعدما أورد ما ذكره الأخير بالقول "العرب، أهل هذه اللغة، قوم ملكوا الأرض ولم تملكهم، فلم يؤثر عنهم في جاهليتهم الأولى من أنواع الدلالة الثابتة كالكتابة والآثار ونحوها، ولا دخلوا في تاريخ أمة من أمم الحضارة فيكون لهم نوع من تلك الدلالة، وعلى ذلك يتعين أن تكون لغتهم أيضاً قد ملكت التاريخ ولم يملكها"، بل عدّ الرافعي اللغة، نشأةً وتكويناً وتطوراً، "حادثة كونية من خوارق النظام الطبيعي ظهرت نتيجتها في نزول القرآن الكريم بلغة قريش، وهو أفصح الأساليب العربية بلا مراء. والله يحكم ما يشاء ويقدر".

 يستهل البهبيتي القول، "كل هذا جميل لو أنا كنا نكتب للمتدينين، ولا نكتب لزرق الأنياب من الناظرين الذين يرون في كل ظاهرة تبرز وتختفي على الأرض حدثاً تطورياً، ونتيجة لا بد أن تسبقها مقدماتها المنطقية".  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلى هنا يبدو لي أن البهبيتي قد وضع يده على بيت القصيد فتبنى ما يشبه دفاعاً استباقياً كي لا يسقط فريسة للتكفير، شأنه في هذا شأن سابقيه، فمن ذا الذي يجرؤ على نقد آراء صاحب "تحت راية القرآن"؟

يقول الرجل، "كلنا متدينون، وكلنا نؤمن أعمق الإيمان بصحة ديننا، ولكننا استخلصنا عوامل هذه الصحة من متابعة واعية، ناظرة فاحصة لمقومات هذا الدين ولدوره في الوجود، ولمنزلته في حلقات التطور العقائدي الإنساني، ولقيامه بهذا الدور الذي جاء الثمرة الناضجة للتطور النفسي الحضاري العريق للعرب".

يعرّج على هدفه، فيقول، "نؤمن كذلك بأنها لو لم تكن لغتها تابعتها في هذا النمو الحضاري ما بلغت من الكفاية والقدرة المنزلية التي أهلّتها للتعبير الأمين عن المعاني القرآنية، وأنها أفادت هذه القوة كلها من اتصال بالشعوب التي شاركت في تكوينها بكل ألوان الحياة التي ظلت تغلي بها وتفور في منطقة الحضارات الإنسانية الأولى على وجه الأرض عشرات القرون".

يواصل، "إيماننا بهذا يسنده العلم ويؤيده، ونحن فيه لم نطوّع له العلم تطويعاً، ونكيفه تكييفاً ليخدم عقيدتنا ولكنا طلبنا العلم حقاً فصادفناه دالاً على ديننا حقاً، وعلى رسالة أمتنا صدقاً، لقد مضى عصر إيمان العجائز ونحن لا نسأله أن يعود".

الرافعي والمستشرقون

يذكر البهبيتي، وهو ممن تخرج في الجامعة المصرية عام 1933، ودرس على يد المستشرقين آنذاك وكانت له مواقف حادة من آرائهم تماماً كالرافعي، وإن اختلف توجهه ومساره، "كذلك مضى الرافعي في كتابه تحقيقاً لإيمانه بالمعجزة، وهو في هذا لا يزيد شيئاً على ما قاله المتقدمون من أصحاب تأييد المعجزة إلا من حيث هو يفلسفها، ويمزجها بشيء مما كان يلقيه المستشرقون في الجامعة المصرية القديمة من حديث عن تطور اللغات السامية وتقسيمها وترتيب منازلها الزمنية، وكان حديثهم في هذا عاماً، مهوشاً. أثـــَّــــرت في تهيئته التوراة، واحترامها بحكم إملائها على قوم كانوا يستملون نوازع دينية غلّابة، عجزوا دائماً عن أن يتحرروا من تلفيقها، ومرحلة من الدراسات للساميات كانت لم تزل تتعثر إذ ذاك. فلم يجد الرافعي إلى الحديث الجديد ملجأً سوى هذا القــَــدْر (التشكيك في خبر تعليق السبع الطوال)".

