ملخص
الاشتياق المصري الشعبي ليوم الخميس له أسباب كثيرة والتغير الغريب والمميت في مشاعرهم تجاهه له أسباب أيضاً لكنها ليست كثيرة بقدر ما هي مثيرة
ولت أيام كان المصريون يعيشون الأسبوع من الجمعة إلى الأربعاء على أمل بلوغهم الخميس، ودبرت أزمنة اعتبرت خلالها القاعدة الشعبية العريضة من أبناء مصر الخميس هو يوم الفرحة والراحة والمتعة والترفيه واللعب والحب والخروج والتنزه ولقاء الأحباب والأقارب والأصدقاء. وانتهى عهد يوم الخميس باعتباره أحلى أيام الأسبوع وغاية منى العاملين المطحونين الكادحين، وكل أمل المنتظرين المتشوقين المتلهفين له.
ذلك اليوم الذي ظل على مدار قرون طويلة يحمل معاني ورموزاً وإسقاطات عدة فقد قدراً غير قليل من بريقه. والمسألة لم تقف عند حدود فقدان البريق، بل وصلت إلى التوجس قليلاً من هذا اليوم، والتخوف بعض الشيء من قرب قدومه، والنظر إليه بعين ملئها الوجل وأخرى لم تبرأ من الشوق.
الاشتياق الشعبي
الاشتياق المصري الشعبي ليوم الخميس له أسباب كثيرة. والتغير الغريب والمميت في مشاعرهم تجاهه له أسباب أيضاً، لكنها ليست كثيرة بقدر ما هي مثيرة. والسبب في الإثارة خليط من الاقتصاد مع بعض السياسة، وإن كان الأمر لا يخلو من تكتيكات رسمية وترتيبات لوجستية وقياسات نفسية واجتماعية باتت تعبر عن نفسها بين الحين والآخر بقرار بإعلان صادم أو منشور فارق أو قرار مروع أو بيان فارق.
ومنذ بدء تنفيذ العلاج المر أو سداد الفواتير المؤجلة أو السير في الطريق الصعب الذي هو شر لا بد منه، وفي أقوال أخرى منذ بدء "برنامج الإصلاح الاقتصادي" عام 2016، وتحديداً يوم الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) الموافق يوم الخميس.
في ليلة ذلك اليوم أعلن البنك المركزي المصري تحرير قيمة سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية بالكامل، وذلك وفقاً لآليات العرض والطلب. وتم خفض قيمة الجنيه بصفة موقتة بنسبة 48 في المئة. واستيقظ المصريون صباح يوم الجمعة التالي ليفاجئوا بأن الدولار الأميركي أصبح بـ13 جنيهاً مصرياً، وهو ما تسبب في صدمة عارمة، على رغم القيل والقال اللذين انتشرا طوال أسابيع سابقة حول الخطوات المتوقعة لـ"إصلاح الاقتصاد" والتلميح والتلويح بأنه دواء مر لكن ضروري في الطريق. ودع المصريون في هذه الليلة الجنيه الذي كانوا يعرفونه، الذي كان يقف تسعة منه مزهوين أمام دولار واحد.
الدولار وحب كراهية
الدولار الذي يرتبط معه المصريون بعلاقة حب كراهية مزمنة، أصبح سمة المرحلة منذ ذلك اليوم. واللافت أن السمة أصبحت متكررة، والمثير أن التكرار بات مرتبطاً بليل الخميس.
في ليل الخميس ذلك اليوم في عام 2016 لم تجد الغالبية الوقت أو الجهد أو الأعصاب التي تتيح لها قراءة المعلومات المصاحبة للقرار والدالة لما بات يليها من قرارات، إذ تشير المعلومات الرسمية والصادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري إلى أنه بقدوم شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016 كان الاقتصاد المصري تردى بدرجة غير مسبوقة. تضاءل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى ثلاثة في المئة، وبلغ العجز المالي 11.3 في المئة، وارتفع معدل التضخم إلى 14.1 في المئة، وذلك في سبتمبر (أيلول) من ذلك العام.
كما أشار المركز إلى أن معدل البطالة كان ارتفع إلى 12.8 في المئة، مما أسفر عن زيادة عجز الحساب الجاري من 3.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2014/2015 إلى ستة في المئة في 2016/2017. كما خفض سعر الصرف الرسمي بنسبة 13 في المئة خلال مارس (آذار) عام 2016. وبلغ إجمالي الاحتياطات الدولية 17.1 مليار دولار في يونيو 2016 (حزيران) أي ما يعادل 3.1 شهر من الواردات المتوقعة.
وفي البيان نفسه أشار المركز إلى أن الحكومة المصرية بدأت تعاوناً مع صندوق النقد الدولي في ما وصفته بـ"برنامج إصلاح اقتصادي مهم، رسخ تعويم الجنيه المصري لتحسين القدرة التنافسية الخارجية لمصر ودعم الصادرات والسياحة وجذب الاستثمارات وإعادة بناء الاحتياطات الدولية"، مشيراً إلى أن هذا البرنامج "الإصلاحي" يهدف إلى "تقليص عجز الموازنة وإصلاح دعم الطاقة وزيادة معدل التوظيف وتعزيز مشاركة القوى العاملة لا سيما النساء والشباب وتعزيز تدابير الحماية الاجتماعية لتوفير الحماية القصوى".
قسوة ضياع البهجة
أقسى ما حمله البرنامج من دون أن يدري لم يكن التعويم، أو تقليص الدعم بمعناه المصري التقليدي حيث الدولة تتكفل بسداد الجزء الأكبر من السلع الغذائية الأساسية من سكر وزيت وشاي وصابون، أو حتى جنون ارتفاع الأسعار الذي ترقى سرعته ويؤهله معدله لتبوء مكانة متقدمة في "موسعة غينيس" للأرقام القياسية. أقسى ما تجرعه المصريون هو ضياع بهجة يوم الخميس.
ضياع بهجة الخميس لم يحدث بين يوم وليلة. حدث تدريجاً، ولكن بضراوة لم يعهدها المصريون من قبل، وهي الضراوة التي باتت لا تحدث إلا ليل الخميس. سبع سنوات يسميها بعض منهم عجافاً، ويطلق عليها بعضهم الآخر جلافاً، وتظل في نهاية الأمر سنوات صعبة. سنوات تجاذبتها أوضاع مصر الاقتصادية التي كانت خارجة لتوها من رياح "الربيع العربي" التي ضربتها في يناير (كانون الثاني) عام 2011 وما خلفته من قلاقل سياسية ومشكلات أمنية واضطرابات سياسية، ثم أحداث الـ30 من يونيو (حزيران) عام 2013، وما نجم عنها من "عقوبات" تضييق اقتصادي وحرمان سياحي وتهديد أمني بعد خلع جماعة الإخوان المسلمين من الحكم، وبعدها عامان من عمر الوباء الذي أمعن في الإضرار بالأوضاع الاقتصادية التي كانت بدأت تسترد أنفاسها، وما كاد الوباء يهدأ قليلاً حتى كان موعد مصر والعالم مع حرب روسيا في أوكرانيا وظلالها القاسية التي ألقت على الاقتصاد وتوريد السلع والسياحة والقائمة تطول.
علاقة ليل الخميس
لكن طول القائمة في كفة، وقرارات وبيانات وإرهاصات "الإصلاح الاقتصادي" الملقب شعبياً بـ"الدواء المر" المتواترة ليل الخميس في كفة، والأسباب كثيرة. القديم والمزمن والتقليدي والشعبي، الذي يراه بعض منهم فجاً إلى حد ما، هو ارتباط مساء الخميس وليله بالعلاقة الزوجية، لا سيما بين الفئات الاجتماعية والاقتصادية البسيطة والمتوسطة. فالأسبوع شاق، عمل ومدرسة ومهمات منزلية واستيقاظ مبكر في اليوم التالي وهلم جرا، إلى أن يأتي يوم الخميس السابق للجمعة، يوم العطلة الرسمية.
تاريخياً وشعبياً واجتماعياً ساعدت هذه المنظومة في ارتباط يوم الخميس ببهجة الراحة والاسترخاء وإمكانية القيام بالأنشطة التي تتعذر أو تتعثر أو يتوتر أبطالها أثناء أيام الأسبوع بسبب ضغوط الحياة ومتطلباتها، فيجري تأجيلها إلى يوم الخميس.
