ملخص
لا شك أن تل أبيب أرادت من هذه الخطوة أو الخدمة الأذربيجانية أن توصل رسالة إلى طهران أن من المبكر الاعتقاد بأنها حققت تفوقاً عليها
لم يكن قرار الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف بافتتاح سفارة لبلاده بتل أبيب في 27 مارس (آذار) 2023، مجرد قرار يتوج مساراً استمر لمدة 30 سنة من العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، بل كانت تعبيراً واضحاً عن بلوغ هذه العلاقة إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية وترجمة لتعاون عميق على مختلف المستويات، عسكرياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً وزراعياً، بل يمكن القول، إن وزيري خارجية الطرفين الإسرائيلي إيلي كوهين والأذري جيهون بيراموف، وأثناء وقوفهما أمام عدسات التصوير للإعلان عن هذا القرار في تل أبيب، كانا ينظران ويراقبان رد فعل النظام الإيراني وكيف سيفهم الرسالة التي تحملها هذه الخطوة في هذه المرحلة الحساسة والدقيقة والمعقدة وما فيها من تأثيرات على معادلات طهران الاستراتيجية والقومية، بخاصة أن القرار جاء في اللحظة التي اعتقدت فيها القيادة الإيرانية أن الأمور باتت أقرب إلى الاستقرار لصالحها نسبياً في الإقليم.
لا شك أن تل أبيب أرادت من هذه الخطوة أو الخدمة الأذربيجانية أن توصل رسالة إلى طهران أن من المبكر الاعتقاد بأنها حققت تفوقاً عليها أو أن النظام الإيراني استطاع محاصرة مساعي وجهود إسرائيل لبناء شركات إقليمية قد تساعد على بناء حلقة حصار حول إيران، بخاصة بعد الاتفاق مع السعودية، على رغم رد فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يائير لبيد الذي اعتبر أن هذا الاتفاق هدم كل الجهود التي بذلتها تل أبيب لبناء جدار لمحاصرة طهران.
لم يتأخر الرد الإيراني، الذي فهم الرسالة، إذ أصدر نحو 210 من نواب البرلمان الإيراني بياناً دانوا فيه قرار باكو افتتاح سفارة لها في تل أبيب، مما أثار رد فعل برلماني أذربيجاني في المقابل، عبر عنها البيان الذي أصدره وطالب فيه إيران بوقف تصرفاتها العدائية ضد أذربيجان. ووصف بيان البرلمان الإيراني وإدانته افتتاح السفارة في تل أبيب "تدخلاً في الشؤون الداخلية" لباكو وإثارة سياسية يجب التوقف عنها.
الخطوة الأذرية التي تلقفتها تل أبيب بكثير من الترحيب والرهانات الكبيرة، ظهرت في كلام الوزير كوهين بوصفه القرار بأنه "يعبر عن عمق العلاقات الاستراتيجية بين بلدينا، وأن أذربيجان شريك استراتيجي لإسرائيل، ونتعاون عن كثب في عدد كبير جداً من القضايا بما فيها الأمن الإقليمي والطاقة والسياحة"، في حين أكد بيراموف أن الطرفين يتابعان "عن كثب التطورات، وأذربيجان تدعو دائماً إلى إقامة السلام والأمن في المنطقة، ونؤمن بشدة بأن هذا سيسهم في ازدهار المنطقة بأكملها".
الترجمة الأولى لهذا التطور، تلقتها طهران، في القرار الذي أصدرته الحكومة الأذرية بطرد أربعة دبلوماسيين من العاملين في السفارة الإيرانية على أراضيها، وهي خطوة أعادت الأجواء بين الطرفين إلى مستوى متقدم من التوتر بعد فترة هدوء نسبي أسهم تدخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إرسائه.
استمرار التوتر بين طهران وباكو، يضع مستقبل العلاقة بينهما في دائرة معقدة لن يكون من السهل على إيران اللجوء إلى أي من السيناريوهات المحتملة من دون أن يكون عليها في المقابل دفع أثمان باهظة سواء على المستوى الداخلي أو على مستوى مصالحها الاستراتيجية في منطقة القوقاز الجنوبي، وما يمكن أن يتضمنه أي من هذه السيناريوهات من انعكاسات على الأمن والمصالح القومية.
فالاستجابة إلى الرؤوس الحامية، التي لا ترى الأمور سوى من فوهة البندقية والمدفع، وأن الحل الوحيد للتصرفات الأذربيجانية، أو ما تصفه "بالتطاول الأذربيجاني على إيران" سيكون الحرب، فجماعة الرؤوس الحامية لا يرضيها أن تسكت أمام الاستفزازات المتتالية والمتنوعة التي تقوم بها باكو ضد المصالح والأمن الإيراني، وأن يقوم الرئيس علييف والمسؤولون الأذريون يومياً بالتهجم على إيران واتخاذ خطوات وإجراءات لا هدف لها سوى استفزاز النظام وقياداته، وأن الاستمرار في هذه التصرفات سيقود الأمور إلى حرب حتمية بينهما، لأن التصرفات التي تقوم بها باكو من وجهة نظر هؤلاء، تؤدي إلى تغييرات في ساحة الصراع وموازينها، مما يدفع طهران للدخول في حرب للدفاع عن مكاسبها ومصالحها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى هؤلاء، أصحاب الرؤوس الحامية، أن الأسباب التي سمحت لباكو بالتطاول على إيران لا تمكن في التحريض الخارجي، في إشارة إلى تركيا وإسرائيل، بل تنبع من الداخل الإيراني، فالليونة التي تمارسها طهران مع التصرفات الأذربيجانية العدائية، تشكل العامل الرئيس وراء هذه التصرفات، وأن سياسة الاستيعاب والليونة تكشف عن عدم إدراك المسؤولين الإيرانيين للتهديد الاستراتيجي والطموحات التوسعية للرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، ما يجعل الرهان على تعديل أو حصول تغيير في تصرفات باكو رهاناً في غير محله وقد يؤدي إلى مزيد من الخسائر.
وبناء على هذه القراءة، يعتقد أصحابها أن المرحلة الحالية والتصعيد الذي تمارسه باكو لا بد أن يتم التصدي له بشكل قاطع وحاسم، ولجم مواقف علييف بأي وسيلة ممكنة ومتاحة، وأن تركه يمارس سياسة التهديد الجدي للمصالح الإيرانية والمنطقة، يضع مسألة التصدي له في دائرة الضرورة الاستراتيجية، وقد يجعل من التدخل الإيراني الميداني في النزاع بين باكو وأرمينيا والوقوف العلني المباشر إلى جانب يريفان خياراً لا بد منه لكبح جماح طموحات القيادات الأذربيجانية.
الإرباك الإيراني في التعامل والتعاطي مع الإجراءات والخطوات الأذربيجانية، دفع البعض في دوائر القرار الإيراني، وتحديداً في وزارة الخارجية التي تعبر عن جانب من الموقف الرسمي للنظام داخل المجلس الأعلى للأمن القومي والجدل الدائر حول الأزمة مع باكو، للتحذير والخوف من التداعيات المدمرة لأي خطوة انفعالية وغير مدروسة في التعامل مع باكو، وترى ضرورة الاستمرار في سياسة "الصبر الاستراتيجي" وعدم تضخيم التهديد الاستراتيجي ضد إيران، ما يفسح المجال أمام قراءة متأنية لأبعاد الموقف الأذربيجاني والعمل على تفريغ التطورات الأخيرة الحاصلة على خط العلاقة بين باكو وتل أبيب من أهدافها ومضامينها.