من نافلة القول أننا لسنا بصدد إنكار الرافعي أو غيره خبر التعليق، فهو حق له ولغيره مادام قد انتهج طريقاً ومنهجاً سديداً يكفل له حق الرأي والرؤية، وهو ما لم يحدث مع الرافعي، إذ إنه ورغم دعوته هو لا غيره إلى إعمال علم الجرح والتعديل فإنه على أحسن تقدير، لم يستطع ضبط إجراءاته، فهل خان الرافعي تاريخ النصوص؟ وهل دعا إلى علم لم يكن يتقن أدواته وهو العلم الذي استقرت قواعده منذ القرن الثاني على يد المحدِّث الفذ يحيى بن معين؟

 

 

الرافعي بين التجديد والشك

يسجل البهبيتي أن (التشكيك) في خبر "تعليق" السبع الطوال" على أستار الكعبة بات يتداخل مع (التجديد) في تصور الصاخبين. "كان أول من انبعث إلى هذا الأسلوب من العمل في العصر الحديث الرافعي، فبعد أن وجد أن المستشرقين ومن تابعهم قد ذهبوا بأغلب هذا (الشك التجديدي) قنع بالوقوف عند (خبر التعليق)".

يتابع، "بعده جاءت طائفة ناصرته وتبارت فيما شرع به لأسباب تختلف دوافعها ويتفق هدفها. بعضهم أنكر خبر التعليق لأن شرّاح هذه القصائد لم يسموها بـ"المعلقات"، ولم يشيروا من قريب أو بعيد إلى "التعليق". ثم إنهم دعوها بـ"السبع الطوال" واكتفوا بهذا الاسم.

يستهل الرجل، وهو أحد كبار مؤرخي الأدب العربي في القرن العشرين، كتابه بالقول، إن "إهمال الشراح ذكر (التعليق) وتسميتهم للقصائد (بالسبع الطِوال) لا يفيد منطقاً أنها كانت لا تدعى (المعلقات). وقد ثبت أن ابن النحاس (وهو أحد شراح المعلقات) الذي اعتمدوا عليه في إنكارهم وجود اسم (المعلقات) يذكر: إنها تدعى المعلقات، وإن هذا اللقب لقبها دون سواها من الشعر الجاهلي كله لقَّبها به أهل اللغة أي العرب. وليس لنا أن نعترض عليه. كما أنه ليس لنا الاعتراض في الألقاب. وإنما نؤديها على ما نقلت إلينا نحو المصدر والحال. وليس لنا أن ندرج بينها ما لم يجعلوه هم فيها".

يعقب البهبيتي على قول ابن النحاس، "أنه أثبت لها بذلك صفة خاصة تنفرد بها دون سائر الشعر، ونسب اختيارها وتلقيبها إلى أهل اللغة دون غيرهم. وأهل اللغة هنا يقابلون أهل العلم والمعرفة في نص خاص بها. قدّمه المفضل الضبي يجمع هذه المعاني نفسها". يجمل الناقد القول، "بإيراد نص ابن النحاس أُثبتُ للرافعي ولأتباعه أنهم خدعوا أنفسهم حين استندوا في إنكارهم على توقف الشراح عند تسميتها بالسبع الطوال، وعدم تسميتها بالمعلقات".

هل اكتفى البهبيتي عند هذا الحد؟

أسقط البهبيتي بالحجة اجتزاء الرافعي النص الكامل لابن النحاس، ويرجع السبب وراء هذا إلى أن "الرافعي ومن تبعه لم يكونوا قد رأوا (شرح ابن النحاس) وإنما اعتمد في تخليص أحكامه، ومفاهيمه منه على ما قدّمه ابن خلكان عنه، فراح ينفي نفياً شاملاً كل ما جاء من الأخبار بالمعلقات عند السابقين، ولجأ إلى المتناقضات في تشبثه بمحاولة إنكار خبر التعليق، بل بتر الخبر التاريخي حين وجد أنه يفيد عكس ما كان يسعى إلى إثباته أو إلى إنكاره".

