Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ميكروفون كاتم صوت" ليس من نهاية لما يجري في لبنان

تحدثت الرواية عن الجدران التي يصطدم المرء بها في بلده تلك الأجهزة القمعية القائمة على تشتيت انتباه الناس

غلاف كتاب "ميكروفون كاتم صوت" للروائي اللبناني محمد طرزي (الدار العربية للعلوم ناشرون)

ملخص

صدرت رواية "ميكروفون كاتم صوت" للكاتب اللبناني محمد طرزي قبل اندلاع الحرب الأخيرة، ولكنها بطريقة ما تنبأت أن أمراض لبنان ستقضي بصورة أو بأخرى على مناعته الخارجية.

منذ أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 وربما قبل ذلك حتى، يعاني لبنان سكرات الموت. ويأتي ملاك الموت ليضربه لدرجة تكاد تقتله لكنه يبقي فيه رمق ضئيل من الحياة ليس رأفة به، بل لكي يستمتع بمشاهدته يتعذب ويترنح ثم بمعجزة ما أو لسوء حظه، يتأقلم هذا البلد مع جراحاته وعذابه، حتى تأتي ضربة جديدة لتعيد كرة درب الآلام.

والحقيقة، فاللبنانيون في وطنهم أشبه بجمهور يتابع مجريات أحداث لا تأثير لهم فيها بتاتاً، رأيهم لا يساوي قرشاً واحداً، إنهم في مكان المفعول بهم. ترمي بهم الأحداث في أزمة مالية وخسائر لمدخرات حياتهم، تقتلهم في بيروت وانفجارها العظيم، تغرقهم في البحر وهم يحاولون عبوره إلى أرض غريبة. النخب الحاكمة تتلاعب بهم كالبيادق ولا تكترث لهم إلا كوقود في مشاريعهم الضيقة.

وهم، أي المواطنون هؤلاء، رهائن في وطنهم لميكروفونات تملي عليهم نمط حياة محدداً، وتعدهم بجنة على الأرض وحياة أبدية في السماء وتنشدهم الصبر والتحمل، وبأنهم آمنون في هذه المحميات اللبنانية المتناثرة على أراضي الوطن المتقطع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رواية الكاتب اللبناني محمد طرزي "ميكروفون كاتم صوت" التي صدرت عام 2023 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، وفازت أخيراً بجائزة كتارا للرواية العربية ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ للأدب، تتحدث عن هذه الميكروفونات التي تخنقنا لأن المصلحة العليا للقضية القومية والوطنية (كما تتصورها هذه القوى الطاغية) تتطلب التضحية.

لكن كيف يمكن لإنسان تحقيق أحلامه في العمل والحب والكتابة إن كان يعيش في مدينة وبلد تحكمه جوقة ميكروفونات تزعق ليل نهار، ناثرة الكراهية والموت والتضليل في كل مكان؟ وماذا كسب المواطن اللبناني الذي ضحى بإرادته أم من دونها ووجد نفسه اليوم أمام أنفاس التنين الإسرائيلي الحارقة للأخضر واليابس وعجز قوى الميكروفونات في الوفاء بوعودها والدفاع عن الناس، وأنه يموت ومنزله يتدمر والميكروفونات ما زالت تصدح بأناشيد الانتصارات وانكسار "العدو".

لكن عودة إلى رواية طرزي التي كتبت ما قبل "السابع من أكتوبر" وقبل "حرب الإسناد" وقبل سقوط قيادة "حزب الله" وقبل الحرب الدموية الشاملة التي تقودها إسرائيل اليوم على لبنان. إن الرواية تحدثت عن الجدران التي يصطدم المرء بها في بلد اسمه لبنان. ليتها كانت جدراناً فحسب! إنها أجهزة قمع قائمة على تشتيت انتباه الناس، فلا يلتفتون إلى أوضاعهم المزرية بل ينشغلون بما تبشر به تلك الميكروفونات من خطابات واهية، ما انفكت تعد اللبنانيين "برمي الأعداء في البحر صيف العام المقبل".

ألا تبدو هذه الكلمات كالنبوءة. كما لو أن الكاتب قام بتشخيص المرض الذي نخع ببلاده، والذي يجعله اليوم مكشوفاً ومنعدم المناعة أمام عدو خارجي.

