ملخص
من "عطيل" إلى "تصوير عطيل" هذه رؤية أورسون ويلز للفن السابع
هي حكاية بتنا نعرفها تماماً ولكن لا بد لنا من العودة إليها في كل مرة كما الحال مساء اليوم تحديداً، يفتتح فيها مهرجان "كان" السينمائي في الجنوب الفرنسي دورة جديدة له وتعود لتطل من جديد أحلام السينمائيين العرب بأن يفوز فيلم لهم، أو أي فيلم عربي على الإطلاق بجائزة ما في ذلك المهرجان الذي كان ويبقى الأكبر في تاريخ احتفال السينما العالمية بديمومتها ونجاحاتها. ونعرف أن تلك الأحلام تحققت بشكل حلقت معه أعلام جزائرية (من طريق سعفة ذهبية فريدة نالها محمد الأخضر حامينا عن فيلمه "وقائع سنوات الجمر") ولبنانية (مرة من طريق مارون بغدادي وفيلمه "خارج الحياة" وأخرى من طريق السينمائي الشاب إيلي داغر الذي فاز بسعفة ذهبية عن فيلمه القصير "صيف 82" ثم نادين لبكي عن "كفر ناحوم")، ولكن خصوصاً فلسطين التي توجت غير مرة وبخاصة من طريق إيليا سليمان وتجديديته السينمائية البديعة. وهذا من دون أن ننسى مصر وعملاق سينماها الراحل يوسف شاهين، الذي فاز هو، لا أي فيلم من أفلامه، بسعفة الخمسينية الذهبية. إذاً أربعة بلدان عربية توجت بشكل أو بآخر في "كان"، ناهيك ببلدان عربية أخرى نالت تنويهاً أو لفتت بحضورها. إذاً صرنا نعرف الحكاية... ويحفظها بعضنا عن ظهر قلب لكثرة ما رددناها فرحين حيناً للانتصارات، متحسرين حيناً لأنها قليلة. وفي خضم ذلك ننسى بلداً عربياً كان قد توج وخفق علمه في "كان" قبل كل تلك الحكايات التي ذكرناها.
المغرب بالصدفة!
ونتحدث هنا عن المغرب حتى وإن كنا نعرف أن تتويجه في "كان" لم يكن بفضل فيلم من أفلام مبدعيه، ولكن بفضل صدفة تضافرت ظروف معينة لجعل هذا البلد وعند مفتتح العقد الخمسيني من القرن العشرين وكان "كان" لا يزال يحبو، واحداً من أول بلدان العالم التي سترفرف أعلامها خفاقة في ذلك المهرجان. ولنسارع هنا إلى التذكير بأن الفضل في ذلك يعود إلى عملاقين من عمالقة الإبداع العالمي تفرق بين زمنيهما مئات السنين ولكن يجمعهما الفن: وليام شكسبير من ناحية وأورسون ويلز من ناحية أخرى. وهنا لكي لا تبدو الحكاية لغزاً ونوعاً من كلمات متقاطعة لا بد أن نسارع إلى التذكير لمناسبة افتتاح الدورة الجديدة لمهرجان "كان" مساء اليوم تحديداً، بأن ما جمع الفنانين الكبيرين بالمغرب لم يكن مجرد كون الشخصية المحورية في الفيلم الذي حققه ويلز عن مسرحية لشكسبير، مغربياً فقط، بل تلك الظروف الإنتاجية التي جعلت ويلز يصور فيلمه في مدينة الصويرة الساحلية في وسط الجنوب المغربي، وتضافرت تلك الظروف حتى حمل الفيلم هوية مغربية لا يزال كثر من المغاربة يفخرون بها حتى اليوم، وفي انتظار سعفة ذهبية تذهب هذه المرة إلى مخرج مغربي لفيلم مغربي عن موضوع مغربي. وتكون النتيجة أن يعود علم المغرب للتحليق في تلك العاصمة السينمائية العالمية ولو لأسبوعين فقط.
الحكاية على لسان ويلز
مهما يكن فإن حكاية تصوير "عطيل" في الصويرة المغربية بين 1950 و1951 يحكيها ويلز بنفسه في واحد من آخر الأفلام التي حققها في حياته وهو فيلم "تصوير عطيل" الذي أنجزه سنة 1978. وعلى رغم أن "تصوير عطيل" كان عملاً شبه وثائقي ضمن نوعية السينما عن السينما، فإنه يبدو عملاً مستقلاً في ذاته لا يكاد يشبهه أي عمل سينمائي من قبل، حتى وإن قلد كثيراً من بعد. من ناحية أولى يحاول ويلز في هذا الشريط أن يجيب عن أسئلة كثيراً ما راودت ذهن معجبيه حول الفيلم. ومن ناحية شكلية يتكون "تصوير عطيل" من أربعة أجزاء أطولها وأهمها أولها، إذ فيه نرى ويلز منذ اللقطة الأولى وهو بالقرب من طاولة المونتاج حيث ستمر مشاهد ولقطات من الفيلم. وفي ذلك الموقف يعمد ويلز من فوره إلى تأكيد أهمية المونتاج في تحديد اللغة السينمائية. فعنصرا السينما الأساسيان هما بالنسبة إليه الحركة والبنية الإيقاعية - حتى وإن كان كثر ينظرون إلى هذين العنصرين على اعتبارهما واحداً - "وهذا غير صحيح" يقول ويلز. وهو يؤكد هنا أيضاً أن الفيلم لا يكون شيئاً إن لم يكن ذا إيقاع موسيقي. وإذ يفتتح ويلز كلامه بهذا التأكيد الدقيق، ينتقل إلى منحى آخر من حديثه ليروي الحكاية الخلفية لفيلم "عطيل"، قائلاً إن البداية كانت مع منتج إيطالي تخصصت شركته في الأفلام الأوبرالية. اتصل به ذلك المنتج يومها من طريق أصدقاء واقترح عليه أن يحقق فيلماً عن "عطيل". "ولكن في الوقت الذي كانت تدور فيه في ذهني على الفور الصيغة السينمائية التي سأقدم من خلالها شكسبير، كان المنتج يفكر، طبعاً، بفردي...". وللتوضيح فإن المنتج الإيطالي كان يفكر بأوبرا "عطيل" كما لحنها فردي وليس بمسرحية شكسبير، إذ كان يرى أن الأوبرا إذ تتحول فيلماً تكون أكثر قدرة على اجتذاب جمهور عريض. بالنسبة إليه كان الهدف تجارياً - فنياً. أما ويلز فأراد أن يحقق مراميه الفنية من خلال "أفلمة" شكسبير مباشرة. من هنا نتج عن ذلك اللقاء مشروع ملتبس يفكر كل من صاحبيه به، في اتجاه غير اتجاه الآخر. ومع هذا راح العمل يجرى على قدم وساق، وكلف الفرنسي تراونر بتصميم الديكورات بل حتى بتنفيذ بعضها في استوديوهات فكتورين الفرنسية. وراح ويلز يجري تدريبات في مواقع في بولونيا قرب باريس، ولكن من دون سابق إنذار انسحب طرف فرنسي كان يفترض أن يدخل الإنتاج - ما يبرر أن يجرى التصوير في فرنسا - ليصبح الإنتاج إيطالياً. وهنا تزامن اكتشاف المنتج الإيطالي أن ويلز يريد العمل على شكسبير، مع إفلاس شركة هذا المنتج. فتوقف العمل لينتظر ويلز بضعة أشهر قبل أن يتمكن من إقناع منتجين جدد والانتقال إلى التصوير كيفما اتفق في المغرب.
لقاء الرفاق
هذا كله يرويه ويلز في هذا القسم الأول من الفيلم. أما في القسم الثاني فإننا نراه يلتقي، خلال مأدبة، عدداً من الذين اشتغلوا معه على الفيلم ومن بينهم ماكليامور الذي لعب دور إياغو وهيلتون إدواردز. وهنا يدور حديث شيق بين الثلاثة يكشف عن تصورات مختلفة وغنية للمسرحية كما للشخصيات. ويعرف ماكليامور شخصية إياغو قائلاً "إنه ليس شريراً بالضرورة، بل يمارس ذلك الفن الخاص الذي كان رائجاً عند نهاية القرن التاسع عشر: الفن الذي يقوم في لعبة القط والفأر مع عطيل"، حتى وإن كانت اللعبة تنتهي هنا نهاية مأسوية. وعند نهاية هذا الحديث الشيق يتوافق الثلاثة على السمة الرهيبة للغيرة، إنها، كما يقول ويلز ويوافقه الآخران "أكثر ضروب الشغف دناءة، بل أسوأ من هذا، إنها مرض حقيقي". وفي الجزء الثالث تدور الكاميرا من حول أورسون ويلز وهو يتناقش حول فيلمه هذا، مع طلاب السينما في جامعة بوسطن الأميركية. وهذا النقاش يلي كما نفهم عرضاً للفيلم، وخلاله يجيب ويلز عن أسئلة كثيرة لطلاب من الواضح أنهم أذكياء ومهتمون بالأمر، ناهيك بأن أسئلة كل منهم تكشف عن أنهم يعرفون فيلم "عطيل" بل سينما أورسون ويلز كلها عن ظهر قلب. وخلال ذلك النقاش الساحر يتجاوز ويلز الحديث عن فيلمه ليسهب في تحديد أساليبه وتصوراته لفن السينما. وفي الجزء الرابع والأخير من الفيلم ثمة ما يمكننا أن نسميه عود على بدء، إذ هنا كما في مفتتح الفيلم نرانا في مواجهة ويلز وهو أمام "الموفيولا" من جديد. إنه هنا وبكلمات بسيطة لا تخفف لهجة ويلز الفخمة من بساطتها، يلخص لنا كل ما سبق أن شاهدناه وسمعناه في الأجزاء الثلاثة السابقة، خاتماً حديثه بطريقته المسرحية المعهودة قائلاً "تلاحظون أنني حاولت طوال الوقت أن أكون صادقاً، لذا أطلب منكم ألا تتوقعوا مني أن أكون موضوعياً".
على رغم طابعه التوثيقي التسجيلي عرض هذا الفيلم في الصالات ومهرجان "كان" نفسه ونال نجاحاً كبيراً، إذ شكل وثيقة أساسية عن سينما هذا الذي يعتبر دائماً واحداً من أهم مبدعي فن السينما في القرن العشرين. وإذا كان "تصوير عطيل" ألقى أضواء كاشفة على هذا الفيلم وعلاقة أورسون ويلز (1915 - 1985) به، فإنه في الوقت نفسه ألقى أضواء أكثر سطوعاً على السينما ككل وعلى سينما ويلز التي زينتها دائماً جواهر مثل "المواطن كين" و"السيد اركادان" و"لمسة الشر" و"فالستاف".