ملخص
الجريمة الأصل ارتكبها عمر البشير الذي كان يعالج كل مشكلة يواجهها بحلول تضمن استمراره وتشبثه بالحكم
في التاسع من يناير (كانون الثاني) 2005 كنت ضمن وفد رسمي يمني في زيارة لجمهورية كينيا، برئاسة نائب رئيس الجمهورية حينها عبدربه منصور هادي، للمشاركة في مراسيم توقيع اتفاق السلام الشامل في السودان، المعروف بـ"اتفاق نيفاشا"، الذي شكل مقدمة لانفصال جنوب السودان بعد فترة انتقالية استمرت لخمس سنوات، وضعت لها مهمات شبه مستحيلة في الواقع السوداني الصعب آنذاك، لإقامة نظام ديمقراطي فيدرالي، وجعل الوحدة الترابية السودانية جذابة لكل السودانيين للحؤول دون الانفصال.
وفي الواقع مثل "اتفاق نيفاشا" مدخلاً لفتح "صندوق باندورا" لإطلاق كل شرور السودان وتشظيها أرضاً وإنساناً. ففي قيظ ذلك اليوم المشمس، وفي تلك البلدة الكينية الريفية الواقعة على بعد 93 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من نيروبي، وفي ملعبها البلدي، تجمعت الوفود الرسمية في منصة الضيوف، المكان الوحيد الذي كان مسقوفاً في أرضية الملعب البلدي، فيما ارتصت فرق الرقص والموسيقى العسكرية وآلاف السودانيين الجنوبيين والكينيين للترحيب بالوفود رفيعة المستوى التي جاءت لتبارك لأهل السودان نهاية المأساة السودانية التي استمرت منذ الاستقلال في 1956.
ونظراً إلى طول فترة الاحتفال والرقص والموسيقى، رأيت أن أتمشى خلف المنصة، حيث العشب الطري وبعض الظل، وهناك تجاذبت أطراف الحديث مع شخصية سودانية جليلة، بجلبابها السوداني التقليدي الأبيض. وبعد أن عرفت بنفسي، علمت أن الرجل يعمل مستشاراً قانونياً برئاسة الجمهورية. وبعد المقدمات والمجاملات سألته عن أخطار انفصال جنوب السودان بعد خمس سنوات من تاريخ التوقيع، نظراً إلى استحالة المهمة التي وضعها الاتفاق للمرحلة الانتقالية ضمن ذلك الإطار الزمني.
كنت أتوقع مقاربة قانونية من رجل القانون، إلا أن رده كان صادماً، إذ قال "لا يا زول... إلا ما يهديهم ربنا"، فقلت له باستغراب كامل "كيف يهديهم الله وهم مسيحيون، ومن أتباع المعتقدات الروحية التقليدية الأفريقية". كان الرد على قدر الكارثة التي تواجه السودان والسودانيين. وحينما عدت مساء اليوم ذاته في الطائرة الرئاسية إلى العاصمة اليمنية، فكرت كثيراً في العبر التي سأحملها في جعبتي.
الخلاصة التي حملتها من رحلة ذلك اليوم إلى كينيا، لم تكن بعيدة كثيراً من واقع ما كان يعيشه وطني اليمن حينها، وهي أن مؤسسات "السيادة" السودانية وأبرز رموزها الجيش والأمن والاستخبارات أخفقت منذ الاستقلال في حماية المواطن السوداني وتعدديته العرقية والدينية، بل تسلطت عليه فكانت مؤسسات نموذجية لتدوير النخب الفاسدة والدفاع عنها في متوالية الفوز بالسلطة في الدول الفاشلة، حيث تجمع مليارات من مقدرات البلد، فيما يزداد الإنسان السوداني قهراً، حتى إذا ما حانت ساعة الحساب تتحول إلى ظاهرة كلامية، ويترك الإنسان صاحب الحق الأصيل منكشفاً من دون حماية.
