ملخص
الكاتبة والروائية الفرنسية الشهيرة جورج صاند تعود للواجهة الأدبية عبر ثلاثة كتب جديدة غير منشورة، صدرت حديثاً في باريس
الكاتبة والروائية الفرنسية الشهيرة أمانتين أورور لوسيل دوبان دو فرانكوي المعروفة باسم جورج صاند (1804-1876) التي جمعتها بالموسيقار الكبير فريدريك شوبان (1810-1849) قصة حب رهيبة، تعود للواجهة الأدبية الفرنسية وإلى كثير من قرائها عبر ثلاثة كتب جديدة غير منشورة، صدرت حديثاً في باريس، وتنمي نصوصها إلى أدب الرحلة التي كانت هي من رواده الكبار، وإلى أدب الرسائل أو المراسلات الذي بلغ احدى ذرواته في القرن الـ 19.
والكتب هي "في السفر مع جورج صاند في الجنوب الغربي" (دار لوفستين)، "أسفار" (دار أرتو)، و"رسائل جديدة مكتشفة" (دار لو باسور)، عطفاً على كتاب صدر للباحثة فرانسواز جونوفراي عن علاقة صاند بسويسرا وعنوانه "سويسرا جورج صاند" (دار غارنييه).
وبدءاً لا بد من إلقاء ضوء على الكتابة الكبيرة مسيرة ومساراً أدبياً، فهي تعد واحدة من أكثر الكتّاب الفرنسيين غزارة، ووقعت أكثر من 70 رواية و50 عملاً أدبياً توزع معظمها على أدب الرحلات والقصص القصيرة والحكايات والمسرحيات والمقالات والنصوص السياسية، فضلاً عن ارتباط اسمها بعلاقات ومغامرات عاطفية عدة وبالتمرد على القيود المجتمعية.
سيرة مضطربة
ولدت جورج صاند في باريس لأب ضابط في الجيش الإمبراطوري تزوج سراً من امرأة من الطبقة الشعبية وعاش معها في صراع حتى وفاته، مما ولَّد لدى طفلته شعوراً بالاختناق كان السبب، على ما تقول، في تمردها. وقد تلقت صاند تعليمها أولاً في مدينة ريفية صغيرة تقع جنوب غربي باريس تدعى نوهان- فيك، إذ عاشت في كنف جدتها تستمع إلى القصص التي يرويها الفلاحون في جلساتهم، وقد حولتها الأديبة فيما بعد إلى مادة أولية لرواياتها قبل أن تنتقل إلى إحدى المدارس الداخلية للراهبات في باريس فجرت في أعماقها حب التمرد في بادئ الأمر ومن ثم التوق إلى اعتناق الحياة الديرية.
وفور عودتها لنوهان تزوجت صاند وهي في الـ 18 من عمرها من البارون كازمير دودفان ورزقت منه بطفلين، لكنها سرعان ما انفصلت عنه لتعيش حياتها بحرية كاملة مثيرة العديد من الفضائح في علاقاتها مع بعض المشاهير مثل الشاعر ألفرد دو موسيه وبروسبير مريميه والموسيقي فريديرك شوبان والكاتب جول صاندو الذي أوحى لها باسمها المستعار بعدما وقعت وإياه على رواية أولى بعنوان "روز وبلانش" نشرت عام 1831 باسم جول صاند.
وبعد انفصالها بوقت قصير عن هذا الكاتب المغمور قررت أورور دوبان الاستمرار في الكتابة، غير أنها وجدت من المناسب الاحتفاظ بالاسم المستعار "صاند" وإضافة الاسم الأول المذكر "جورج" كي تؤخذ كتاباتها على محمل الجد، وقد وقعت بهذا الاسم كل نتاجها الأدبي الزاخر الذي تميز بأسلوب سهل لا تكلف فيه، وبعد طلاقها من البارون دودفان قررت صاند الاستقرار في باريس لتثير حولها زوبعة من الاستنكار في الأوساط المخملية لخروجها بزي الرجال وانتقائها البنطال وتدخينها الغليون والسيغار، وقد شغلت مغامراتها العاطفية الصالونات الأدبية في أوروبا كافة.
