منذ أن أعلن الفتى العجيب إيلون ماسك عن شرائه شركة "تويتر" بمبلغ 44 مليار دولار، والتساؤلات لا تنقطع عن تلك الأموال الهائلة التي توافرت له، من أين جاءت؟
التساؤل عينه ملأ كثيراً من الساحات عن الموازنات الهائلة التي توافرت لماسك نفسه، لكي يمضي في طريق الاستثمارات الهائلة الخاصة بالسيارات الكهربائية، والتي يتوقع لها أن تغرق الأسواق الأميركية والعالمية في العقود المقبلة، ما يخفف الحمل عن استهلاكات قطاع الطاقة، ويفتح درباً جديداً في طريق التقدم التكنولوجي.
أما الدهشة الأكبر، فتصيب المتابعين من المليارات المتوافرة لماسك كي يتابع برنامجه الصاروخي الفضائي، وينشر أقماره الاصطناعية بالمئات في الفضاء الخارجي، وتالياً تستخدم في خدمة الأغراض العسكرية الأميركية.
لا يتوقف الأمر عند حدود إيلون ماسك فحسب، بل يمتد المشهد بدوره إلى مايكل زوكربيرغ، فتى الـ"فيسبوك" الشهير، الذي مضى بدوره في طريق شراء شركة "واتساب" بمبلغ 18 مليار دولار، وهو مبلغ يعادل أضعاف موازنة دولة متوسطة الحال.
يمكن أن ينسحب الأمر بالقدر نفسه، لكن بصورة أو بأخرى على جيف بيزوس، مؤسس شركة "أمازون"، وغيره من كبار الأسماء التي نراها لامعة، والتساؤل، هل هؤلاء مجرد واجهات لأسياد ماليين يتحكمون منذ زمان بعيد في الحياة المالية الأميركية والعالمية؟
ربما المسموح به هو أن نسمع بهذه الأسماء، لكن تغيب عنا الأسماء الأخرى الفاعلة في الحياة الاقتصادية الأميركية، التي تتعاطى بتريليونات الدولارات، وليس بالمليارات فحسب، أسماء بعضها معروف تاريخياً، من عينة عائلة مورغان، ورتشيلد، وروكفلر، لكن قليلين جداً من استمعوا إلى أسماء مثل "بلاك روك"، و"فانغارد"، تلك الكيانات الهائلة المتوارية، التي تشكل كيانات اقتصادية، حكماً تفوق قدرات دول بعينها.
هل من بعض الأمثلة عما نعرف؟ هذا ما سنحاوله، مع القطع بأن هناك بلا شك ما لا نعرفه، وغالباً يفوق ما نعلمه.
عن مورغان وعلاقته مع إيلون ماسك
من بين الأسماء اللامعة في سماوات البنوك الأميركية، يأتي الحديث عن اسم مورغان وبنكه الكبير الشهير، الذي يشتري عادة ما يقع من البنوك الصغيرة التي تصاب بالإفلاس هذه الأيام في الداخل الأميركي.
تعود جذور العائلة إلى "جون بيربونت مورغان" المهاجر من إنجلترا وتنتمي إلى الكنيسة الأسقفية الأميركية، أي إنه محسوب على الجناح اليميني الأميركي منذ عقود بعيدة.
لعبت عائلة مورغان دوراً مهماً في تاريخ الحياة المالية والمصرفية في الولايات المتحدة منذ عام 1837، وقد تعاظم قدرها حين رتب مورغان الجد اندماج شركتي "إديسون جنرال إلكتريك" و"طومسون هيوستن إلكتريك" لتكون "جنرال إلكتريك".
على أن المثير في تاريخ هذه الأسرة، هو أنه في حياة جون بيربونت نفسه، عهدت إليه مؤسسة روتشيلد، التي سنأتي على ذكرها لاحقاً، بتمثيل مصالحها في أميركا عام 1899، وقد برهن مورغان على كفاءته لهذا المنصب.
لم تكن أموال مورغان وشركاته، ومن ثم بنوكه لاحقاً، لتغيب عن الساحة السياسية، فقد تمكن مع شركائه من إيصال تيودور رزفلت (1858-1919)، إلى مقعد الرئاسة الأميركية، ليحتل الرقم 26 في تاريخ رؤساء أميركا.