الإجلاء الشامل والحرب الأهلية
في الأسبوع الماضي ركزت جهود الأمم المتحدة والاتصالات الدبلوماسية الدولية رفيعة المستوى للضغط على رئيس مجلس السيادة قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي" لوقف إطلاق النار ضمن هدنة إنسانية، وما إن تحقق بعض الهدوء النسبي في المواجهات، بدأت حركة النزوح للسودانيين إلى المدن البعيدة من القتال، وإلى مصر والتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان، وفي المقابل تم إجلاء كثير من رعايا الدول الأجنبية، في توجه خطر يؤشر بأن مواجهات الأسبوعين الماضيين تنذر بحرب أهلية كاسحة ستشمل وسط وشرق وغرب السودان وسينجذب إلى هذا الثقب الأسود أمراء الحرب القدامى والجدد والقوى السياسية والجماعات المسلحة والعصابات في دوامة القتل المنفلت لتدمير مملكة الله النيلية الأولى بلاد "الكوش"، ما لم تتمكن المساعي العربية والأفريقية من وقف دورة العنف قبل توسعها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمتتبع لتطورات الأحداث في السودان يستطيع أن يرى أن السودان يمر في مرحلة دقيقة بعد أسبوعين من المواجهات الدامية بين الجيش النظامي وميليشيات الدعم السريع الخبيرة بحرب العصابات والمنتشرة في الأحياء السكنية، التي تحتمي بالمدنيين كدروع بشرية لتستحيل معها الحرب إلى صراع غير متكافئ، تدعو فيها ميليشيات حميدتي الجيش للدخول إلى الأحياء وتدميرها وقتل مزيد من الأبرياء مما يصب في صالح حملتها الدعائية ضد مؤسسة الجيش.
وفي الحقيقة فإن ميليشيا الدعم السريع استثمرت كثيراً في حرب الدعاية وإلصاق كل أشكال التهم بالجيش النظامي، وتجاريها في ذلك بعض القوى المدنية التي باتت تؤمن بأن المؤسسة العسكرية الدستورية هي ربيبة الحركة الإسلامية. وفيما تستمر عمليات إجلاء رعايا الدول الأجنبية من السودان، تستعد القوى المتصارعة لتحضير نفسها لجولة أطول من الحرب، أبرز ملامحها تزاحم المبادرات الأفريقية والعربية والدولية، بهدف الانتقال من مرحلة الهدنة إلى مرحلة الوساطة لكسر دورة العنف، وجلوس الطرفين المتصارعين إلى مائدة التفاوض لمعرفة سقوفهما التفاوضية من واقع الوضع على الأرض.
ويبقى الأمل معقوداً بالجهود العربية، وتحديداً تلك التي تقودها السعودية ومصر لارتباط أوضاع السودان بالأمن القومي الاستراتيجي للبلدين، للحفاظ على عملية الانتقال السياسي السلمية وصولاً إلى عودة الحكم المدني. وفي حال فشلت جهود الوساطة المختلفة فإن الحرب الحالية مرشحة للتوسع وانخراط مكونات عدة من القوى المسلحة المناطقية في أتون حرب أهلية واسعة، لن يكون بمقدور أحد إيقافها ولو بعد حين.
فشل اللجوء إلى اللادولة
الجريمة الأصل ارتكبها عمر البشير الذي كان يعالج كل مشكلة يواجهها بحلول تضمن استمراره وتشبثه بالحكم، وليس بحثاً عن مخارج تحمل أي شكل من أشكال الاستدامة، أو أية مصلحة وطنية عليا للسودان. فبعد ثلاثة عقود من الحرب في الجنوب وبعد "اتفاق نيفاشا" انسلخ الجنوب وكون دولته المستقلة، ودخلت حكومة الخرطوم في مواجهة مع إقليم دارفور، فأوجدت ميليشيات الجنجويد التي تسببت في حمامات الدم. ومن رحم هذه التجربة المأساوية ولد "حميدتي" الذي كان يقول عنه البشير علانية بأنه "حاميه"، وهو في قرارة نفسه يعني "حاميه" من الجيش.