أفلام مصرية عديدة، وقصص وروايات قامت على فكرة بهجة يوم الخميس، لا سيما في ما يتعلق بالعلاقات بين الزوجين. بعضها كان في إطار كوميدي، والآخر في إطار السرد القصصي العادي، وجانب منها تنبأ بتحول هذه الليلة المميزة إلى حدث تراجيدي أو بالغ القسوة لدرجة ارتباط الليلة بذكرى سيئة.
المتعة والترفيه واللهو الحلال
ضمن أفضل المشاهد التي تجسد قيمة ليل الخميس ورمزيته ذلك الذي جمع الزوج المطحون بين عملين لتوفير حاجات الأسرة (الفنان عادل إمام) وزوجته المطحونة في أعمال البيت ورعاية الأطفال (الفنانة ماجدة زكي) في فيلم "الإرهاب والكباب" حين عاد من العمل ليل الخميس وقد أعد العدة اللازمة من زجاجة جعة (بيرة) ومزات آملاً في بعض المتعة من خلال العلاقة الزوجية، لكن المشروب ينسكب على الأرض والزوجة تصرخ لأن عليها إعادة التنظيف والصغار يستيقظون على الضجيج فتضيع أحلام الخميس، غاية الزوج وأمله قبل أن يقوده القدر لمجمع التحرير الشهير الذي حوله إلى مجرم وإرهابي في قالب كوميدي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبدو المشهد مبالغاً في تفاصيله بغرض الكوميديا، لكن من يعرف تركيبة قاطني قاعدة الهرم الطبقي في مصر يعي معنى هذه القيمة التي تبدو متناهية البساطة يوم الخميس، حيث لا متعة متاحة أو ترفيهاً مباحاً أو لهواً حلالاً وفي الوقت نفسه غير مكلف إلا هذا.
هذا ما يشير إليه كثيرون إسقاطاً أو تمليحاً، في الآونة الأخيرة التي اختارت فيها الحكومة يوم الخميس موعداً شبه معروف لإعلان تحريك أسعار سلعة استراتيجية هنا، أو تعويم للعملة المحلية هناك، أو زيادة لسعر تذكرة مترو أو تعريفة مرور أو ما شابه. وكل خطوة مما سبق لا تتوقف عند حدودها، بل تلقي بظلال الارتفاع على كل ما عداها من سلع وخدمات.
تعويم حتى النهاية
عناوين الزيادة والتعويم والتحريك على مدار السنوات الست الماضية لا تصدر إلا ليل الخميس. "تعويم الجنيه بدءاً من اليوم الخميس" (الثالث من نوفمبر 2016)، و"زيادة بسيطة في أسعار البنزين بدءاً من منتصف ليل اليوم الخميس" (الـ29 من يونيو 2017)، وهو الخبر المتكرر في الأعوام التالية سبع مرات "تصادف" أن تكون كل مرة يوم خميس، و"زيادة أسعار تذاكر مترو الأنفاق بدءاً من صباح الغد الجمعة" (2018)، و"تطبيق الأسعار الجديدة لأسعار الكهرباء ابتداء من اليوم الخميس" (الأول من يوليو 2021)، و"رفع أسعار الخبز السياحي ابتداء من مساء اليوم الخميس" (الـ27 من ديسمبر 2022)، وزيادة سعر السولار جنيه ابتداء من اليوم الخميس" (الرابع من مايو 2023)، و"هل يرفع البنك المركزي سعر الفائدة الخميس المقبل؟"، و"تكهنات بزيادة أسعار الكهرباء الخميس المقبل"، ومجرد أمثلة من "تصادف" قرارات الزيادة أيام الخميس.
وعلى رغم عدم وجود تصريح رسمي أو تفسير علمي أو نفي أو تأكيد تزامن قرارات الزيادة ويوم الخميس، إلا أن المصري كيس فطن بالسليقة، وهو على مدار عقود وقرون قادر على قراءة ما وراء القرارات واستنباط ما خلف التوقيتات. الغالبية تعرف أن قرارات الزيادات في الأسعار والتعويم وتقليص حجم السلع المدعمة جميعها حادثة لا ريب فيها، إن لم يكن يوم الخميس فالجمعة أو السبت أو الأحد أو يوم من أيام الأسبوع، لكن الصدفة المتكررة على مدار سنوات، وتحديداً منذ البدء الفعلي لبرنامج الإصلاح الاقتصادي في عام 2016، لتصدر القرارات مساء الخميس أو ليله جعلت الحس الفكاهي المخلوط بالدهاء الفطري يرسخ مفهوم اعتناق الدولة يوم الخميس منصة مواتية لإعلان زيادات الأسعار الموجعة. ويتكهن كثيرون بأن القائمين على أمر الدولة ربما يعتقدون أن انشغال الشعب يوم الخميس بالشؤون العائلية أو الاجتماعية أو الترفيهية، أو كل ما سبق من شأنه أن يمرر إشهار القرار "المؤلم" بأقل آثار عكسية ممكنة.
لا محيص عن الزيادة
تسامح المصريون بشكل أو بآخر مع قرارات الزيادة في الأسعار وتعويم الجنيه المتواترة، ربما لكثرتها أو لعلمهم ألا محيص عن الزيادة أو التعويم، لكنهم لم يسامحوا أو يتسامحوا مع انهيار منظومة المتعة المرتبطة بيوم الخميس.
أسئلة كثيرة ومقترحات عديدة يتبادلونها في ما بينهم في محاولة للبحث عن مهرب أو مخرج. يتفكه بعضهم بأنه كلما نام المصريون يوم الخميس استيقظوا صباح الجمعة على ما لا يحمد عقباه من قرارات زيادة أسعار وغلاء منتجات. يقترح أحدهم ساخراً "ننام كلنا مساء الأربعاء وندعو الله كثيراً أن نستيقظ فنجده يوم الجمعة وليس الخميس"، فيرد آخر متسائلاً "ربما المشكلة في النوم وليس في الأيام". فيتفتق ذهن أحدهم بألا ينام الشعب كله في الوقت نفسه، ينظمون أنفسهم دوريات بحيث تكون بضعة ملايين مستيقظة كل الوقت "مما قد يمنع الحكومة من إصدار القرارات غير المرغوب فيها".
سلاح التنكيت
سلاح التنكيت لا يهدأ، وبعد ما كانت نكات يوم الخميس حتى عقود قريبة مضت تقتصر على بضع إسقاطات جنسية، وقليل من النوادر لكثرة حفلات الزفاف والخطوبة يوم الخميس دوناً عن بقية أيام الأسبوع، مع توليفة من النصائح الهزلية حول طرق الهرب من البيت والمسؤوليات في ذلك اليوم، أصبحت النكات تعكس توجساً من اليوم وتوقعاً لما قد ينجم عنه يوم الجمعة التالي من قرارات يتمنى الجميع ألا تصدر.
وإمعاناً في استخدام سلاح النكتة وسيلة للبقاء، وكعادة بعضهم في مصر من اعتبار كل همسة مؤامرة وكل حدث إلهاء وكل حادثة تغييب، باتت معارك الفنانة شيرين وزوجها حسام حبيب وموجات نشر تفاصيل خلافاتهما المثيرة والفضائحية على منصات التواصل الاجتماعي علامة لدى بعضهم بأن قراراً جللاً أو ارتفاعاً صادماً أو تعويماً فادحاً في الطريق. فبينما ملايين غارقة في متابعة تفاصيل المعركتين الأخيرتين بين شيرين وزوجها المعلنة بالصوت والصورة على منصات "السوشيال ميديا"، إذ بقرارات زيادة أسعار ومزيد من التعويم تصدر في غفلة من الغرق في متابعة تفاصيل المعركة.
المعركة الحقيقية التي يواجهها المصريون ليست في كبح جماح قرارات الإصلاح الاقتصادي المرة، أو فهم حقيقة العلاقة بين القرارات الصعبة ويوم الخميس. المعركة الحقيقية تكمن في استعادة رونق وبهاء وبهجة يوم الخميس المفقودة.