ما علاقة مورغان بإيلون ماسك؟
يحتاج الأمر إلى القليل من العمل البحثي، لندرك أن اليد اليمنى لماسك، التي تفعل كل شيء، من البحث عن صفقات التمويل، مروراً بمهمة تدمير الخصوم، وصولاً إلى إيجاد أفكار الابتكار والمخترعات الجديدة، هو المدعو "جاريد بيرشال"، أحد عقول "بنك مورغان"، ولسنوات طويلة انتقل بعدها لمساعدة رئيس "تيسلا" على إنشاء مكتب العائلة "إكسيشين"، الذي جاءت تسميته من رواية الخيال العلمي التي تحمل الاسم ذاته للكاتب إيان بانكس، وتتمحور الرواية حول كائن فضائي غريب وقوي، هو "الخارق"، الذي يظهر ويحفز المجتمعات للقتال ضد سيطرته عليها.
هل بيرشال هو مندوب "مورغان غروب"، في دائرة كل ما هو جديد ومثير وربما خطير، أي إنها المجموعة التي تمسك بعنق الاكتشافات الأميركية التي تسود العالم؟
مكتب العائلة هذا الذي يديره بيرشال، ليس مكتباً اعتيادياً، فغالبية استثمارات ماسك، يتحكم فيها عبر هذا المكتب، مثل شركاته الخاصة "تيسلا"، و"سبيس إكس"، و"بورينغ"، و"نيورالينك"، وهي منطلقات ستحدد مستقبل البشرية في العقود والقرون المقبلة، عطفاً على أنه كان عراب صفقة "تويتر".
لعب بيرشال أدواراً أكبر بكثير من إدارة هذا المكتب على أهميته، أدوار تظهر لنا شبكة العلاقات البنكية المورغانية التي يتمتع بها، والتي ساعدت في تسهيل حصول ماسك على 40 مليار دولار لشراء "تويتر"، ونجاحاته في أن يجد قروضاً لماسك لتمويل مشاريعه الجديدة، بدلاً من أن يضطر إلى بيع أسهم "تيسلا"... هل إيلون ماسك هو غطاء لمورغان التاريخي التقليدي؟
"فيسبوك" و"تويتر"... ابحث عن فانغارد
قطعاً لن يحدثك أحد عن العلاقة القائمة بين "فيسبوك" و"تويتر" و"واتساب"، وبين هذا الكيان العملاق الذي يعد أحد الملاك الحقيقيين، لأسهم شركات التواصل الاجتماعي المهمة الثلاث المتقدمة.
يحتاج الحديث عن فانغارد إلى قراءة مطولة، ذلك أننا أمام كيان عملاق، والبحث في تفاصيله أمر مثير، كما أن المعلومات قليلها معروف كرأس جبل الثلج، فيما البقية غاطسة في قاع المحيط.
باختصار غير مخل، تعد فانغارد أكبر شركة أميركية للاستشارات في الاستثمارات، ومهمتها الرئيسة هي إدارة الأصول.
هل هذه الشركة غطاء بدورها للمجمع الصناعي العسكري الأميركي؟
ربما يكون ذلك كذلك، إذ سميت الشركة على اسم سفينة حربية بريطانية، وأقرب ما يكون لـ"الطليعة الحربية المصفحة" باللغة العربية، في إشارة أيضاً إلى قدرة الشركة على الاستثمار طويلاً.
تبدو القصة المروجة لتأسيس هذه الشركة العملاقة، التي لا نجد أرقاماً مؤكدة عن رأسمالها واستثماراتها، فهناك من يقول سبعة تريليونات دولار، وآخر 10، تبدو غير قوية بما يكفي، وترجع إلى قيام رجل أعمال أميركي يدعى "جاك بوجل"، بتأسيسها عام 1974، وذلك بعد أن تسبب إدماجه بين شركتين في خسارة للشركة مما أدى لفصله منها، ليقرر البدء في إقامة شركة جديدة على أسس مختلفة وبالفعل أقام "فانغارد".
مهما يكن من أمر قصة التأسيس ومدى صحتها، فإن ما يهمنا هو ما ورائياتها وطبيعة عملها ومجالات استثماراتها.
تميل "فانغارد" إلى التعامل مع العملاء الكبار، أولئك الذين يستثمرون الملايين، وتعطي مزايا لكبار العملاء من خلال منح أي عميل تزيد معاملاته على مليون دولار، 25 صفقة تداول مجانية بلا عمولات أرباح أو عمولات أساسية، ويحصل من تزيد استثماراته على خمسة ملايين دولار على صفقة تداول مجانية تماماً.
لا تهمل "فانغارد" العملاء الصغار، أي الذين تقل استثماراتهم في أصول الصناديق المشتركة عن مليون دولار، ولا يكلف الأمر سوى 20 دولاراً لتداول صندوق مشترك كرسوم للمعاملات عبر الإنترنت.
ومن ضمن العناصر التي تمتاز بها "فانغارد" تقديم دورات تدريبية لمن يقومون باستثمار أموالهم لديها، حتى يعلموا النهج السليم للاستثمار أولاً، ولكي يعلموا أسباب التحركات التي تقوم بها الشركة في الأسواق دون الحاجة لتقديم إيضاحات كثيرة ثانياً.
ما الذي تقدمه "فانغارد" من خدمات على وجه التحديد؟
الثابت أنه إضافة إلى الصناديق المشتركة والصناديق المتداولة، تقدم "فانغارد" خدمات الوساطة والمعاشات السنوية المتغيرة والثابتة، وخدمات الحسابات التعليمية، والتخطيط المالي وإدارة الأصول وخدمات الإئتمان.
ولمهارة "فانغارد"، يأتي تصنيف عديد من الصناديق الاستثمارية التي تديرها على رأس قائمة صناديق الاستثمار الأميركية من خلال الأصول الخاضعة للإدارة.
هل الأسلوب الهادئ الذي تدير به "فانغارد" أعمالها بعيداً في أحيان كثيرة من ضجيج الإعلام والإعلاميين، هو أحد الأسباب التي جعلتها تحصد تقييمات مرتفعة للغاية من العملاء في ظل النتائج الطيبة التي تحققها متفوقة على مراكز مالية قوية مثل "جي بي مورغان" و"ميريل لينش" وغيرهما، وهو ما يؤهلها في نظر كثيرين لتحقيق نمو أكبر في الأصول في ظل الاضطرابات الاقتصادية الحالية والمتوقعة؟
قد يكون ذلك كذلك، لكن ماذا عن العلاقات الخفية لـ"فانغارد"، سيما في ظل تلك التعاملات التريليونية؟
المثير أنه بالبحث حتى المعمق منه لا نجد إلا القليل، كالقول إنها استثمرت نحو ستة مليارات دولار في شركات الفحم، ولم تقم وزناً للأضرار البيئية التي يسببها الفحم في التحولات الإيكولوجية الخطيرة التي تشهدها الكرة الأرضية.
ويبقى هنا أيضاً تساؤل مثير: لماذا تهتم "فانغارد" بشركات السوشيال ميديا، وبقية المؤسسات الإعلامية على نحو خاص؟
"بلاك روك"... ونصف الناتج المحلي لأميركا
الذين طالعوا السطور المتقدمة عن شركة "فانغارد"، لم يكن ليخطر لهم على بال، أن هناك كياناً مالياً أميركياً أوسع وأعمق، بل وأعرض، يتحكم في أصول تساوي نصف الناتج المحلي الأميركي.
إنها شركة "بلاك روك" التي يعجز المرء على رغم البحث المضني على الشبكة العنكبوتية، أن يجد لها أسماء ملاك حقيقيين.
ولعل ما هو متاح عنها يثير كثيراً من الغبار عن هويتها وأصحابها، سيما أنها تتعامل في أصول تصل في بعض التقديرات إلى 20 تريليون دولار.
هل "بلاك روك"، متقاطعة بدورها مع الإعلام العالمي والأميركي بنوع خاص بمفردها تارة، وبالشراكة مع "فانغارد" تارة أخرى؟
الأكثر غرابة في "بلاك روك"، أن الذين يسمعون عنها حول العالم قلائل جداً، وربما هذا أمر مقصود بعينه، كي تحرك الكون من غير أن يشعر بها أحد.
تمتلك "بلاك روك" حصصاً كبيرة جداً في مجموعة "غراهام ميديا غروب"، التي تمتلك مجلتي سلايت" و"فورين بوليسي".