يتابع الناقد، أن "الرافعي إذا جاء إلى مُثبتٍ للخبر من المؤرخين شكك في خبره، بل تجاوز ذلك إلى التشكيك في قيمة أقواله: فعل ذلك من ابن الكلبي، وفعله مع ما نسب إلى المفضّل الضبي عن "السموط" في كتاب (جمهرة القرشي). فمن سكت عن ذكر التعليق فسّر سكوته إنكاراً، ومن أثبت الخبر صريحاً كذّبه، واستخرج قسراً بهذه العملية المتساقطة الأركان ما زعم أنه دليل على عدم صحة خبر التعليق. وهذا هو التهافت بعينه".

 

 

هل وقع الرافعي في  التدليس؟

لكن مع ما ذكره البهبيتي إلى الآن في شأن تزييف الرافعي لخبر "التعليق" لم يتضح على صورته النهائية بعد.

ينقب البهبيتي في أسانيد الرافعي، ليكشف انقطاع الصلة بين السند والمتن والرواة عبر التباعد الزمني بينها، يقول، "استند الرافعي إلى نص أورده ابن خلكان المؤرخ الذي مات في القرن السابع الهجري نقلا عن النحوي واللغوي المصري أبو جعفر ابن النحاس وهو من عاش في القرن الرابع ليروي عن حماد الراوية الذي مات في القرن الثاني للهجرة القول "هو الذي جمع السبع الطوال". ولا يجد الرافعي، والكلام للبهبيتي، أحداً بين حماد وابن النحاس أي خلال قرنين يزكي هذا الخبر. هذه واحدة.

والثانية أن الرافعي أتم النص الأول، على ما به من عيب في السند، بعبارة ذكرها السيوطي المتوفى خلال القرن العاشر، وهي كذلك تدور حول حماد، جاء فيها "إن حمَّاداً هو أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها". ليزيد انقطاع الصلة بين السيوطي وحماد إلى نحو 8 قرون. ويزيد معه تضعيف الخبر.

يستدرك البهبيتي بفحص الخبر على أكثر من منظور، تاريخي مرة، ودلالي أخرى، وما يترتب عليهما من استدلال وقياس. يقول، "على هذا النحو يبني الرافعي معارضته لخبر تعليق (المعلقات) على الكعبة، ولا يسأل نفسه هنا السؤال الذي وجهه إلى رواة خبر المعلقات، "لِمَ لم نر أحداً ممن يوثق بروايتهم وعلمهم أشار إلى هذا الخبر (جمع حماد للسبع الطوال) كالجاحظ والمبرد وصاحب الجمهرة وصاحب الأغاني مع أن جميعهم أوردوا في كتبهم نتفاً وأبياتاً من المعلقات؟"

في سياق رده يعرّض بمنطق الرافعي الذي يطبقه عند الحاجة على غيره، ويتركه كذلك عند الحاجة فلا يطبقه على غيره ولا على نفسه، وهي طريقة فاسدة في الاستدلال.

 

 

بعدها يورد نتائج نفي الخبر عند الرافعي، ويرده بالقول، "على هذا التخريج من هذين الخبرين المنقطعين زمنياً، اختار الرافعي ما يعرضه من أخبار المعلقات وجميعها يعود إلى ابن النحاس، فمن تقدّمه شكك في خبره، بل شكك في كل آثاره، كما فعل مع ابن الكلبي، ولو كان منهم ابن عبد ربه، وابن رشيق، وابن خلدون لا يوثق إلا عقله هو، ولا يصحح إلا ما اختار من قولة شاردة انتهت إليه من متأخرين جداً عن حماد الراوية".