وصفت الروايات الأولى التي نشرتها هذه الأديبة الشابة الحب الذي عصف بها وبمشاعرها، وعبرت من خلالها عما كانت تحمله من تمرد على الأحكام المسبقة التي كان يطلقها المجتمع آنذاك، غير أنها سرعان ما سلكت في كتاباتها اتجاهاً آخر متأثرة بروحانية وإنسانية الكاهن والفيلسوف لامنيه (1782- 1854) الذي تطلع إلى مسيحية قريبة من الإنجيل لا تعرف الفتور والتواطؤ بين السلطتين الروحية والدنيوية، وقد أحدث كتابه "بحث حول اللامبالاة في شؤون الدين" هزة في الأوساط الأدبية، إذ دعا إلى صحوة الفكر من الخمول والإلحاد ودافع عن الحرية بأنواعها السياسية والدينية والتعليمية، وعن الشعوب المقهورة وسيادتها مستقطباً اهتمام الأدباء من معاصريه، كما تأثرت صاند بكتابات السياسي والمنظر الاشتراكي بيار لورو، وبدا هذا التأثر واضحاً في الروايات التي نشرتها في هذه المرحلة من حياتها مثل رواية "موبرا" و"رفيق درب جولة فرنسا" و"كونسويللو" و "طحان أنجيبو" وغيرها من الروايات.
تقلبات المشاعر
بدأت شهرة جورج صاند الأدبية عام 1832 حين أصدرت رواية "إنديانا" ثم روايات "فالنتين" و"ليليا" و"جاك" وغيرها من الروايات التي تناولت قصص حب رومانسية، وفيها وصفت تقلبات المشاعر العاطفية والعشق الصاخب كما عاشته مع دو موسيه وشوبان، لكنها سرعان ما اهتمت في روايات أخرى بوصف حياة القرويين مثل "بركة الشيطان" و"فاديت الصغيرة"، وفي كثير من النصوص والسرديات. وقد أبدعت صاند أيضاً في كتابة الرواية المثالية التي ترجمت من خلالها مشاعرها وأفكارها وآرائها عندما غيرت موقفها من الأدب، إذ أصبح بتأثير من الاشتراكية والإنسانية وتجربة الشاعرين لامارتين وهوغو، المتحدث باسم الشرائح الشعبية.
كانت كتابات جورج صاند تدافع أولاً عن تقلبات المشاعر العاطفية الصاخبة والعشق والوله والعوالم الداخلية للمرأة، لكنها تحولت ثانياً إلى الدفاع عن القيم الإنسانية والتضامن الاجتماعي، غير أن هذا الدفاع بجناحيه لم يندرج فقط في إطار جرأة صاند وتحررها في زمن لم تجرؤ فيه النساء على انتقاد السياسات الاجتماعية والاقتصادية المتبعة في بلادها ونشر أفكارهن التحررية والعيش بموجبها، بل تعداها مع هذه الكاتبة الاستثنائية المأخوذة بالبحث عن جوهر الأشياء وسر الذات ليندرج في إطار الفكر الاستشرافي، فاليوم وبعد مضي 200 عام على ولادة جورج صاند تبدو لنا هذه الأديبة المميزة كامرأة ذات أفكار ورؤى تجاوزت العصر الذي عاشت فيه، وهي التي استشرفت بعض ما ستكون عليه فرنسا على المستوى السياسي والأدبي والتي زاوجت بين الحب والكتابة والسفر.
وجورج صاند الأديبة المتدفقة مثل النهر روجت في عدد من الكتب والمقالات التي نشرتها لأفكار السلام والدفاع عن الإنسان والطبيعة والحياة القروية البسيطة، وقد كانت كل رواياتها مأهولة بوصف الجبال والوهاد والبحار وبالدعوة إلى السفر وعدم الركون والثبات، ولعل السفر هو الشيء الأكثر ثباتاً في حياتها وهو أكثر ما اشتهرت به إلى جانب كتابتها لعدد من الرسائل التي فاق عددها عدد أيام عمرها.
نصوص ورحلات
في الكتاب الجميل الصادر حديثاً عن دار آرتو بعنوان "أسفار جورج صاند" الذي مهد له الكاتب والصحافي هوبير برولنغو، يعود القارئ لعدد من النصوص التي وضعتها الأديبة والروائية الفرنسية الشهيرة أمانتين أورور لوسيل دوبان دو فرانكوي المعروفة باسم جورج صاند (1804-1876) عن الأسفار والرحلات التي قامت بها داخل فرنسا وخارجها، وتنتمي هذه النصوص الممتعة إلى ما يعرف بأدب الرحلات وهو نوع من أجمل أنواع الأدب، يوثق كل ما صادفه المسافر في رحلاته من خلال وصف الأماكن التي زارها والناس الذين التقاهم والتفاصيل التي عاشها، فضلاً عن انطباعاته. وقد استمدت كتب الرحلات أهميتها ليس فقط من خلال وصف الأحداث والمدن والقرى والأماكن والتفاصيل المرتبطة بجغرافية السفر والمواقع الطبيعية، بل بأسلوب الأديب وطريقته في الكتابة.
وجورج صاند التي عرفت تجربة السفر للمرة الأولى في حياتها عام 1808 عندما غادرت رفقة والدتها وهي في السنة الرابعة من عمرها البيت العائلي متجهة إلى إسبانيا بغية الانضمام إلى والدها، الضابط والمساعد العسكري للمارشال مورا، واحدة من الذين ارتبط اسمهم بهذا النوع من الأدب.
يعود أول نص أدبي يروي لنا رحلات جورج صاند إلى عام 1829، وفيه تسترجع الكاتبة الطفولة والذكريات المتعلقة برحلتها الأولى إلى إسبانيا، وقد ضم الكتاب الصادر حديثاً إلى جانب هذا النص نصوصاً أخرى كتلك التي تناولت زيارتها إلى السيد بليز أو الأسفار المتعددة التي قامت بها إلى مقاطعة الأوفيرني الفرنسية، وذاك الشتاء الذي أمضته في جزيرة ميورقة عاصمة جزر البليار الإسبانية رفقة ولديها والموسيقي فريديرك شوبان (1810-1849) وقد اشتد مرضه، وكذلك عدداً كبيراً من الرسائل التي تبادلتها مع أدباء وأصدقاء خلال عدد من رحلاتها.
وشكلت هذه النصوص والرسائل التي اختلطت فيها قصص الرحلات بالسيرة الذاتية عملاً أدبياً متكاملاً ربط بين تجربة السفر ووصف الطبيعة وسبر أغوار النفس البشرية من خلال الحديث عن الذات والشعور والأحاسيس والحياة وغيرها من المواضيع المهمة، وجورج صاند التي تقول إنها تنظر إلى كل شيء من منظور انطباعاتها الشخصية تعتبر السفر كمجموعة من الدروس في علم النفس والفيزيولوجيا، وترى أنه يضع الذات الإنسانية على محك الاختبار والتجارب.
فلسفة السفر
بهذه البساطة والحميمية تعبر الأديبة بوضوح عن الفلسفة التي قاربت من خلالها إشكال السفر والمكان الآخر واكتشاف الجديد في أدب الرحلات والرسائل المرتبطة به، والذي كان رائجاً رواجاً منقطع النظير في أوروبا خلال القرن الـ 19، وهذا ما دفع بكبار الأدباء الذين سبقوا صاند أو عاصروها، مثل شاتوبريان وستندال ونرفال وغوتييه ودوماس وفلوبير الذي ربطته بالروائية صداقة عميقة، إلى وضع كتب رووا فيها أخبار رحلاتهم وأسفارهم إلى أقاصي الأرض، كتلك التي قادتهم إلى الشرق أو إلى بلاد القوقاز أو إلى البلقان وغيرها من الأماكن في العالم، وكشفوا لنا فيها عن انطباعاتهم وآرائهم في عادات الشعوب وتقاليدها ونظمها الاجتماعية والسياسية، لكن أدب صاند خلافاً لأدب معاصريها، اقتصر في غالبيته على سرد قصص الرحلات التي قامت بها داخل الأراضي الفرنسية، وعلى رواية تفاصيل إقامتها في المقاطعات الواقعة جنوب غربي فرنسا في جوار جبال البيرينيه، أو في البروفانس أو النورماندي والآردين وغيرها من المقاطعات، فضلاً عن الرحلات الثلاثة التي قامت بها إلى بلدان تقع على حدود وطنها مثل إسبانيا وسويسرا وإيطاليا التي زارتها رفقة الفريد دو موسيه، وكان الحب العنيف قد جمع بينهما لفترة.
