Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ياسمين شار تمسرح روائيا حكاية 3 لاجئين سوريين في لبنان

"الحب كسلطان" تغوص في أعماق الشخصيات المقتلعة وفي هموم جماعة مأزومة

لاجئون سوريون في المخيمات في لبنان (رويترز)

ملخص

رواية "الحب كسلطان" تغوص في أعماق الشخصيات المقتلعة وفي هموم جماعة مأزومة عبر قصة امرأة متزوجة من طبيب تجميل يعيشان في بيروت

ثمة كتّاب يبقى موطن ولادتهم وما اختبروه فيه مصدر وحيهم الرئيس، مهما ابتعدوا عنه جغرافياً وزمنياً. وينطبق هذا الأمر على الكاتبة اللبنانية السويسرية الفرنكوفونية ياسمين شار التي ما برحت تلازم وطنها الأم في رواياتها، على الرغم من مغادرتها إياه منذ 35 عاماً.

ففي روايتها الأولى، "يد الله" (دار "غاليمار، 2008)، التي حصدت لدى صدورها جوائز أدبية مهمة في سويسرا وفرنسا، تروي شار قصة فتاة لبنانية من الطبقة البورجوازية تختبر السديم والجحيم إثر مغادرة أمها الفرنسية المنزل العائلي من دون رجعة، ثم انتحار والدها واندلاع الحرب الأهلية في لبنان. فتاة تشبه قصتها إلى حد بعيد قصة الكاتبة، ونتعرّف معها إلى سنوات مراهقتها في لبنان أثناء الحرب، متأملين في يقظة حواسها ومشاعر الحب داخلها في عالم يمزّقه العنف والكراهية.

وفي روايتها الثانية، "قصر الأيام الأخرى" (دار "غاليمار"، 2012)، تعود شار إلى القصة نفسها بسردها حياة توأمين مراهقين، ليلى وفادي، يقرران مغادرة وطنهما والحرب العبثية الدائرة، فيه للبحث عن أمّهما الفرنسية التي تخلت باكراً عنهما، والفرار من منزل عمّهما الذي لم يشعرا أبداً فيه بالراحة والأمان.

مخيمات اللجوء

 

ولا تشذّ روايتها الثالثة والجديدة، "الحب كسلطان"، عن سابقتيها، إذ تحطّ الكاتبة فيها من جديد في أرض ولادتها وطفولتها، لكن هذه المرة لسرد قصة امرأة خمسينية تدعى لين وتدير مسرحاً في بيروت، مثل شار في سويسرا. امرأة متزوجة من طبيب يمارس جراحة التجميل ولا يملك من الحساسية والعمق ما يلزم لمشاركة زوجته تطلعاتها الثقافية والتزاماتها الإنسانية.

أحداث الرواية، التي صدرت أيضاً عن دار "غاليمار"، تدور خلال الحقبة التي تسبق مباشرةً انفجار مرفأ بيروت (2020). ومنذ الصفحات الأولى، نكتشف الطبيعة المتّقِدة لبطلتها لين، حين نراها عند مدخل أحد مخيمات اللاجئين توزّع منشوراً كتبته بنفسها لإيقاظ الضمائر على وضعهم المأساوي في وطنها، ثم حين نعي كيف تنظر إلى المسرح الذي تديره، أي كمكان مرصود للكلمة الحرّة، يحمل مهمة إنسانية ويشكّل فضاء للتعبير عن الغيرية ومقاومة لا مبالاة مجتمعها ورِهاب أفراده من الأجانب.

لا عجب إذا في محاولة لين النهوض بمشروع مسرحي في هذا المكان تمنح فيه الكلام لثلاثة لاجئين سوريين: فتى في سن الثانية عشرة فرّ إلى لبنان بمفرده بعد مقتل جميع أفراد عائلته تحت عينيه، فتاة في سن الرابعة عشرة تسعى جاهدةً للتحرر من براثن والدها التقليدي، وتغذّي حلماً في أن تصبح يوماً مغنية، وشاب مثلي رقيق لا لزوم لعرض مأساة حياته داخل مجتمع سوري ــ لبناني محافظ. فتيان ثلاثة تدعو لين كل واحد منهم إلى سرد قصته على خشبة مسرحها، آملة في أن يشكّل ذلك نقطة انطلاق لحوار بين اللاجئين وأبناء وطنها يقود إلى تفاهم متبادل، وبالنتيجة إلى تعايش أخوي.

 

ومن خلال هذا المشروع والطاقة التي تبذلها من أجل تبديد العقبات الكثيرة التي تواجهها لتحقيقه، تتجلى لين تدريجاً تحت أنظارنا بكل إنسانيتها ومحبتها للمهمشين وغير المرغوب بهم في وطنها. لكن هذا لا يفسّر وحده عنوان الرواية، "الحب كسلطان". فهذه المرأة تقع أيضاً في غرام ممثل فرنسي مسرحي شهير يكبرها سناً، وتعيش قصة حب نارية معه تُكمل كشفها لنا، من الداخل، برغباتها الحارقة، وبالشكوك التي تعتريها بنفسها، ولا تقل لهيباً، وبالتالي بكل ما يمكن أن يعبر ذهن امرأة خمسينية تواجه حقيقة هرمها. كشف من أقرب مسافة ممكنة، يعكس ما سبق وأثبتته الكاتبة في روايتيها السابقتين، أي تلك القدرة المدهشة على الغوص في أعماق النفس البشرية وتفحّص أماكن الخلل والهشاشة والقوة والتعقيد فيها.

المسرح روائياً

ولإنجاز ذلك، اختارت شار هذه المرة المسرح مكاناً رئيساً له ولأحداث روايتها. خيار ناجع، خصوصاً بفضل لجوئها إلى تقنية "التقعير" (mise en abîme) التي سمحت لها بدمج قصتها الرئيسة بقصة أخرى، خلفية، تنيرها بتكرارها الأحداث والموضوعات نفسها. ونقصد قصة لبنان الذي هو "مسرح" حروب واضطرابات لا نهاية لها، وكيان ممزّق بين دول الجوار المتصارعة، وبين سلم وحرب. وثمة سبب آخر لخيار المسرح، رغبة الكاتبة في الإنارة من الداخل ما يدور في كواليسه، انطلاقاً من تجربتها كمديرة "مسرح أكتوغون" في مدينة بولي السويسرية منذ 2010، وشغفها بـهذا "الفضاء السحري"، على حد قولها، الذي ألهمها نصّين مسرحيين: "الأفواه الصارخة" و"تذكّر أن تنساني".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكما في روايتيها السابقتين، تطرح شار ببصيرة، في "الحب كسلطان"، أسئلة الحقيقة والكذب، الأصالة والمظاهر، العمق والسطحية، عن طريق تجسيدها مختلف شخصيات روايتها وتصوير علاقة كل منها ببطلتها. بدءاً بزوج لين، جميل، الذي لم يكتف بتحويل اسمه إلى "غاري" فور وصوله إلى نيويورك لدراسة طب التجميل، بل عمد إلى قولبة شخصيته وسلوكه ولكنته حتى بات يتعذر التعرّف إلى أصوله. ومروراً بأمه العدوانية التي لا تفوّت فرصة لانتقاد زوجته، بابنتهما مايا المراهقة والمأخوذة، مثل والدها، بالمظاهر؛ وبعشيق لين الفرنسي الذي تشكّل قصتها معه فاصلاً قصيراً يصالحها مع مشاعر الحب ورغباته النارية، قبل أن يتركها بنهايته المباغتة في حالة التباس تام. وانتهاءً بالعاملين معها في المسرح وبمختلف الأشخاص الذين تلتقي بهم لتحقيق مشروعها. شخصيات وعلاقات تسمح للكاتبة بتسليط ضوء كاشف على طبيعة المجتمع اللبناني، الممزق بين تقاليد بالية وحداثة راديكالية، مستخلصة بذكاء، محاسن أبنائه وعيوبهم، ومشخّصة محنتهم ومحنة اللاجئين الأجانب الذين يعيشون في لبنان وبات عددهم يتجاوز مليون لاجئ ونصف مليون.

وما يعزز من قيمة "الحب كسلطان"، شحذ شار داخلها لغة مشغولة بعناية، تقوم على جمل قصيرة لاهثة، حين يتعلق الأمر بوصف أحداثها، وعلى جمل طويلة ومتعرّجة حين يتعلق الأمر بالتأمل في هذه الأحداث أو في سلوك الشخصيات. جمل نتلقى بعضها كضربات سوط، وبعضاً آخر كأقوال حكمية أو شعرية تكثّف النصّ وتستوقف ملياً قارئه.

لكن أكثر ما يشدّنا في هذه الرواية هو شخصيتها الرئيسة، لين، الآسِرة ليس فقط بإنسانيتها العميقة، وعدم فرارها من مسؤولياتها، وسعيها المؤثر إلى بلوغ الإنسجام بين أفكارها وأفعالها، بل أيضاً بهشاشتها وتناقضاتها، وبالتالي بحضورها كامرأة غير مثالية، تنساق خلف رغباتها ونزواتها، بقدر إصغائها إلى عقلها ومُثُلها العليا، وهو ما يقرّبها منا ويمدّها بجاذبية كبيرة.

نأسف فقط لأن شار لم تمنح خاتمة الرواية العناية التي أبدتها على طول نصّها، إذ تحلّ هذه الخاتمة فجأة بمشهد خاطف وغير منطقي يترك القارئ معلّقاً في الفراغ، بدلاً من سدّ عطشه أو فتح باب التأمّل أمامه...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة