Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل أصبحت سوق الكتاب العربي وقفا على التجارة والاستهلاك؟

إحصاءات تدل على تراجع حركة القراءة والنشر الالكتروني يعاني مزاحمة الثقافة الرائجة

القارئ بريشة الرسام نيكي جورجيو (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

إحصاءات تدل على تراجع حركة القراءة والنشر الالكتروني يعاني مزاحمة الثقافة الرائجة

"لا تقرأوا أي كتاب لأنه مشهور أو حديث أو قديم، يجب أن تكون القراءة أحد أشكال السعادة الخالصة. اقرأوا من أجل متعتكم".

مقولة تنسب إلى بورخيس، فهل حقاً ما زالت القراءة مصدراً للسعادة الخالصة أم طغت الدعاية على القيمة الإبداعية؟ هل يهتم الجمهور بالكتاب لمجرد أنه منشور حديثاً وينسى الجيد لأن زمنه ولى؟ هل سبب الرواج معارض الكتب أم حفلات التوقيع أم "الألتراس" وخدع الدعاية في عصر أضحت أنوف الجميع ملتصقة بشاشات الهواتف الذكية؟  باختصار، ما الذي حدث للكتاب العربي بعد جائحة "كورونا"؟

انتشار إلكتروني

حذر الفيلسوف الإيطالي إمبرتو إيكو من "السوشيال ميديا" التي منحت "حق الكلام لجحافل الحمقى"، فهل هيمن هؤلاء حقاً على الحضور الثقافي الإلكتروني؟

قبل سنوات قليلة اعتادت دور النشر الحكومية على دعاية تقليدية، لكن التطور الرقمي وسع دوائر النشر الورقي والإلكتروني، وضاعف أعداد الدور الخاصة.

في تقرير مطول لاتحاد الناشرين العرب من إعداد الباحث خالد عزب، حول "النشر في العالم العربي" في ظل جائحة كورونا 2020 ـ 2021، لفت رئيس الاتحاد محمد رشاد إلى التأثير السلبي للجائحة، وما يعانيه لبنان ـ على سبيل المثال ـ على رغم أنه كان يمثل سوقاً نموذجية لرواج الكتاب العربي، بينما يلفت التقرير إلى زيادة مبيعات الكتب في بريطانيا بفضل الجائحة، لأن بقاء الناس في البيوت شجعهم على تداول الكتب إلكترونياً، خصوصاً الروايات وكتب الطبخ والكتب التعليمية، فقفزت مبيعاتها بنسبة 146 في المئة، وفي أميركا زادت مبيعات 1369 ناشراً عام 2021 بنسبة 13.7 في المئة وبيع أكثر من 825 مليون كتاب بأكثر من 15 مليار دولار، مقارنة بـ758 مليون كتاب عام 2020.

عربياً اتجه الناشرون نحو الترويج الإلكتروني لتعويض خسائرهم، لكنهم تعاملوا مع الجائحة بوصفها أزمة لا فرصة، لذلك لا تتجاوز المبيعات لنحو 180 مليون قارئ من مختلف الأعمار أربعة مليارات دولار، مما يعني أن الإنتاج المعرفي باللغة العربية دون المستوى. فمتوسط نسخ كل طبعة ما بين 500 وألفي نسخة. بينما شهد النشر الرقمي زيادة مستمرة من 80 مليون دولار عام 2017 إلى 235 مليوناً عام 2020 ثم زاد بنسبة 35 في المئة في 2021، أي ثمة توسع على حساب الورقي، لكن ألم يؤد ذلك إلى رواج كتب سطحية ومبتذلة؟ بمعنى آخر هل تقف "جحافل الحمقى" ـ بتعبير إيكو ـ وراء تسويق نوعية معينة من المؤلفات؟

في تقرير دورية "أفق" عن مؤسسة الفكر العربي رصد السجل العربي وجود 52900 عملية بحث عن كتب الطبخ، متفوقة على جميع أنواع الكتب! هذا الانحياز السلبي التفتت إليه الناشرة نرمين رشاد (الدار المصرية اللبنانية) وقالت "عقب الجائحة زاد تواصلنا مع أندية قراءة إلكترونية، لكن بسبب اقتصارها على نمط معين وتجاهل كتب مهمة في التاريخ والفلسفة والعلوم، قررنا التركيز على الصفحات الخاصة بنا حتى نضمن الاهتمام بالإصدارات على تنوعها".

تطبيقات رائجة

إذا قبلنا تصور الفيلسوف مارشال ماكلوهان بأن "العالم أصبح قرية صغيرة" بفضل التطور الرقمي، فإن المكتبات لم تعد بحاجة إلى جدران وطوابق متعددة، بل صارت بحجم الكف. مجرد جهاز صغير يخزن آلاف الكتب، أو مجرد تطبيق يستعمله ملايين بكبسة زر.

ظاهرة التطبيقات والمواقع العربية حديثة نسبياً، منها موقع "مؤسسة محمد بن راشد (مركز المعرفة الرقمي) ويتيح أكثر من سبعين ألف كتاب، تتميز بالثراء والتنوع، وكذلك المكتبة الرقمية العربية، وهي مشروع أطلقته مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ويضم آلاف الكتب والمخطوطات والمواد السمعية والبصرية. لدينا أيضاً مكتبة "هنداوي" التي انطلقت عام 2007 وتسعى إلى "تكوين أكبر مكتبة عربية"، وتشدد على أنها "غير ربحية"، لكنها لا ترفض التبرع. وتضاعف زوارها من مليوني زائر عام 2019 إلى أكثر من خمسة ملايين عام 2021.

وحتى الآن نجحت في نشر آلاف العناوين واستحوذت على حق النشر الإلكتروني المجاني لأعمال نجيب محفوظ. وتعلن عن "الأكثر تحميلاً"، مما يعني ضمناً أنه الأكثر قراءة، لكن الموقع نفسه يفتقر إلى عداد قراءة يظهر مرات التحميل. وثمة سبعة وعشرون كتاباً هي الأكثر تحميلاً، منها موسوعة سليم حسن عن مصر القديمة و"رحلات ابن بطوطة" و"التأملات" لماركوس أوريليوس و"النبي" لجبران خليل جبران و"الأيام" لطه حسين و"هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه و"ماجدولين" للمنفلوطي و"ألف ليلة وليلة". إنها قائمة متنوعة تميل إلى الكلاسيكيات، مما يعني أن القديم الممتاز يظل مرغوباً.

أما تطبيق "أبجد" فهو ليس مجانياً، بل باشتراك شهري، ولا يتيح إمكانية التحميل وإنما القراءة عبر الشاشة. وتتصدر السعودية زوار التطبيق بأكثر من 280 ألف قارئ لعام 2021، تليها مصر 128 ألفاً. وتضاعفت الكتب المنشورة فيه من ثلاثة آلاف عام 2019 إلى ثمانية آلاف عام 2021 تمثل نحو 70 ناشراً.

عند تصفح "الأكثر قراءة" في فئة "روايات وقصص" تظهر "أحببتك أكثر مما ينبغي" و"في قلبي أنثى عبرية" و"قواعد العشق الأربعون" لأليف شافاق و"الخيميائي" لباولو كويلو. ومن الكلاسيكيات العربية "ماجدولين" للمنفلوطي بـ44 ألف قارئ، و"أولاد حارتنا" لمحفوظ بـ20 ألف قارئ، ولجبران خليل جبران كتابان "الأرواح المتمردة" 29 ألف قراءة، و"الأجنحة المتكسرة" 12 ألف قراءة، بينما متوسط قراءات معظم الكتب لا يتجاوز 500 مرة.

حول تأثير التطبيقات على سوق النشر تقول نرمين رشاد "نحن في الأساس ناشر ورقي، لذلك في البداية لم يكن العائد المادي من التطبيقات مجزياً، لكن مع نجاحها تضاعف المردود وأصبح مقبولاً. وحرصنا على وجود كتبنا في معظم المنصات مثل (أمازون) و(أبجد). ومع أزمة الورق شعرنا أن طباعة كتاب من 500 صفحة لن تكون في مقدور القارئ العادي، فاكتفينا بنشر بعض كتبنا إلكترونياً، ونصمم غلافها ونبوبها، ثم نرفعها ولا نصدر منها نسخة ورقية. وهو ما حدث مثلاً مع رواية (لا تطفئ الشمس) لإحسان عبدالقدوس لأنها ضخمة، على رغم أنه من كتابنا الأكثر مبيعاً".

الكتاب الصوتي

يناسب الكتاب الصوتي القراء أثناء السفر أو ممارسة رياضة المشي. وهناك من يفضل الاسترخاء والاستماع على بذل مجهود في القراءة، لذلك اشتغلت منصات عالمية وعربية على تطوير المحتوى الصوتي، ومنها "ضاد" التي أسستها منال العميري عام 2014 ووصلت عام 2017 إلى 16 ألف مستخدم. ويعتبر Story Tel  أكبر مسوق ومنتج للكتاب الصوتي في العالم العربي، وزاد الإقبال عليه في عامي 2020 و2021 بنسبة 400 في المئة. وأطلقت مؤسسة محمد بن راشد مشروع "مسموع دوت كوم" عام 2017.

الكاتبة الصحافية إيمان علي من أبرز الأصوات في مشاريع الكتب المسموعة، وعن تجربتها تقول "الكتاب الصوتي صناعة مزدهرة جداً، وللأسف بدأنا متأخرين سنوات عن العالم المتقدم. والفكرة انطلقت من تقديم خدمات لجمهور نوعي مثل الصم والبكم والمكفوفين، ثم توسعت نحو فئات كثيرة مع ضيق وقت القراءة وشيوع ثقافة الاستماع لدى الأجيال الجديدة، أو قراءة ملخصات لمن يريدون الإلمام بمحتوى أي كتاب في دقائق".

وأضافت إيمان "الشركات تتعاقد مع الناشر الورقي، وأصبحت عقود المؤلفين الآن تنص على تسجيل الكتاب صوتياً ونشره. والمسألة بالنسبة إليَّ مهنة إضافية ودوري كقارئة أو راوية بموجب تعاقد مع الشركة وليس مع الناشر ولا المؤلف".

القرصنة الرهيبة

يتعرض الكتاب الورقي للقرصنة عبر نسخ مزورة تباع بنصف الثمن الأصلي، أو تداول نسخ إلكترونية من دون سند قانوني، لذلك أقيم قبل أسابيع مؤتمر في بروكسل، برعاية المعهد الأوروبي للدراسات الإبستمولوجية، لبحث أزمة النشر في العالم العربي. وقد اعتبر القرصنة جريمة تصيب حركة النشر بأضرار قاتلة، وسرقة لجهود المؤلف وحقوق الناشر.

وطالب إعلان بروكسل من يتعاملون مع "السوشيال ميديا" بالامتناع عن قرصنة الكتب والتنديد بمن يقوم بذلك، إضافة إلى اقتراح طبعات شعبية تناسب القدرة الشرائية المتدنية للجمهور العربي وتفعيل قوانين حقوق الملكية الفكرية أسوة بما يحدث في الغرب.

وعلى رغم رؤيتها الإيجابية تقر الناشرة نرمين رشاد بتراجع معدلات طبع الكتب بالنسبة إليهم من 150 كتاباً في العام إلى 50، واعتبرت الحل الإلكتروني جيداً جداً، لكن الإشكالية الأساسية تتعلق بالقرصنة المضرة بعملية النشر من جميع النواحي. وذكرت أن رئيس اتحاد الناشرين العرب محمد رشاد سعى منذ سنوات لتفعيل قوانين الملكية الفكرية لمنع القرصنة والتزوير. والتقى ودياً بعض هؤلاء المزورين وعرض عليهم نسبة أعلى من الأرباح بشرط تداول الكتب في نطاق قانوني لكنهم لم يلتزموا لأنهم ينالون ـ من التزوير ـ أرباحاً أكبر من دون أعباء.

وفق تقرير الناشرين العرب زادت ظاهرة القرصنة عما كانت عليه عام 2019 بنسبة 160 في المئة عام 2020 وبنسبة 240 في المئة عام 2021 ولا يستثنى منها أي بلد عربي، لكن أفضل الدول في مواجهة الظاهرة هي الكويت والإمارات وقطر وسلطنة عمان.

غياب الشفافية

إن كل ظواهر الكتاب العربي الحالية من انتشار إلكتروني وازدهار التطبيقات والكتاب الصوتي والقرصنة تلتقي جميعها تحت لافتة "غياب الشفافية"، مما يجعل أي كلام عن المقروئية غير دقيق. ويلفت تقرير الناشرين العرب إلى غياب الإحصاءات الدقيقة عكس الوضع في الدول المتقدمة التي ترصد بدقة حجم مبيعات السوق الإلكترونية والورقية.

والسؤال الأهم لا يتعلق بحقيقة تراجع الكتاب "الورقي" وصعود الإلكتروني بل في مدى نزاهة الأدوات الإلكترونية. هل يكفي عداد القراءة لإثبات جدارة كتاب؟ أليس ما يحدث عبر "السوشيال ميديا" دعاية فجة، وتوجيهاً مضمراً لأسماء وعناوين معينة؟ هل هي "مسرحية ثقافية" لإخفاء عملية تجارية مدفوعة الأجر؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن أي تحليل لسوق الكتاب العربي ومدى انتشاره ومقروئيته وحقوق الملكية وخسائر القرصنة وأرباح التطبيقات وعوائد الناشرين والكتاب، كل ذلك يتطلب قاعدة بيانات غير متوفرة، ومعايير شفافة لم تتحقق بعد. لذلك لا يمكن التنبؤ بمستقبل الكتاب العربي في اللحظة الراهنة، لكن المؤكد أنه يمر في مرحلة انتقالية قد تغير خريطة الكتابة وأولوياتها، ونوعية الكتاب البارزين، وطرق النشر والدعاية، وطبيعة شرائح القراء.

ثمة من يقرأ ما يجري بعين إيجابية في اتجاه تطور صناعة النشر والاهتمام بالتسويق، وهذا ليس عيباً، خصوصاً ونحن نتحدث عن عدد سكان يتجاوز 400 مليون نسمة في العالم العربي، فمن الجيد الوصول إليهم عبر أية طريقة تكنولوجية أو دعائية، بدلاً من الاكتفاء بتوزيع بضع مئات من النسخ المطبوعة.

بينما من ينظر بعين الريبة إلى النشاط الخفي في دهاليز "السوشيال ميديا" يخشى من التوجيهات المضمرة، والتحيز الأعمى لكتاب ليسوا جيدين، وغياب الكتب الجادة بحكم طفو كتب التسلية، وابتذال الإبداع بتسليعه، فغالباً الأكثر رواجاً ليس الأفضل كقيمة إبداعية وفكرية. ترى هل وصلنا في النهاية إلى "سوق" نشر رائجة مالياً ودعائياً، لكنها مضادة للقيمة والإبداع؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة