ملخص
تقرير معهد "رويترز" للإعلام سلط الضوء على اتجاهات وتوقعات مهنة الصحافة لعام 2023 مبيناً سخط كثير من قياديي وسائل الإعلام مما سموه تراجع اهتمام الجمهور بما تنشره مؤسساتهم من أخبار
مثلت الحروب كابوساً مرعباً في كل زمان ومكان، وكانت مصدر غياب الأمان والطمأنينة لأي أمة مهما بلغت قوتها وقدراتها، لكن حروب الربع الأول من القرن الحالي اتسمت بصفة خطرة عن سابقاتها، فهي تحظى بشعور اللامبالاة من قبل المتابعين حول العالم، وهذا له ما له وعليه ما عليه، إذ شهدت ساحات القتال أخيراً أحداثاً صعبة ومأسوية مثل ما حدث في السودان جراء الاقتتال الداخلي بين الجيش وقوات الدعم السريع، وعلى رغم ما يحدث هناك من سفك لدماء المدنيين وإزهاق لأرواح مئات المواطنين، إضافة إلى الأحوال الإنسانية الصعبة التي يعيشها الناس من الجوع والفقر، تقابل هذه الأحداث بشيء من الاهتمام في الأيام الأولى إلا أن متابعة الأحداث الدامية سرعان ما انخفضت، وهذا ما جرى تماماً في متابعة الحرب الروسية - الأوكرانية التي قد تكون الشرارة الأولى للحرب العالمية الثالثة بين المعسكرين الغربي والشرقي، إلا أن حالة من اللامبالاة ضربت مزاج المشاهد حول العالم.
أرقام وإحصاءات
تقرير معهد "رويترز" للإعلام سلط الضوء على اتجاهات وتوقعات مهنة الصحافة لعام 2023، مبيناً سخط كثير من قياديي وسائل الإعلام مما سموه تراجع اهتمام الجمهور بما تنشره مؤسساتهم من أخبار، وفي الإطار ذاته يشهد العالم حالياً - بعد عقود من النمو المتواصل - انخفاضاً في مقدار الوقت الذي يقضيه الناس وهم يتصفحون الإنترنت.
وبحسب ما أشارت إليه شركة جي دبليو آي (GWI) الأميركية المتخصصة في أبحاث التسويق فإن مقدار الوقت الذي يقضيه الناس على الإنترنت انخفض بنسبة 13 في المئة بعد أن بلغ مستوى قياسياً في فترة الإغلاقات التي عرفها الناس أثناء انتشار وباء كورونا، إذ بلغ الناس ما يمكن تسميته "مرحلة ذروة الإنترنت."
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي التقرير الذي أصدره معهد "رويترز" للإعلام عن اتجاهات وتوقعات مهنة الصحافة لعام 2023، فإن هذا التغيير المهم كان يمكن الاكتفاء بتفسيره على أنه نتيجة طبيعية لما يمكن تسميته بتشبع السوق، لكن وكالة (GWI) تشير إلى أن هذا التغيير يعكس أيضاً القلق الذي يشعر به الناس من استخدام الإنترنت، وتصفح منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
تقول المتخصصة الاجتماعية عبير السعد "داخل البيوت العربية كانت تسود التلفزيونات في مجالسهم، وتفرض صوتها عالياً وسط صمتهم، حيث لا يقوون على النطق إلا جمل المؤازرة المعنوية والتعاطف غير المحدود مع أخبار الحروب".
عقد من الأوجاع
ومنذ أحداث الربيع العربي لا يكاد ينتهي منظر الدمار في دولة إلا ويبدأ في دولة أخرى. تظاهرات وتخريب ومناظر دماء اعتادت أعين المشاهدين عليها، إلى أن جاءت فئة أكثر تدميراً وهو تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي بدأ فصولاً جديدة من مناظر أشد إجراماً بحرق أشخاص أحياء وذبحهم، وتسابقت الوسائل الإعلامية لنشر مثل هذه الأخبار. وما إن بدأ المجتمع يتنفس الصعداء بعد البدء في القضاء على "داعش" حتى أتى فيروس "كوفيد-19" في عام 2020، وما ترتب عليه من إغلاق العالم حدوده، وإجراءات الحجر الصحي التي كان من الصعب على المرء أن يرى كل هذه الأحداث تتكشف أمامه من دون أن يتملكه الحزن وتنال منه الكآبة.
وبعد قرابة عامين مع أخبار الفيروس ومخاوف اللقاح تحققت للمجتمع مناعة من مشاهدة الأحداث، ولم يعد يثير فضوله أي حدث دولي أو إقليمي، على رغم حرب روسيا وأوكرانيا الدامية والصراع الذي يعيشه الشعب السوداني، فإن متابعة الأخبار لم تعد مهمة لدى المجتمع لأنه اعتادها.
وتضيف المتخصصة الاجتماعية "الخبر الوحيد الذي شد اهتمام العالم في السنة الأخيرة موضوع الزلزال، ما عدا ذلك لم يعد يتابع مجريات حرب بين بلدين عظميين ولا حرب أهلية أو عسكرية أو انقسام في أي دولة كانت".
وأشارت إلى أن تكرار المشاهد في الأخبار أدى إلى اعتيادها وفقدان تأثيرها، فالمنافسة بين وسائل الخدمات الإخبارية جعلت الناس يعتادون على صور الموت والدم حتى أصبحت جزءاً من ثقافة حديثهم اليومي.
وقال الكاتب الصحافي خالد الحارثي "أدى تكرار مشاهدة صور الدمار والوحشية إلى تبلد مشاعر المشاهدين حول العالم"، مبيناً أن مهمة الإعلام هي تزويدنا بالأخبار إلا أن الكم الهائل من الأخبار جعلنا نعتاد على مناظر الدمار التي طاولت الإنسانية، بالتالي أي جريمة تقع نكون معتادين عليها وهنا لا نتأثر بها.
تلعب الصورة دوراً في إحداث تأثير في الرأي العام، لكن طول مدة الحرب وتكرار عرض الصور يولدان اعتياداً لدى المشاهد مما يضعف التأثير، بالتالي تتراجع مشاعر التأثير، ويصبح منظر الأشلاء أمراً اعتيادياً قد ينعكس على التجارب الشخصية.
ولفت الحارثي الأنظار إلى أنه في علم النفس ثمة عجز نفسي يكتسبه الإنسان عندما يزداد تعرضه لعوامل الإحباط والألم والشعور باليأس، ومن ثم يتحول إلى إنسان لا مبال، ويفقد الرغبة في التغيير، ثم تصبح الصور غير مؤثرة ولا يشعر بمعاناة أصحابها.
بدوره، أشار الطبيب النفسي عبدالله آل دربا إلى أن المجتمع أصبح لديه وعي نفسي، فالأخبار خلال الـ15 سنة الماضية كانت تنقل بشكل يومي القتل والتهجير والتعذيب، والسبب يعود إلى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في زيادة نقل الخبر ومناظر الدماء وتصاعد الأحداث، وما سببته وسائل التواصل الاجتماعي نفسها من أحداث مثل الربيع العربي و"داعش" وأخيراً "كورونا"، وصنعت الأخبار حالة من الحزن والاكتئاب والقلق والخوف والهلع، ليتحول ذلك إلى نتيجة عكسية بعدم الالتفات إلى هذه الأخبار ونقل المشاهد السيئة في وسائل التواصل الاجتماعي لأنهم شعروا أنها تعطل الحياة وتعوقها.
وقال آل دربا "استشعر المجتمع في شدة الأحداث بأن هذه مجرد نقاط في الحياة موقتة ويستطيع الإنسان تجاوز أي حدث، لذلك لم يعد هناك متابعة للأحداث عدا العناوين في الأحداث الكبيرة والصعبة".
دور السوشيال ميديا
بينما رأى الباحث والكاتب محمد الأحوازي أن الإحصاءات غير عادلة، ولا يزال المجتمع يهتم لمتابعة مجريات الأحداث العالمية والمحلية ولكن لم تعد وسائل الإعلام سواء التلفزيون أو الصحف هي الوسيلة الأولى للمتابعة، إذ إن وسائل التواصل الاجتماعي استحوذت على متابعة الأخبار.