ولكن زعيم عصابات التهريب عبر الحدود وخريج أكاديمية تجارة الإبل ركب على ظهر البشير ليصبح قائداً عسكرياً برتبة فريق أول، يدير ميليشيات قوامها يوازي عديد القوات المسلحة السودانية. وبعد سنوات تحول رجل الميليشيات "حميدتي" والمسؤول الأول عن جرائم "الإنقاذ" إلى خصم لدود للإسلاميين، وتلون بألوان الديمقراطية وبات مدافعاً عن التغيير والانتقال إلى الحكم المدني، وقدم نفسه على أنه أفضل خيارات السودان للحلول محل جيش السيادة باعتبار أن الجيش برمته ملوث بالإسلاميين.
ولا يفسر أحد كيف تمكن "حميدتي" من امتلاك نصف الدخل القومي للسودان عبر إدارة مناجم الذهب في إقليم دارفور، والسيطرة الشخصية على نحو 90 في المئة من صادرات الذهب السوداني، إضافة إلى تجارة الاستيراد والتصدير والمواشي. حميدتي يخطط في حال أخفق في إقناع قوى التغيير المدنية بأنه سيكون حاميها كما كان حامياً للبشير، وأن يبقى ويجمع بيديه سلطات الاقتصاد والأمن والسياسة والحكم التنفيذي، أن ينقلب للدفاع عن فكرة استقلال إقليم دارفور وسلخها عن الدولة السودانية مثلما فعل الجنوب في عام 2011.
وقد نتفهم ما ذهب إليه السيد جيفري فيلتمان، المبعوث الأميركي السابق للقرن الأفريقي وكيل الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق للشؤون السياسية، حينما قال في مقالة رأي كتبها في الـ"واشنطن بوست" بعد ثلاثة أيام من بدء المواجهات في الخرطوم في الـ15 من أبريل الجاري، من "أن أكبر ضرر يمكن أن يلحق بالشعب السوداني وبسلامة السودان كدولة ذات سيادة وبأمن جيران السودان وبالأمن والسلم الدوليين يتمثل في القبول بمفاوضات بين الطرفين المتحاربين، للتوصل إلى نتائج تتم مباركتها دولياً كحل وسط على أساس تقاسم السلطة". وبنظر فيلتمان فإنه يجب أن يكون واضحاً أن البرهان وحميدتي ليسا إصلاحيين، ولا يمكن إصلاحهما مطلقاً.
ولكن الحقيقة التي لا تقبل اللبس هي أن ثمة فارقاً جوهرياً بين الرجلين، فحميدتي مالك لميليشيات، أثبتت دارفور وما بعدها أنه يقود مجموعة منفلتة من أمراء الحرب، أما الجنرال البرهان فهو قائد الجيش وحسب، وليس مالكاً للجيش السوداني رمز السيادة الدستورية، الذي وعلى رغم إخفاقاته الكثيرة يظل رمزاً للوطنية السودانية، وليس كياناً يجمع ثلة من أمراء الحرب. كما أن إصلاح المؤسسة العسكرية هو أمر مرتبط بهيبة الدولة. وصفحات التاريخ أثبتت في الماضي منذ زمن الجنرال عبود أن الشعب السوداني كان وما يزال بمقدوره إزاحة العسكر حينما يتطاولون على مدنية الدولة السودانية.
حتى اليوم فشل السودان منذ استقلاله في صناعة النموذج للتداول السلمي للسلطة، وفي استغلال موارد السودان الهائلة من زراعة وثروة حيوانية وثروة مائية واحتياطات الذهب والفضة والنحاس واليورانيوم، لصالح رخاء وخير أهل السودان بمشاربهم العرقية والمناطقية والروحية كافة. كما باءت بالفشل جميع أشكال الدكتاتورية من النميرية المتلبسة بالحداثية، أو البشيرية التي لبست عباءة الإسلام، ويبقى الحل مرهوناً بخروج أدوات الانقلاب الأخير عن المشهد السياسي والعسكري، وضمان انتقال مدني بتعهد القيادات العسكرية والأمنية السودانية، بما يعزز مدنية الدولة ومكانة المؤسسة العسكرية السودانية رمز السودان ووحدتها وكرامتها.