ملخص
أسرى يستخدمون أجسادهم كصوت أو سلاح يعبرون من خلاله عن استنكارهم لفعل "قمعي أو تعسفي" من خلال إضرابهم عن الطعام
انطلاقاً من مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، خاض الأسير الفلسطيني خضر عدنان إضراباً عن الطعام استمر 86 يوماً ليفارق الحياة فجر الثلاثاء الثاني من مايو (أيار) الجاري خلف قضبان الإسرائيلي.
عدنان لم يستطع تحقيق مبتغاه بالحصول على بضعة حقوق، ما كان ربما سيحصل عليها ورفقاؤه السابقون أو اللاحقون لو أنهم لم يستخدموا أجسادهم كصوت أو كسلاح يعبرون من خلاله عن استنكارهم لفعل أو لمحاولة الوقوف في وجه ممارسات تفضي جميعها إلى حث المعتقل على اتخاذ قرار ضمني نحو انتصار داخلي، فالهدف المنشود أهم من الطريقة التي قد تكلف الإنسان حياته، فلماذا يختار الإنسان هذا الطريق وهل يخدم قضيته المنشودة؟
سلاح الجسد
يستخدم الأسرى أجسادهم كوسيلة لنقل الرسائل بحيث تصبح أهم أدوات النقل داخل السجون وخارجها، إذ يحملون من خلالها الرسائل والقصائد والأوامر العسكرية، ففي كتاب وليد دقة صهر الوعي أو في إعادة تعريف التعذيب يقول، "إن الأسرى يواجهون إجراءات قمعية في منطقها وعملها"، ويشير إلى أن "إسرائيل أنشأت نظاماً قائماً على إحداث نظريات الهندسة البشرية وعلى علم النفس الاجتماعي بهدف إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني عبر تحطيم قيمه، فالمحتل يستمد أفكاره ونظرياته وأدوات القمع من واقع ما بعد الحداثة الحضاري أو الحداثة السائلة، وهو تعبير يستعيره دقة من عالم الاجتماع سيغموند باومان، ويرى أن تقنيات القمع الحديثة مخفية ومقنعة ويصعب رؤيتها أو تعريفها، وهي عبارة عن تجميع الإجراءات صغيرة مجزأة يصعب تحديدها بشكل منفصل كأدوات للتعذيب.
ويحاول دقة في كتابه إدراك الإطار العام والمنطق وراء هذا النظام، إذ لم يعد جسد الأسرى هو الهدف المباشر وإنما الروح والعقل، وهو ما يدركه الأسرى في قرارة أنفسهم.
الاحتفاظ بالحرية الروحية
وهذه النقطة بالتحديد هي ما تطرق إليها رائد المدرسة النفسية في العلاج بالمعنى فكتور فرانكل، إذ وضع في كتابه "الإنسان يبحث عن المعنى" قصة حبسه في السجن وتعذيبه في معسكر من معسكرات الاعتقال التي أقامها النازيون خلال الأربعينيات، وهو ما يطابق في العمق والمبدأ ما يحصل للأسير الفلسطيني في المعتقلات الإسرائيلية، فقال إنه "خلال محاولتي تقديم صورة نفسية عن الخصائص المميزة للمعتقل وتفسيرها من منظور علم النفس المرضي، ربما أعطي الانطباع بأن الكائن الحي الإنساني يتأثر تماماً وحتماً بالمحيطين به، ولكن ماذا عن الحرية الإنسانية؟ ألا توجد حرية روحية فيما يتعلق بالسلوك ورد الفعل إزاء الأشخاص المحيطين بالفرد؟ هل تلك النظرية التي تجعلنا نعتقد أن الإنسان لا يعدو أن يكون نتاج عوامل بيئية وظروف كثيرة ذات طبيعة بيولوجية ونفسية واجتماعية صحيحة؟ وهل الإنسان النتاج العرضي لهذه العوامل ولا شيء غير هذا؟ والأكثر أهمية، هل ردود أفعال المسجونين إزاء العالم الفريد لمعسكر الاعتقال تثبت أن الإنسان لا يستطيع التخلص من تأثيرات المحيطين به؟ أليس لدى الإنسان أي اختيار لأفعاله في مواجهه تلك الظروف؟"، ويتابع مجيباً "تبين خبرات حياة المعسكر أن الإنسان يستطيع أن يكون له اختياره لأفعاله، وحتى ذات طبيعة بطولية تثبت أن البلادة يمكن التغلب عليها وأن التهيج يمكن قمعه، فالإنسان في مقدوره أن يحتفظ ببقية من الحرية الروحية ومن استقلال العقل حتى في تلك الظروف المريعة من الضغط النفسي والمادي".
الانتصار قرار داخلي
ويتطرق فرانكل إلى "أن كل شيء يمكن أن يؤخذ من الإنسان إلا شيئاً واحداً وهو أن يختار المرء اتجاهه في ظروف معينة، أي أن يختار المرء طريقه، وعلى رغم أن ظروفاً مثل نقص النوم وعدم كفاية الطعام والضغوط العقلية المختلفة قد تفترض أن المعتقلين مجبورين على استجابة معينة، فإنه يصير واضحاً في النهاية أن نمط الشخص الذي يصير عليه السجين إنما هو نتيجة لقرار داخلي وليس نتيجة مؤثرات المعسكر وحدها، ولذلك فإن أي إنسان يستطيع، حتى في الظروف القاسية، أن يقرر ماذا يريد أن يكون عقلياً وروحياً، وأن يقرر أنه سيحتفظ بكرامته الإنسانية حتى في معسكر اعتقال".
ويستشهد فرانكل بمقولة دوستويفسكي، "يوجد شيء واحد فقط يروعني وهو ألا أكون جديراً بآلامي"، ويعلق بأن "الطريقة التي يتحمل بها السجناء آلامهم تمثل إنجازاً داخلياً أصيلاً، وتلك هي الحرية الروحية، وهي ما لا يمكن سلبها من الإنسان، وهي التي تجعل الحياة ذات معنى وهدف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذه النتيجة ذاتها التي وصلت إليها الباحثة أشجان عجور في دراسة لها عن الإضراب عن الطعام وتسليح الجسد لدى الفلسطينيين، إذ تتحدث في مقالة نشرتها سابقاً وجاء فيها، "حللت تكنولوجيا المقاومة التي يستخدمها المضربون خلال تسليح أجسادهم، والتي تعمل على خلق الثنائيات بين الجسد والقوى الذاتية غير المادية، العقل والروح، وتكشف هذه التكنولوجيا عن فلسفة الحرية للمضربين عن الطعام في مواجهة عمليات سلب الإنسانية والمعنى الذي يمنحونه للنصر، وبالتالي فإنهم قادرون على ممارسة أفعالهم ومصادرة أساليب العنف الإسرائيلية، وفي إمكانهم السيطرة على أجسادهم من أجل إعادة هيكلة علاقات القوة الاستعمارية".
العواطف والأفكار وقود الطريق
ويمكن النظر إلى الإضراب عن الطعام على أنه شكل من أشكال الممارسة السياسية تعمل فيها المشاعر والتفكير العقلاني معاً، وتقول سارة أحمد في كتابها السياسة الثقافية للعواطف، "إن العواطف هي ممارسات اجتماعية وثقافية وليست حالات نفسية، ذلك بأن للعواطف قوة هائلة تمكنها من تحديد أنماط حياتنا"، مؤكدة كتابات بوبي ساندرز لكلامها، "العواطف ليست خاصة وإنما منظمة اجتماعية ويمكن أن تؤدي إلى توليد سياسة جماعية وسلطة اجتماعية، وإلى إنشاء هويات وطنية من قبيل الالتزام العاطفي بالمثل في وجه المستعمر"، إذ يمكن بحسب عجور "أن ينظر إلى المضربين عن الطعام على أنهم يعيشون وينتجون بنية الشعور، ويمكن اعتبار فعل الجوع عملاً عقلانياً تدعمه العاطفة".
ويشير وليام بيريسفورد إلى "أن قرار إضراب الجوع على الأقل عندما يتم بقناعة ذاتية ويؤخذ بجدية فهو معركة نفسية تدور حول توقع لحظة الحقيقة تلك، وهي الاحتمال الفوري للموت".
وهذا ما تطرق له فرانكل من الناحية النفسية إذ يقول، "حينما يجد الإنسان أن مصيره هو المعاناة فإن عليه أن يتقبل آلامه ومعاناته كما لو أنها مهمة مفروضة عليه، وهي مهمة فريدة ومميزة، وعليه أن يعترف بالحقيقة بأنه حتى في المعاناة فهو فريد ووحيد في الكون ولا يستطيع أحد أن يخلصه من معاناته أو يعاني بدلاً منه، ففرصته الفريدة تكمن في الطريقة التي يتحمل بها أعباءه ومتاعبه، وبالنسبة إلى السجناء فإن هذه الأفكار تعتبر الوحيدة التي تكون ذات عون لهم وتستطيع أن تحافظ عليهم من اليأس، حتى حينما تتراءى لهم في وسط ظروفهم أنه لا توجد فرصة كي يخرج الإنسان حياً".
المعنى يصنع ذات ثورية
تقول الباحثة عجور، "يصور المنظرون من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الإضراب عن الطعام على أنه عمل عنيف يستخدم لغة العنف الموجه ذاتياً والعنف السياسي، وأنه أسلوب تدمير ذاتي من خلال الإضراب السياسي المميت، وبذلك فإنهم لا يرون سوى صورة جزئية لتجربة الإضراب عن الطعام كنموذج للعمل السياسي والذات السياسية التي تتشكل خلاله، وعلى النقيض من ذلك فإنما وجدته في تجربة الإضراب الفلسطينية يتجاوز ثنائية العنف واللا عنف".
وتتابع، "أن المفردات واللغة الأصيلة التي انبثقت من خطاب المضربين الفلسطينيين تتضمن استعادة الإنسانية والكرامة والحرية والطاقة الكامنة والقوه غير المادية لتحدي الألم والإرادة وتقرير المصير وانتصار الروح والروحية والتعالي والحب والأمل، لذا فإن تجربة الإضراب عن الطعام لا تقتصر على تسليح الجسد كاستراتيجية سياسية وحسب، بل تتعلق أيضاً بروحانية هذا الفعل، ففي هذه التجربة الإنسانية الوجودية التي تقع على الحد ما بين الموت والحياة والتي تتطور فيها قوة غير مادية من خلال انهيار الجسد، نتعامل مع سياسية ثورية مركبة تظهر فيها فرادة الحال الفلسطينية التي تكشف عن إسهامات نظرية ومنهجية مهمة لدرس ظاهرة الإضراب عن الطعام".
ويتحدث جون أميري عن العنف الثوري قائلاً إنه "تأكيد للإنسان المحقق لذاته ضد نفي الإنسان وإنكاره، ذلك بأن سلبيته لها شحنه موجبة، أما العنف القمعي فيقطع الطريق أمام تحقيق الذات للإنسان". ويقول "إن المضربين عن الطعام يشكلون ذواتهم الإنسانية ووجودهم الأصيل من خلال ممارستهم المقاومة وسعيهم نحو الحرية".
وهذا السعي نحو الحرية يعني في مضمونه الشعور بالمسؤولية تجاه قضايا فردية وعامة، إذ يكون لدى الإنسان دافع ليقوم بفعل ما لن يستطيع غيره القيام به، وقد أشار فرانكل إلى هذه النقطة بدقة فقال، "حينما يتحقق الشخص من استحالة أن يحل أحد مكانه فإن هذا يسمح بظهور المسؤولية بكل ضخامتها وأبعادها مما يحمله الشخص لأجل وجوده واستمراره، وبكل ما يحمله من عظمة أن الإنسان الذي يصبح واعياً بالمسؤولية التي يحملها إزاء إنسان آخر أو فعل ما لم يكتمل، فهو يعرف سبب وجوده ويشعر بالغاية منه، ويكون قادراً على تحمله بأي شكل من الأشكال".
ويتابع، "إن الحياة الإنسانية تحت أي ظرف لا تتوقف أبداً على أن يكون لها معنى، وأن هذا المعنى اللانهائي للحياة يتضمن المعاناة والموت والحرمان والفناء".