يطرح بعدها سؤالاً نصه، ومع هذا هل أصاب الرافعي المرمى فخرج المدلول الصحيح؟

يمعن البهبيتي النظر في النصوص، ليضعّف نظر الرافعي فيما جاء به من أسانيد، يقول "وقد طعن على حماد قوم بأنه أدرج بين المعلقات واحدة ليست منها. فقالوا، إنه جعل من بينها قصيدة الحارث بن حلزة اليشكري البكري مجاملة لمواليه البكريين".

يعقب، "هذا الاعتراض يتضمن إشارة إلى أن حماداً رفع منها واحدة كانت فيها، ليـُـحل محلها أخرى لم تكن فيها، أي أنها كانت قبل ذلك سبعاً، وأنها كانت معروفة لَهم بأعيانها وأصحابها قبل أن يهجم عليها حماد. وليس من المقبول هنا أن يقال إنه من اختار سبعتها الأولى، إذ إنه لو كان صاحبها لما ضرّ أحد أن يغير حماد في مختاراته كيف شاء".

يحسم الأمر بذكر أحد ثِقاة رواة الشعر القديم فيذكر أن، "المفضل الضبي في روايته عن السبع الطوال التي يسميها العرب (السموط) صريح في القول بأن العرب اختارتها سبعا بذواتها، وقد حددها، وبيّن أصحابها، وقال، إن من تجاوزها فقد أبطل".

يروي البهبيتي، صاحب كتاب "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين، "لما جاء الاسلام، فنبذ هذا التقليد بقي الاسم الأول عالقاً بـ(المعلقات) ردحاً من الزمن حتى اقتضى التنبه إلى ما فيه من علاقة بالوثنيات الجاهلية، وتبديله بما يكفي في التعبير عن الحقيقة التاريخية منه. وبعد عصر الصدر الأول برزت كلمة (المعلقات)، واختفت كلمة (السموط)" وفق ما ذكره في "المعلقات سيرة وتاريخاً".

 

 

يتابع، "ثم يأتي شيء بعد. وهو لو أنا أضفناه إلى هذه كلها لبرز جانب آخر من شهادة ابن النحاس بنفسه على نفسه بأنه لا يريد بعبارته السابقة ما اتهمه الرافعي بأنه ذهب إليه: ذلك أن لابن النحاس كتاباً شرح فيه هذه القصائد السبع، ومن شهده من المؤرخين، والمفهرسين (قدماؤهم ومحدثوهم) يدعوه (شرح المعلقات). سماه بذلك ابن خلكان والسيوطي في الجزء الثاني من "بغية الوعاة". وحاجي خليفة (مفهرس عثماني)، وجرجي زيدان وما من شك عندي في أن الأوَّلين قد رأياه، والرابع يرجح أن يكون قد شهده شهادة الأولين إذ إنه يقول عن مخطوطته إنها في دار الكتب المصرية، وهي فعلا كذلك".

يتابع البهبيتي، "كان الكتاب من الرافعي، يوم كان يكتب كتابه، على مرمى حجر، فلِمَ لم يرجع إليه؟ عنوان هذا الشرح الذي يصفه حاجي خليفة بـ(المختصر) لا يزال عليه في النسخة المخطوطة الباقية في دار الكتب المصرية".

يغوص بعدها طويلاً، في تحليل دلالات نصوص القدماء في شأن جمع المعلقات وتعليقها، وما توحي به من تأويلات على عدة أوجه، وهي عنده مما تجاهلها الرافعي عمداً، فذِكرُها سيهدم ما ادعاه، بعدها يخلص إلى أنه، "إذا كانت هذه هي دلالات النصوص التي اتكأ عليها الرافعي في محاولته، فإن تزييفه، بناء عليها وبحكمها، خبر (تعليق المعلقات على الكعبة)، اقتحام من غير شك".

