ملخص
لم تعد للسودان سلطة تؤهلها لإعادة تشكيل التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي ووضعها في المسار الصحيح قانونياً وتشريعياً، وهو ما يفتح الباب للتفكك، في ظل تعدد الإثنيات والحركات المسلحة
على مدى شهر كامل ومنذ أن بدأ الصراع المسلح بين الجيش السوداني بقيادة عبدالفتاح البرهان، وقوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، انشغل السودانيون، كما لم ينشغلوا من قبل باحتمال فشل أو انهيار وتفكك الدولة السودانية، وهي ظاهرة بدأت تتراءى من على البعد خلال السنوات الماضية، فهياكل الحكومة اعترى أوصالها التفكك، وبعد أحداث ديسمبر (كانون الأول) 2018، لم تعد للدولة سلطة تؤهلها لإعادة تشكيل التنظيم السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي كما ينبغي، ووضعه في مساره الصحيح وفق قانون تشريعي تستحقه أي دولة، وإذا كان معروفاً انهيار الدول بسبب الحروب، فإن الحرب الحالية، إن استمرت، ربما تُنشئ فراغاً في السلطة يُضاف إلى التوجس من عواقب تفكك الدولة متعددة الإثنيات والقبائل.
و يتكون السودان من حوالى 600 قبيلة بتجمعاتها الفرعية وإثنياتها المختلفة، إذ بدت التعددية الإثنية كظاهرة تبعها تنوع وتباين ثقافي وديني، أشعل سؤال الهوية الذي بدأ بانقسام المثقفين ومنهم دعاة العروبة من جهة، ودعاة الأفريقانية من جهة أخرى، وألقت بظلالها على الواقع السياسي، واستقطبت متعاطفين مع قضية الجنوب، لم ينته سؤال الهوية بانفصال الجنوب وإنما انتقل إلى مواقع أخرى منها دارفور وجبال النوبة.
وحاول التيار الحداثي الثقافي الناشئ في ستينيات القرن الماضي، ممثلاً في "مدرسة الغابة والصحراء" المواءمة بين التمازج العربي الذي رمزت له بالصحراء والأفريقي المرموز له بالغابة، النظر إلى المجتمع السوداني باختلافاته كحالة تتكامل عندها الهوية السودانية، واستمرت هذه المدرسة كرؤية حالمة تعيش في واقع مواز للواقع الحقيقي المليء بالاضطرابات والنعرات.
ما نراه من سيطرة فكرة تفكيك وتفتيت الدولة، بدأت عملياً كحدث قديم متجدد، ربما يكون مفتوح على احتمالات عدة، فحتى وإن خمدت الفكرة لكنها تظل كامنة ومهددة.
أزمة الوحدة
في القرون الوسطى كان يُطلق اسم السودان على كل الأقاليم الممتدة جنوب الصحراء الكبرى من البحر الأحمر وحتى المحيط الأطلسي، وتقلصت مساحته منذ القرن التاسع عشر، على الحدود الحالية قبل انفصال الجنوب، خلال فترة الحكم "التركي – المصري"، وبعده حكم ثنائي "بريطاني- مصري"، أصدرت إدارته قانون "المناطق المقفولة"، وحددت بمقتضاه 7 مناطق في السودان يحرم دخولها أو الإقامة فيها من دون تصريح رسمي، وهي دارفور (غرباً) وبحر الغزال ومنقلا والسوباط ومركز بيبور (جنوباً)، وجنوب كردفان وجبال النوبة والتي تقع في دولة جنوب السودان بعد الانفصال، ومنطقة أخرى بالشمال السوداني.
في 1922 انحصر القانون جنوب السودان، ثم صدرت توجيهات حكومية 1930 هدفت إلى منع التجار الشماليين من الاستيطان في الجنوب، ووقف المد الثقافي العربي والدين الإسلامي من الانتشار جنوباً، ووضع التعليم في يد البعثات التبشيرية المسيحية. ونمت نزعة حماية الجنوبيين من توقعات مفادها أن أبناء الشمال ربما يفرضون القيود على الحريات الدينية بالجنوب، وظلت هذه الفكرة مسيطرة حتى بعد استقلال السودان عام 1956، واستمرت طوال الحرب الأهلية إلى أن انفصل الجنوب في يوليو (تموز) 2011.
تناحرات وصراعات
ينبع تعقد عناصر أزمة الوحدة في السودان، مما تعرض له من مآسٍ عدة منذ الاستقلال غذتها التناحرات الإثنية والقبلية والصراع حول النفوذ على السلطة، ومن هذين العاملين نشأت التكتلات السياسية التي ترادفها تكتلات عسكرية، ويكاد لا يخلو حزب من الأحزاب السياسية لم يُنشئ قوة عسكرية موازية، فالحركة الشعبية لتحرير السودان، كان رديفها الجيش الشعبي، وأنشأ حزب الأمة جيشاً باسمه، والقوى السياسية المعارضة لحكم الرئيس السابق عمر البشير أنشأت في بدايات تسعينيات القرن الماضي تكويناً باسم "التحالف الوطني السوداني" أسست معه جيش وقوات التحالف، ودشنت جماعة الإخوان المسلمين ميليشيات الدفاع الشعبي، حاربت بها الحركة الشعبية لتحرير السودان بالجنوب، ثم أسست قوات الجنجويد (الدعم السريع) الحالية لمحاربة الحركات المسلحة ذات الجذور الأفريقية في دارفور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبوجود كل هذه الحركات المسلحة، عجزت الدولة في ظل الفوضى العسكرية وتنامي نزعات التجييش من الوصول إلى حالة استقرار سياسي واقتصادي وأمني، وإزاء تقويض النظام التشريعي، بدت شرعية الدولة نفسها مهددة مما أحدث جموداً في العملية السياسية خصوصاً خلال الثلاثين عاماً الماضية، وبعد سقوط النظام السابق، وبداية تنشيط العملية السياسية، أدى الاستقطاب الحاد الذي مارسته القوى السياسية وانشقاقها إلى إهدار الجهود لوضع السياسات اللازمة لتوجيه الدولة، وبعد اندلاع الحرب المستمرة منذ 15 أبريل (نيسان) الماضي، لم تعد هناك قوة قادرة على وقف تفكك الدولة.
في ضوء الوضع الحالي، هناك نتيجتان متوقعتان؛ الأولى، من بين الانشقاقات العديدة يمكن أن تقوى التكتلات السياسية ذات الجذور القبلية والإثنية والمناطقية وتلعب على وتر الانفصال، والثانية عودة الحكم الاستبدادي العسكري بسبب ضعف القوى المدنية، خصوصاً مع التاريخ الطويل للحكم الاستبدادي، وعدم قدرة الأحزاب السياسية الحالية على طرح رؤى عملية ومجردة من المصالح لحل مشكلات البلاد، وسيكون مبرر عودة الحكم العسكري بدعوى حفظ الأمن وحفظ البلد من الانقسامات، مع أن انفصال جنوب السودان تم في ظل حكومة البشير الذي جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري.
عوامل الانفصال
بعد ما يقارب سبعة عقود من استقلال السودان يسود اعتقاد أن الدولة فشلت في أداء وظيفتها، ولم تُتح فرصة حقيقية لممارسة الديمقراطية إذ إن جل التاريخ السوداني الحديث كان تحت حكم عسكري تمركزت السلطة خلاله لدى الحاكم فقط، ومع القبضة السلطوية القوية، لم تستطع الحكومات المتعاقبة حل مشكلة أقاليمها وإدارة هذا التنوع العرقي، ولم تتمكن من منع انتشار الحركات المتمردة المسلحة، بل أسهمت السلطة في وجود بعضها، هذه البيئة السياسية أثرت سلباً في مسار دعوات وطنية بضرورة تحقيق الوحدة الوطنية ودرء الانقسامات، ومنع مطالبة بعض التكتلات السياسية والأقاليم بالانفصال؛ بل نشأت عوامل ظلت تتفاقم يوماً بعد يوم ربما تجعل الوحدة حلماً بعيد المنال، بينما ترجح سيناريو انفصال أقاليم عدة وتفكك البلاد.
من هذه العوامل التباين والتناقض الإثني نتیجة لوجود تنوعات عرقیة شديدة الاختلاف مما نتج منه انقسامات مجتمعية وصراعات مستمرة على الأرض والمرعى والماء والوجود الجغرافي، وتزيد هذه التصادمات القبلية في المناطق الحدودية المتداخلة مع دول أخرى، مثل دارفور في الغرب بالالتقاء القبلي السوداني التشادي، وفي شرق السودان بالتحام قبلي أيضاً سوداني- إريتري وإثيوبي، وفي الجنوب الحالي تمثله منطقة جنوب كردفان (جبال النوبة) والنيل الأزرق بالتداخل القبلي مع دول أفريقية أخرى مثل أفريقيا الوسطى وغيرها.
من جهة أخرى، إذا كان أي حاكم عسكري يدافع عن وجوده بالقوة العسكرية، فإن الحركات المتمردة، والتي هي بذرة صالحة لنشوء الحركات الانفصالية، يغلب عليها طابع العنف، فتسعى دوماً إلى تحقیق أهدافها بالسلاح سواء بالدخول مع الحكومة في صراع مسلح أو حرب العصابات أو التطهیر العرقي، وما يصحبها من عملیات اغتیال أو تفجیرات وغيرها، مما يتمخض عنه وقوع خسائر بشرية واقتصادية وإضعاف لهيكل الدولة، وكل ذلك أو بعض منه حدث خلال النزاعات السودانية مثل حرب الجنوب، وأزمة دارفور، وصولاً إلى الحرب الحالية.
أضف إلى ذلك، تأثير موقع السودان الجیوسیاسي، خصوصاً مع بعض الدول الجارة التي تتميز سياستها الخارجية وعلاقاتها مع الخرطوم بالتقلب وعدم الثبات، ومع أن الدولة الموحدة والأقوى أفضل لجيرانها من أن تكون دولة فاشلة ومفككة، فإن بعض المصالح للقوى الدولية ربما ترى في النزاعات التي تصدرها بعض الحركات المتمردة مصدراً لإزعاجها وتوتر أمنها القومي، مما يجعلها تحبذ الانفصال لتتعامل مع الدولة المركزية من غير تأثير تلك الحركات، كما أن تأثير القوى الدولية بالسيطرة على بلد مفكك أسهل من السيطرة على دولة قوية وموحدة لإدارة مصالحها في المنطقة والاستفادة من موارده وثرواته من غير شروط تفرضها الدولة القوية الموحدة.
حدود التغيير
تنادي أصوات وطنية بضرورة إنهاء الحرب الحالية والتركيز على محاولة منع تفكك السودان إلى دويلات، خصوصاً مع انتشار زعزعة الاستقرار في المنطقة، وما يخشاه البعض أكثر من الخلافات الداخلية هو أن السودان يقع ضمن حزام أمني قابل للاشتعال، وسيؤدي استمرار الحرب إلى سرعة تفكك الدولة وانعكاس عدم الاستقرار على الإقليم أيضاً لتكتمل دائرة الحروب الأهلية وما يصحبها من مخاوف أمنية.
إذا كان هناك احتمال بتفكك وشيك نتيجة لإضفاء الطابع الإثني على الحرب الحالية في السودان، وما تظهره من مشاهد للدمار والتخريب المتعمد وإيذاء المواطنين والتعدي على الممتلكات العامة والمستشفيات ودور العبادة والممتلكات الخاصة والمنازل أيضاً وغيرها، من قبل جنود قوات "الدعم السريع"، مما أطر على هذا الصراع، وفقاً لنظرة قوات آتية من دارفور وبعض دول الجوار الأفريقي، فإنه يمكن تصنيفها كحالة تصفية حسابات الهامش مع المركز، وعلى مواطنين أخذت الحرب أرواحهم، وشردت الملايين منهم على حين غرة في حربها مع الحكومة، ولم يكن هنالك من تفسير واضح لبعض النبرات الحادة المحسوسة لدى كثيرين عند سماعهم لأحاديث سابقة لقادة الحركات المسلحة ومنها قوات "الدعم السريع" يتوعدون بها الشمال والوسط، وبُرر لها وبُرئت بدافع التعاطف، أو عدم الكياسة السياسية، ولكن المفاجأة حتى لدى القوى السياسية الداعمة والمدافعة عن الحركات المسلحة، كانت أن أثبتت الأحداث الأخيرة المصاحبة للحرب أن كثيراً من الأحاديث المصورة كانت معنية بشكل دقيق.
تُظهر المواجهة الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع أن الصراع ربما يبلغ حدود تغيير ما، أو مطالبات جديدة بالانفصال ربما تنفذه الحركات المسلحة الدارفورية، وإن كانت قوات الدعم السريع ليست في وضع يمكنها من الاستيلاء على إقليم دارفور وحدها، فقد تتمكن من تنفيذ ذلك بتجميع شتات حركات مسلحة أخرى وتخلق تحالفاً سياسياً أو قبلياً عماده القوة العسكرية، لتتفاوض مع الحكومة المركزية بأن تبتعد بقواتها عن الخرطوم شريطة تمكينها من إقليم دارفور الذي عُين على ولاياته الخمس مني أركو مناوي زعيم حركة تحرير السودان، وحتى لو طال أمد التفاوض فالإقليم الذي يعادل مساحة فرنسا وبموارده المعدنية الدفينة يستحق محاولات أخرى أطول، فالحركة الشعبية لتحرير السودان وصلت إلى مبتغاها بتحقيق انفصال دولة الجنوب بعد خمسة عقود من الحرب الأهلية.