ملخص
حرب الخرطوم المفاجئة قضت على أحلام كثير من السودانيين الذين عانوا مرار الاغتراب من أجل تأمين مسكن والعيش في سعادة وهناء لكن كل هذا ذهب سدى
بعد مرور أربعة أيام من حرب الخرطوم، التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الـ15 من أبريل (نيسان) الماضي، هرب مدثر الطيب وأسرته المكونة من زوجته وثلاثة أبناء إلى مدينة عطبرة التي تبعد عن العاصمة 312 كيلومتراً شمالاً، لأنه يسكن في أحد الأحياء الشرقية لمطار الخرطوم الذي تعرض لقصف أدى إلى تدميره نهائياً، فلم يكن هناك خيار بمرور الأيام ومع اشتداد المعارك غير الهرب تاركاً منزله حفاظاً على أرواح أسرته.
وصل الطيب إلى عطبرة بعد عناء مشوار الطريق الذي استغرق سبع ساعات بسبب كثرة نقاط التفتيش، لكنه شعر بالارتياح والأمان وهدوء البال، وظل يتتبع أخبار ما يدور ويحدث في منطقة سكنه بالخرطوم من خلال معارفه وجيرانه، وتوصل إلى قناعة بأن يسافر وأسرته إلى القاهرة حتى يكمل أبناؤه عامهم الدراسي من خلال الالتحاق بالمدارس السودانية هناك، لذلك قرر العودة للخرطوم ليأخذ أوراق أبنائه الثبوتية والدراسية وبعض الأغراض المهمة من منزله.
يقول الطيب "وأنا في الطريق إلى الخرطوم بعد ثلاثة أسابيع من بداية الحرب ظللت أتمعن مع نفسي مراحل بناء منزلي الذي شيدته من عرق حبيني خلال رحلة اغتراب استمرت أكثر من 20 عاماً، وكنت وأسرتي سعداء بهذا الإنجاز، إذ نعيش في هدوء ومأمن وسعادة بالغة، وفضلت أسأل نفسي كيف سيكون حاله، فتارة أكون متفائلاً وأخرى أكثر تشاؤماً بالنظر إلى استمرار الحرب في عنفوانها وتواصل عمليات النهب والسلب التي شملت المنازل والمتاجر والبنوك وغيرها، هكذا كان تفكيري طوال طريق العودة للعاصمة".
ويضيف "ما أن وطأت قدماي الخرطوم وأنا أشاهد حجم الدمار والخراب الذي لحق بها تيقنت تماماً بأنه لا أمل في أن يكون منزلنا سليماً كما تركناه، فملامح العاصمة وشوارعها تغيرت، وباتت كمدن الأشباح لا تسمع فيها غير صوت الرصاص وتارة انفجارات في كل اتجاه، أخذت مسرعاً نحو منطقة مسكننا مستغلاً مواصلات محلية في شكل دراجة نارية يطلق عليها "الركشة"، وعند اقترابي من المنزل شاهدت من بعيد أن الباب الخارجي مفتوح على مصراعيه وحينها تأكدت أن جهد السنين ضاع سدى، وبالفعل دخلت المنزل ولم أجد غير الدمار، فالأشياء القيمة نهبت وما تبقى تعرض للتلف، فما كان لدي خيار غير أن أعود مسرعاً لأسرتي والحسرة تعتصرني، فالحرب لعينة بالفعل".
تخريب متعمد
بعد أسبوع من بداية الحرب هرب محمد العوض وأسرته من منزله بحي كافوري بالخرطوم بحري، باتجاه مدني (180 كيلومتراً) باعتبارها موطنه الأصلي، خصوصاً أن القتال بدأ يتصاعد بشكل عنيف، مما أدخل الرعب والخوف لأسرته التي لم تتحمل دوي إطلاق النار بهذه الكثافة، فضلاً عن قذائف الطيران الحربي التي استهدفت منطقة سكنهم ورد المضادات الأرضية من قوات الدعم السريع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يوضح العوض "هذه الحرب المفاجئة قضت على أحلام كثير من السودانيين وأنا واحد منهم، إذ بنيت مستقبلي من الصفر، وبدأت تجارة العطور قبل 18 عاماً من خلال التعامل مع بعض تجار الجملة في هذا المجال بسوق أم درمان، ومنها بنيت منزلي الحالي بمبلغ طائل حتى تعيش أسرتي في سعادة وهناء".
ويضيف "لم أكن مطمئناً على منزلي ولا على محلي التجاري وفق معطيات سير الأحداث التي اتخذت طابعاً آخر بحدوث عمليات النهب والسلب التي طاولت كل شيء، فبعد أسبوعين من نزوحي تواصلت مع شقيقي الذي يسكن أحد أحياء أم درمان بأن يحاول الذهاب إلى منزلي ليتفقده، خصوصاً أن معظم جيراني هربوا إلى مناطق خارج العاصمة، وبالفعل تمكن من الوصول لمنزلي بصعوبة وسط مخاطر جمة بالنظر لاستمرار القتال بين الجانبين، ليجده خاوياً من الأثاث والأغراض، ناهيك عن الأضرار التي لحقت بداخله من تخريب متعمد، وعلم بأن مجموعات مسلحة كانت تسكنه طوال الفترة الماضية، وغادرته لانقطاع الكهرباء والمياه بعد أن استباحته تماماً".
جهد السنين
أما عباس عبدالجليل فغادر وأسرته منذ اليوم الثاني للحرب إلى موطنه بإحدى قرى ولاية الجزيرة التي تبعد 60 كيلومتراً من الخرطوم، لكنه ظل قلقاً على منزله الذي شيده بصعوبة وكفاح سنين خصوصاً أنه أستاذ جامعي، إذ كان يتعاون مع جامعات عدة ومراكز بحوث حتى يكمل بناءه.
يقول عبدالجليل "لدي ابنتان أعمارهما أربع وست سنوات فلم تتحملا صوت الرصاص فهربت بهما إلى قريتي القريبة، وكان قلبي على منزلي خوفاً من نهبه وتخريبه، فأنا موظف محدود الدخل ولا أستطيع إصلاحه أو شراء أثاث بأي مبلغ، فدخلي يغطي بالكاد مصروفات معيشة أسرتي، لذلك قررت بعد أسبوعين العودة للخرطوم لوحدي لحراسة منزلي من النهب، لكن ما كنت أخشاه حصل، إذ وجدت أثاثه محطماً على الأرض مع نهب جميع الأدوات الكهربائية، وفي لحظة فقدت جهد سنين ولا أدري كيف العمل".