وقال الأحوازي "على سبيل المثال لو سألنا أي طفل من الأحواز وصولاً إلى مصر عما يحدث في العالم لأشار إلى الحرب الروسية - الأوكرانية ومشاهد الطائرات المسيرة التي ضربت قبة الكرملين، والمناظر الدموية في السودان والدخان فوق مدينة الخرطوم وعمليات الإجلاء التي قامت بها السعودية لرعاياها ورعايا من الدول الأخرى".
ونبه الأحوازي إلى دراسة قاموا بها تخص تراجع معدلات القراءة بين الشباب بشكل عام إلى وسائل التواصل الحديثة "التي تسرق وقت الناس، وتجعلهم يفضلون القراءة على الشاشات الصغيرة"، مشيراً إلى أن الشباب يتخيل أن هناك مصادر أخرى للحصول على الخبرة سواء عن طريق الفيديوهات أو غير ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي.
وبالعودة إلى دراسة "رويترز" التي أشارت إلى أنه من الصعب تقديم صورة واضحة عن مستوى تصفح الأخبار عبر الإنترنت، إذ يقول 58 في المئة من الناشرين الذين استطلع معهد "رويترز" آراءهم ضمن تقريره لتوجهات الصحافة 2023 إن الزيارات (القراءات) لمواقعهم ظلت ثابتة أو متراجعة، على رغم تقديم وسائل الإعلام أخباراً وتقارير صحافية وسلسلة من الموضوعات المهمة، مثل الحرب الروسية - الأوكرانية وارتفاع أسعار الطاقة والتغير المناخي ووفاة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية.
إلى ذلك أوضحت بيانات تقرير الأخبار الرقمية لعام 2022 أن ظاهرة تجنب جزء من الجمهور المواقع الإخبارية، بما تشمله من موضوعات مهمة مثل السياسة، قد تضاعف.
ويتناول تقرير "رويترز" ظاهرة أخرى متصلة بموضوع ذروة الإنترنت، وهي ظاهرة تجنب الأخبار. ويشير إلى أنه وعند التفكير في أسباب تراجع دخول الجمهور على مواقع المؤسسات الإعلامية على الشبكة العنكبوتية، وثبات وتدني المشاركات، فإن أغلبية الناشرين (72 في المئة) يشعرون بالقلق مما أشار إليه تقرير الأخبار الرقمية لعام 2022، والذي تحدث حينذاك عما سماه ظاهرة تجنب جزء من الجمهور المواقع الإخبارية وإحجامه عن التعرض لما ينشر فيها من أخبار.
وفي محاولته لتفسير الظاهرة فقد أرجع تقرير معهد "رويترز" ذلك إلى شعور جزء كبير من الجمهور بأن التغطية الإعلامية المعنية سلبية للغاية ومتكررة، ويصعب الوثوق بها وتجعله يشعر بالعجز.
وتعليقاً على التقرير قالت الصحافية الأميركية أماندا ريبلي في مقال نشرته في صحيفة "واشنطن بوست"، أغسطس (آب) 2022 عنوانه "أنا صحافية توقفت عن قراءة الأخبار... المشكلة فيَّ أم في المنتج؟" I'm a Journalist Who Stopped Reading the News. Is the Problem Me or the Product.
في المقال قالت ريبلي "إنها كانت تبدأ يومها بقراءة الأخبار والتعرف إلى ما يجري في العالم من أحداث، بيد أنها ومنذ ست سنوات بدأت تشعر بالإرهاق الشديد وعدم الرغبة في الكتابة أو ممارسة أي عمل إبداعي بعد ممارسة عادة قراءة الأخبار كل صباح".
وأشارت في المقال ذاته إلى أن كثيرين من زملائها الصحافيين أسروا لها بأنهم أيضاً تركوا أهم ما يميز مهنتهم، قراءة الأخبار. وأوضحت أن أربعة من كل ستة أشخاص بالولايات المتحدة ذكروا أنهم يتجنبون التعرض للأخبار في وسائل الإعلام، مشيرة إلى أنهم يعتبرونها متكررة ومثبطة وتشعر الناس بالعجز.