جمعت "دار آرتو" هذه النصوص في مجلد أول على أن تستكمل نشر ما تبقى منها، لا سيما "يوميات مسافر في زمن الحرب" و"الرحلة إلى الجنوب"، والتي قادتها في عام 1861 إلى أعالي تاماريس على مصب نهر الرون، في مجلد ثان. ولا شك في أن النص الذي تناول تفاصيل رحلة صاند وهي في الـ 34 من عمرها إلى جزيرة ميورقة رفقة الموسيقي فريديرك شوبان المصاب بمرض صدري والذي يصغرها بستة أعوام تتربع على عرش هذه النصوص، وكانت صاند تعرفت على شوبان ذات سهرة عند عشيقة صديقه الموسيقي فرانتز ليست، وغداة هذا اللقاء كتبت صاند رسالة من 32 صفحة إلى صديق مشترك صارحته فيها بميلها الشديد إلى الموسيقي البولوني وبرغبتها في قطع علاقتها العاطفية بعشيقها آنذاك فيليسيان مالفيل.
الكاتبة والموسيقار
في صيف عام 1838 انكشفت العلاقة بين جورج صاند وفريدريك شوبان (1810-1849) وكانت حال صحته تزداد تدهوراً، فحملته مع ولديها إلى جزيرة ميورقة الإسبانية حيث أقاما أشهراً شتائية صعبة زاد صعوبتها اكتشاف أهالي الجزيرة أن شوبان وصاند ليسا متزوجين، وهو ما يخالف عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الدينية، فاضطرت صاند إلى نقل عشيقها المريض إلى دير يقع في قرية نائية عند أطراف الجزيرة ودفعت كلف نقل البيانو خاصته من باريس إلى تلك القرية، وفي هذه القرية النائية وضع شوبان مؤلفات موسيقية متلاحقة تعد من أفضل أعماله. ويرى مؤرخوه أن إقامته في الدير النائي على رغم البرد القارس كانت من أكثر فترات حياته خصوبة، ومن جهتها كتبت صاند أثناء إقامتها هذه نصوصاً ورسائل رائعة تحدثت فيها عن عشقها لشوبان واشتداد مرضه، واصفة شعلة الإلهام في تأليفه بكلمات تنضح إعجاباً يشي بأنها ليست في وارد التخلي عنه لأي سبب من الأسباب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن هذه العلاقة بدأت شيئاً فشيئاً تفتر بين العاشقين، وها هي صاند في عام 1847 تنشر رواية بعنوان "لوكريسيا فلورياني" تتحدث عن ممثلة ثرية وعن علاقتها بأمير ضعيف البنية هزيل الصحة، وعزا النقاد عقدتها إلى علاقة الكاتبة بشوبان لما فيها من قسوة الممثلة ووهن الأمير.
وفي النهاية فإن جورج صاند، صاحبة القلم الجارف، تركت لنا قصة حياتها ومجموعة من الرسائل تناولت فيها بأسلوب أدبي جذاب علاقاتها ببعض الأصدقاء والكتاب والفنانين التشكيليين الطليعيين الذين ارتبطت معهم بعلاقات صداقة أو بعلاقات حب جارف أمثال بلزاك وسانت بوف وفلوبير ودو لاكروا وشوبان ودو موسيه وآخرين، ووجهت هذه الرسائل الأنظار مجدداً إلى كتاباتها وسيرتها الذاتية التي تناولها بالدراسة والتحليل باحثون كبار بعد أن استمدت أهميتها من حيث تأريخها لأحداث ووقائع ثقافية وفنية مهمة ولاضطرابات سياسية عاشتها أوروبا في هذه المرحلة من تاريخها.
وفي نهاية حياتها اعترفت صاند بأن العالم لم يفهمها، لكنها أقرت بأنها فتحت الطريق أمام نساء أخريات كي يعشن حياتهن كما يردن وليس كما يريد المجتمع، وقد لقبت هذه الأديبة والمرأة الملهمة التي تشتعل إبداعاً وذكاء متقداً بروائية الأرياف، وهي التي تحركت فوق رقعة واسعة من الأساليب والأنواع الأدبية، لذا قال عنها المؤرخ والفيلسوف إرنست رينان إن روائعها ستظل تقرأ لقرون، وهي لا تزال حتى اليوم تحظى باهتمام القراء والناشرين والباحثين، وتحتل موقعاً بارزاً في الساحة الأدبية التي تشهد كل بضعة أعوام إعادة نشر عدد من نصوصها في زمن يشهد على صدور مئات الكتب والروايات التي لا يعيش بعضها أكثر من بضعة أشهر.