وفي الرواية، تبدو صور في جنوب لبنان التي تحتضن أبطال الرواية لا تشبه تلك المدينة التي تصور صفحات التواصل الاجتماعي شطآنها وبحرها وسياحها، على رغم حقيقة الصورتين في مكان ما. ويجوب سلطان بطل الرواية شوارعها وتستوقفنا أقواس النصر الخشبية المضاءة على رغم انقطاع الكهرباء عن المدينة وأهلها، فيما تتردد في الرواية عبارة "كلما كثرت هزائمنا تضاعف عدد الأقواس".

أتخيل شوارع المدينة اليوم المليئة بحطام المباني وأقواسها الخشبية المنكسرة، وقد تعرضت صور من أيام لأسوأ قصف إسرائيلي في تاريخها منذ اجتياح 1982. لكن في الحقيقة فإننا نجد التوصيف الوارد في الرواية عن أحوال مدينة "الزعيم" وبلد "الزعيم" ما زال ينطبق على حال اليوم، على رغم جملة التغييرات التي أوقعتها الحرب الدائرة فإن الخطاب السائد لم يتغير ولم يتأثر ولا يريد أن يتأقلم مع التغييرات. ولم يهتز "الزعيم" الذي يجسد سلطة "الثنائي الشيعي" فكيف "يمكن لكل هذا الانحدار ألا يطيحه!".

اليوم يستمر الثنائي الشيعي في القتال ضد إسرائيل في قتال بلا مردود يصعب الخروج منه الآن بكل الأحوال. إنه قتال غير مدروس منح إسرائيل فرصة وفتح لها الباب للانتقام ليس فقط من خصم مباشر، بل من كل البيئة الحاضنة ومعها ربما البلد بأسره.

و"الزعيم" في الرواية لا حدود لنفوذه في مدينة يتمثل تاريخها بزعامات تتوارث المرابين والشبيحة والفاسدين، فيجري تناقلهم كالعملة الرديئة من جيب زعيم إلى آخر. والحرب اليوم لم تؤثر في حكم "الزعيم" لا شيء يؤثر على حكم الأخير، بالحقيقة لا ندري مصدر قوة هذا الزعيم أو ذاك، يقولون إنها قائمة على إرعاب أبناء طائفة من أخرى. لكن كما اتفقنا أعلاه نحن مراقبون لا مؤثرون فلا داعي للعجب إن كانت حتى الخسائر في أرض المعركة لا تفضي إلى شيء، لا بل هي انتصارات عند البعض.

وحين يتجرأ "سلطان" على نزع صورة "الزعيم" الملصقة على جدار بيته يظهر تحتها رسم لعلم لبنان، كما لو أن حب الوطن مغروس بالفطرة في داخلنا، ولكن هذه المشاعر العفوية دفنت عميقاً اليوم لدرجة يصعب تصورها قابلة للحياة.

وما يفاجئ المرء في وقتنا الحالي أنه وعلى رغم المأساة التي يعيشها اللبنانيون بدرجات متفاوتة لم يقدم أحد على نزع صورة "زعيمه". يلعن الشعب الساعة التي أوصلته إلى هذا الحضيض ولكن لعناته تصب على الآخر أو المجهول. لا وقت لنا لمصارحة أنفسنا ولا يبدو أننا بلغنا هذا المستوى من الرشد لتقييم الأمور.

لا تنشد رواية طرزي نهاية سعيدة بل لا تنشد أية نهاية! لتبقى حكايات من ظلوا على قيد الحياة معلقة كأنهم في انتظار حدث ما، ثورة أخرى تكمل ما بدأته ثورة "17 تشرين" التي تهشمت أمام واقع بدا أقوى من أحلام ثوارها.

لكن هذا الحدث (غير) المنتظر، جاء على صورة "حرب لا حرب" استمرت قرابة عام قبل أن تتحول إلى مبارزة انتقامية من طرف واحد وغير خاضعة لأي قوانين دولية.

كم من اللبنانيين سيدفع الثمن وإلى أين سينحدر لبنان حتى تصمت الميكروفونات، سؤال يبقى مفتوحاً.

المزيد من كتب