يورد في سياق آخر، "كيف يتضح هذا كله، بمعارضة ما لا يدل على شيء مما ادعاه (الرافعي) على الخبرين (خبر القرنين الرابع والسابع الهجريين)؟ لا أدري وهو لا يقنع أن ينفي بالقياس الفاسد خبراً واحداً بل أخباراً، ولا أن يتهم بالكذب ابن الكلبي وحده، بل والبغدادي بالبلاهة، ثم يأبى إلا أن يُشهد على هذا القرشي بما لا يوحي به عمل القرشي وأقواله في كتابه".

يؤكد البهبيتي ما ذهب إليه في شأن الرافعي، "هذا هو السلب الذي يراد به إلى إثبات الإيجاب. وكل ما يأتي بعد هذه الركيزة المنهارة وهو يملأ ثماني صفحات كاملة في كتاب الرافعي، من قبيل: الجاحظ لم يذكر الخبر، ولا المبرد. ولا ابن أبي الخطاب القرشي، ولا غيرهم. كل استنجاده بما ترك هؤلاء وليس بما ذكروه". ليعقب "ما تركوه إما عمداً فلا تُدرَى علته، وإما سهواً فلا عِلة له".

يتابع منطقه فيقول، "والإغفال، أو الترك ليس بالدليل على إنكار التارك للخبر، فقد لا تدعو جانبيةُ موضوع (المعلقات) بالقياس إلى مؤلف ذكر تفصيليات تتعلق به. شأن الجاحظ ومن جرى مجراه في التصنيف العام في هذا الترك (خبر التعليق). وشأنه في ترك الإشارة إلى (السموط) التي ذكرها المفضل الضبي ودلّ بها على (القصائد السبع)، التي اختارها الجاهليون وجرى عليها بعد هذا العصر اسم (المعلقات) لم يذكرها واحد من هؤلاء".

يوضح أن "المفضل سابق لهم في التاريخ وهم، يروون عنه، وشأن تركهم لخبر التعليق شأنهم في ترك الإشارة إلى ما يصدقه، فيما يقرر الرافعي: أن حماداً هو أول من اختار السبع الطوال. مع أنهم جاءوا بعد حماد، (ونقلوا من الشعر الجاهلي نتفاً وأبياتاً)، على حد تعبير الرافعي نفسه حينما أراد إلى التدليل على كذب (خبر المعلقات)".

ليختم بالقول، "هذه هي السلبيات التي لجأ إليها الرافعي ليهدم بها خبراً متصل الرواية ينتهي إلينا عبر التواتر العام والآحاد، ولم يجد اعتراضاً واحداً في طريق الخبر، ولذلك لجأ إلى ما لجأ".

هذا ذكر بعض مما رصد نجيب البهبيتي في شأن ما تبقى من كتاب الرافعي في "تاريخ آداب العرب". يشار هنا إلى أن البهبيتي أورد شهادات بعض صحابة النبي وكانوا قد تحدثوا في الشعر والشعراء، وهو ما ادعى الرافعي أن أحداً من أهل الصدر الأول للإسلام لم يتحدث عنه، وعاد متناقضاً فأشار إلى هذه الشهادات في سياق تأكيد مذهبه لا وفق سياقها.

ومما أورده البهبيتي من شهادات الصحابة وهو من المخضرمين، قول معاوية، "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة من مفاخر العرب، كانت معلقتين بالكعبة دهراً". يعلق، "وشهادة معاوية الخليفة الأموي الذي عاش أكثر من 20 عاماً في الجاهلية وعاش الصدر الأول من الإسلام، ورأى المعلقات رؤية الشاهد الذي لا يفتعل شهادته، فأهملها الرافعي، بل كتمها". كما نفى الخبر الضمني الذي أورده ابن عبد ربه في "العقد الفريد"، وخبر ابن رشيق في "العمدة"، وصنع الأمر ذاته مع ابن خلدون في المقدمة".

يتابع، "كل هذه مهازل في البحث العلمي، وكلها رجم بالغيب لا يقدم حقاً ولا يؤخر باطلاً. كل هذا صخب. رفض الرافعي في حميته إلا أن يرمي بالجهل كل هذا الجيش الجرار من العلماء وأصحاب الآثار الباقية ممن لا يتطاول المتطاولون إلى منازلهم إلا مكابرة، وهم عنده (لا يوثق بروايتهم وعلمهم) والعبارة عبارته".