ومع "فانغارد" تمتلك "بلاك روك" ما بين 10 و18في المئة من "سي أن أن"، و" سي بي أس"، و"فوكس"، و"ديزني" و"كومكاست جانيت"، و"سنكلير بروكاست غروب".
هل هذه مجرد شركات إعلامية تمتلكها مجموعة "بلاك روك"؟.
بالقطع الأمر يتجاوز ذلك بكثير، إننا أمام "ميغا بروجكت"، يتعاطى تريليونات الدولارات، ويدير المنافذ الإعلامية الأهم، والأكثر تأثيراً وفاعلية على مستوى الولايات المتحدة، لا سيما في مجال خلق الرأي العام، وتوجيهه كيفما يريد صاحب "بلاك روك".
تجني "بلاك روك" معظم أموالها عبر إدارة استثمارات العملاء، مثل مؤسسات خطط التقاعد وإدارة الثروات والهبات وغيرها من المؤسسات المالية.
إلا أن هناك أمر غريب وعجيب يميزها، ويجعل منها كياناً شبه خاص لأفراد معدودين وغالباً غير معروفين... ماذا عن هذا؟
المثير هنا هو أن أصول المستثمرين المؤسسين، تصل إلى نحو 60 في المئة من إجمالي الأصول التي تديرها، معظمها مرتبط بأسواق الأوراق المالية، إضافة إلى أصول بقيمة 265 مليار دولار تديرها في استثمارات بديلة متشعبة، عدا عن إدارة الأسهم الخاصة وصناديق الائتمان الخاصة وصناديق التحوط.
لا تمتد الأيادي الخفية لـ"بلاك روك"، ناحية الإعلام الأميركي فحسب، وهو صاحب اليد العليا حول العالم، بل تجد لها مكاناً متقدماً داخل الحياة السياسية الأميركية، ما يعني أننا أمام لعبة تبادل المصالح بين إعلام يدافع عن مؤسسات، ومؤسسات تنفق ببذخ المليارات على كيانات إعلامية قديمة الأدوات كالتلفزة والإذاعة والصحافة، وحديثها كالسوشيال ميديا وما شابه.
في عالم السياسة، نجد "بلاك روك"، تقوم بتعيين عديد من المسؤولين السابقين في الجهاز التنفيذي والتشريعي الأميركي، ضمن مناصبها العليا.
على سبيل المثال، شغل كل من دييس وأدييمو مناصب حكومية مؤثرة قبل وصولهما إلى شركة "بلاك روك"، إذ كان دييس مستشاراً كبيراً للرئيس باراك أوباما، وعين نائباً لمدير المجلس الاقتصادي الوطني قبل أن يتولى إدارته في عهد بايدن، في حين أن أدييمو الذي تولى إدارة موظفي لاري فينك، في شركة "بلاك روك" لمدة مؤقتة، عمل سابقاً مستشاراً للاقتصاد الدولي في حكومة الرئيس أوباما قبل أن يعين نائباً لوزير الخزانة الأميركية في عهد بايدن.
والمؤكد أنه لا يمكن الحديث عن "بلاك روك"، من دون التوقف طويلاً عند رئيسها التنفيذي، "لاري فينك"، المتحول من بائع أحذية إلى ملياردير يدير أكبر مؤسسة مالية حول العالم.
ولعله مما يستلفت النظر، أنه على رغم أزمة البنوك العالمية التي عصفت بالقطاع المصرفي الأميركي، تمكن صندوق الاستثمارات "بلاك روك"، من تحقيق أرباح ربع سنوية في أبريل (نيسان) الماضي، فاقت كل التوقعات، حين واصل المستثمرون ضخ الأموال في صناديقها المختلفة.
يتساءل المرء من عند بنوك "مورغان"، مروراً بمؤسسة "فانغارد"، ووصولاً إلى "بلاك روك"... ما الذي يريده ويديره هؤلاء من الإعلام وكبريات شركات التواصل الاجتماعي، وهل من قبيل الصدف الاستثمارية فقط، أن تكون تلك المجالات على رأس أولوياتهم واهتماماتهم؟
المؤكد أن هناك ما يمكن أن نقرأه من وراء السطور، سيما من خلال الصور التي تعكس خطط العقول الماورائية العميقة في الداخل الأميركي، ومنها على سبيل المثال، صورة شهيرة لإيلون ماسك مع غريغ أبوت حاكم تكساس السابق، والاثنان أمام لوحة تمثل معركة "إل الآمو" بين أميركا والمكسيك عام 1836.
الصورة ليست عفوية، سيما في ظل الدعوات العديدة التي تنطلق اليوم في تكساس للانفصال عن أميركا، وعليه سيكون التساؤل التالي هل من دور سيلعبه ماسك وتاليا زوكربيغ وغيرهم في تهيئة الرأي العام الأميركي لما ستجري به المقادير عما قريب؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإعلام ولعبة السيطرة على العقول
الجواب عن علامة الاستفهام الأخيرة، لا يمكن أن يكون بعيداً مما هو أبعد وأخطر، سيما في ظل الدور الذي تلعبه وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة حول العالم، على صعيد التحكم في العقول، ومن ثم توجيهها إلى حيث يرغب من في يده الأمر.
تبدو هذه الوسائط أدوات للتحكم في الحروب، بقدر ما هي أدوات للترويج الإعلامي، الذي كثيراً ما يكون كاذباً، كما شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة التي عرفت باسم "الربيع العربي".
تبدو رغبة الشركات التريليونية في السيطرة على وسائل الإعلام ووسائط التواصل الحديثة، منطلقة كذلك من أغراض عسكرية لها علاقة بعملية إدارة الحروب وعسكرة المشهد العالمي.
في كتابهما العمدة، "شبه حرب/ تسليح وسائل التواصل الاجتماعي"، يحدثنا بي دبليو سينجر المحلل الاستراتيجي، الأستاذ الممارس في جامعة ولاية أريزونا، وإيمرسون بروكينج، الكاتب المقيم في واشنطن الخبير في العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والصراعات، عن بعض التجارب الإعلامية الأخيرة التي تجعلنا نفهم السبب وراء العلاقة بين شركات الإعلام وبين الشركات العالمية هذه.
حين أعلنت أوكرانيا عن إنشاء "جيش إنترنت" تطوعي، استطاع مروجو الدعاية الروس تحويل الحدث كله إلى مزحة، وحين أطلقت ألمانيا "مركز الدفاع ضد المعلومات المضللة" لمكافحة الإشاعات الكاذبة وتعليم المواطنين التشكك في المصادر الروسية، لاحظ مذيع شبكات قنوات روسيا سيغودنيا (وهي ملاحظة صائبة)، أوجه الشبه بين هذا المركز وفكرة "وزارة الحقيقة" التي جاء على ذكرها الكاتب الروائي الإنجليزي الشهير جورج أورويل في رائعته "1984".
أكثر من ذلك، فإننا حتى الساعة أمام اتهامات متبادلة بين الروس من جهة والأميركيين من جهة ثانية، حول ما جرى في انتخابات الرئاسة 2016.
حين قدمت أجهزة المخابرات الأميركية أدلة موثوقة على التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، بهدف رفع الوعي العام بحرب المعلومات ونيل الدعم لأي أجراء أميركي مضاد، حرّف مروجو الدعاية الروس هذه الأدلة وجعلوها مؤامرة مزعومة من مؤامرات "الدولة العميقة".
غير أن هذا ما يقوله الجانب الأميركي، فيما الروس يقطعون بأن الأمر بالفعل صراع أميركي داخلي، جرى فيه تطويع وسائط التواصل الاجتماعي لتكون أداة للتحكم فيمن يصل إلى البيت الأبيض، وأن لا علاقة لهم بالأمر من قريب أو بعيد.
إذاً، يعود بنا المشهد إلى زمن الإمبراطورية الرومانية، حين كان القادر على إعطاء الخبز هو من يعطي الشريعة أيضاً، أما اليوم، فإن من يتحكم بالمعلومات ويطوعها حسب رغباته، هو من يقود العالم في معاركه اليومية.
من هنا تبدو العلاقة الخفية غير الظاهرة للعيان، ما بين مؤسسات المال التريليونية وبين أصحاب المبتكرات الإعلامية الجديدة أمراً مفهوماً.
ويبقى التساؤل: ماذا سيكون من شأن تلك المؤسسات في زمن "الميتافيرس" وثورة ما وراء المعلومات المقبلة في العقود التالية؟