ملخص
يستحضر الخطاب السياسي في تونس مفهوم السيادة من دون أن توضع سياسات تؤصل هذا المفهوم من خلال الاستثمار بالقطاع الفلاحي من أجل السيادة الغذائية
يعج الخطاب السياسي في تونس بكثافة التعابير حول مفهوم السيادة، بينما تواجه البلاد منذ استقلالها تبعية للاقتصاد الغربي، بمنوال تنموي لا يصنع الثروة ولا يضمن السيادة الغذائية، مما دفع البلاد إلى التوجه نحو الاقتراض الخارجي خلال العقود الأخيرة، ما جعلها شبه مرتهنة إلى الجهات المانحة. فهل يستقيم الحديث عن السيادة الوطنية في ظل ارتهان مالي واقتصادي إلى الغرب، وما حدود السيادة وأدوات تحقيقها؟
خطاب السيادة لتغطية الفشل
وأكد أستاذ القانون العام بـ"الجامعة التونسية" عبدالرزاق مختار أن "السيادة تمارس، ولا يتحدث بها في الخطاب السياسي"، لافتاً إلى أنه "لا توجد سيادة مطلقة، وتتجلى في سلطان الدولة على مواطنيها، وحدود أراضيها وانفرادها بالاختصاص وهي المعاني القانونية للسيادة في إطار ما يعرف بدولة القانون، ولا ينسحب هذا التعريف على الأنظمة الاستبدادية، كما تعني سيادة الدولة "مساواتها مع بقية الدول"، مشيراً إلى "حالات تليين طوعي للسيادة في الاندماجات الاقتصادية التي تدفع الدول إلى التخلي عن بعض مقومات سيادتها بالمعنى القانوني وليس الإجرائي".
وأشار أستاذ القانون الدستوري إلى التهديدات العابرة التي تهدد سيادة الدول "كالإكراهات الاقتصادية (التبعية) والجرائم العابرة للحدود (الإرهاب)"، لافتاً إلى "وجود ما يسمى الدولة الرخوة والدولة الفاشلة وهي الدول التي تفقد شروط سيادتها أو بعضها"، وفسر عبدالرزاق مختار توجه الخطاب السياسي اليوم في تونس إلى استخدام مفهوم السيادة الوطنية، "بالنزعة الحمائية لتغطية الفشل في تحقيق شروط السيادة عبر سياسات عملية تصنع السيادة وتحققها عوض سردها في الخطابات الشفوية".
وفي المحصلة، فإن السيادة الوطنية تمارس من خلال تغيير الواقع، وضمان السيادة الأمنية والغذائية والطاقية من خلال منجز ملموس، لأن الشعوب تحتاج إلى أن تعيش سيدة لا أن يذكرها الخطاب السياسي بأنها سيدة.
تونس تستورد 80 في المئة من حاجاتها من الحبوب
وفي السياق، رأى المتخصص في التنمية والتصرف في الموارد حسن الرحيلي أن "السيادة الغذائية تعني قدرة شعب ما على توظيف كل إمكاناته الطبيعية للاستجابة لحاجاته الذاتية من المواد الحيوية الأساسية كالحبوب والخضر والغلال والطاقة". وشدد الرحيلي على أهمية "ترشيد استهلاك الموارد الطبيعية من خلال استراتيجيات تراعي التغيرات المناخية، وحقوق الأجيال القادمة، عبر تقسيط استغلال المياه، والبحث عن موارد متجددة، وهي سياسات وبرامج يتم وضعها ومتابعة تنفيذها على مدى عقود من الزمن"، وفي الحالة التونسية، ما زال الاقتصاد التونسي، بعد 60 سنة من سياسة الانفتاح التي بدأها الوزير الأول الأسبق الهادي نويرة، قائماً على ثلاثة أعمدة هشة لا تخلق استقراراً اقتصادياً ولا ثروة مستدامة وعادلة ولا سيادة: منها السياحة، والفلاحة الموجهة للتصدير والتي تستنزف الموارد المائية الوطنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع المتخصص في التصرف بالموارد أن "تونس أهملت منذ الستينيات والسبعينيات القطاع الفلاحي الذي يحقق السيادة الغذائية، وتم استنزاف الموارد المائية من أجل تحصيل العملة الصعبة، بينما تعاني البلاد اليوم الشح المائي وتستورد ما يزيد على 80 في المئة من حاجاتها من الحبوب والأعلاف". وحذر الرحيلي من "عجز الدولة في توفير الخبز لشعبها بعد أن باتت الطوابير مشهداً مألوفاً أمام المخابز التي اضطر نحو 30 في المئة منها إلى الإغلاق بسبب الاضطراب في توزيع الدقيق".
قوت التونسيين
في المقابل، اعتبر أنيس خرباش عضو المجلس المركزي للاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري أن لدى تونس مساحات شاسعة من الأراضي قابلة للاستغلال الفلاحي مقترحاً "الاعتماد على الحبوب المروية من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي من الحبوب، علاوة على ضرورة تحيين الخريطة الفلاحية والتخلي عن المواد التي تستهلك كميات كبيرة من المياه"، داعياً الدولة إلى تنويع آليات تمويل القطاع الفلاحي، واستبعد أن تكون هناك سيادة وطنية في ظل ارتهان قوت التونسيين إلى الخارج.
منوال تنموي جديد
وتحتاج تونس اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى منوال تنموي جديد يعطي الأولوية للاستثمار الوطني ويضع الفلاحة في صدارة أولوياته ويولي الطاقات البديلة كل العناية من أجل التخلص تدريجاً من التبعية الطاقية، والتقليص من استنزاف الموارد المائية، علاوة على تحمل كل الأطراف السياسية مسؤولياتها إزاء خطورة المرحلة الراهنة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وضرورة إجراء تقويم موضوعي للوضع بعيداً من المزايدات والمشاحنات الخطابية.
وفيما يكثر الحديث عن السيادة يتمكن الفقر من التونسيين إذ بلغت نسبته 16.3 في المئة، ونسبة البطالة 16.1 في المئة، بينما قفزت ديون تونس الخارجية إلى أكثر من 41 مليار دولار، وتنتظر البلاد موافقة صندوق النقد الدولي لمنحها قرضاً بقيمة 1.9 مليار دولار لتمويل ميزانية السنة الحالية.
وفي سياق متصل، أكد رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال لقائه رئيسة الحكومة نجلاء بودن، بداية مايو (أيار) الحالي أن "تونس ليست للبيع وأنها ليست غرفة للإيجار وأنها تشق طريقاً جديداً من دون أي تدخل خارجي".