 

 

المؤرخون والطمس

السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل هناك غير البهبيتي من باحثين أو محققين أشاروا إلى طمس بعض المؤرخين والمفسرين في القرون الأولى وكثير من المتأخرين أخباراً عن مآثر عرب ما قبل الإسلام، ظناً منهم أن في مسلكهم المتشدد بالسكوت عن ذكرها خير للدين واللغة؟

حقيقة الأمر وقف كثير من الباحثين المخضرمين عند آليات ودوافع الطمس، إذ أشار إلى ذلك الناقد عبد المنعم تليمة "في الشعر الجاهلي الكتاب والقضية"، استفاض في هذه المسألة أيضاً الأكاديمي الموسوعي المتخصص في السرديات عبد الله إبراهيم.

 يرصد عبد الله إبراهيم أن "المركزية الدينية أصبحت تغذي كل شيء بمعانٍ جديدة وإضافية، وتقصي ما لا يتوافق ورؤيتها، وبمرور الوقت وشيوع التفسيرات الضيقة للدين، تلك التفسيرات التي نهضت بها المؤسسة الدينية داخل سياج مغلق من التفكير، وبعيد عن التصور التاريخي للأديان، توارت عن الأنظار كل المرجعيات والأصول، واعتبرت السمات الدلالية والأسلوبية للنصوص الدينية مبتكرة لا جذور لها، وجرى السكوت عن العلاقات الخطابية المتشابكة والمتفاعلة بين تلك النصوص وسواها من النصوص العريقة، وبإعادة صوغ وعي المؤمنين بالدين صوغاً أيديولوجياً يقوم على مبادئ: العزل، والابتكار، والخلق، والإيحاء. فانتقل أمر الخلفيات والمرجعيات إلى مستوى غير مفكّر فيه داخل المجال الخاص بالوعي الإسلامي. وكل حفر في مستويات غير مفكّر فيها من ضروب الفكر صار يفهم على أنه يهدد الدين بدل أن يقويه، ويضفي عليه التنوع الخلاق". حسبما رصد في الجزء الأول من "موسوعة السرد العربي"، التي عكف طوال 20 عاماً على إنجازها بروية وتحقق وتفرد.

لعل من الإنصاف هنا أن نشير إلى أن التأليف في مستهل القرن العشرين لم يكن يستند إلى منهج أو قواعد علمية دقيقة تحكم مسيرته، على نحو ما حدث في العقود اللاحقة بدءاً من ثلاثينيات القرن العشرين. خصوصاً إذا ما وضعنا في الاعتبار السياقات التاريخية والاجتماعية التي أذاع خلالها المستشرقون العديد من الآراء الباطلة في محاضراتهم بالجامعة المصرية منذ عام 1907، فيما الديار المصرية كانت تئن تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي. أضف إلى ذلك ملابسات تأليف الرافعي لكتابه.

وللحق لا يستطيع منصف، أن يتجاهل النتائج العظيمة في تاريخ الأدب العربي القديم التي شرعت في التشكل إثر حركة التأليف المباركة منذ بداية القرن العشرين، على ما بمنجزها من مغالطات وعوج وضعف بالنتائج، تم استدراكها لاحقاً، عبر ما أسفرت عنها من معارك أدبية حفظتها وثائق ومؤلفات هذا الزمان، التي، ومن أسف، لا تزال هذه النتائج تدرَّس على عِلاتها في العديد من الأكاديميات العربية، التي تلقن هذا التراث تلقيناً مجحفاً دون الإشارة إلى الحركة العلمية الموّارة التي دارت في شأنه لأسباب تختلف وتتباعد لكنها تتفق على آفة التعصب والأيديولوجيا سواء كانت دينية أو قومية أو عنصرية، أو غيرها.

المزيد من ثقافة