خضع مهرجان بيبلوس أخيراً للضغوط التي مارستها عليه المراجع المسيحية، الإكليريكية "الرسمية" والرعايا وبعض الجماعات، وألغى حفلة "مشروع ليلى" التي كان مقرراً أن تقام بعد أيام على شاطئ جبيل القديم الذي انطلق منه الفينيقيون، حاملين أحرف الأبجدية إلى العالم، كما يقول التاريخ. قرارالإلغاء القسري هذا لم ترضَ عنه لجنة المهرجان لا سيما أن الفرقة "المضطهدة" كانت أحيت حفلات عدة في المهرجان ذاته سابقاً وفي بلدات مسيحية بل مارونية أخرى ومنها إهدن عقر "المردة" أجداد الموارنة المسيحيين. لكنّ إلغاء الحفلة أنقذ الجمهور والفرقة من مواجهات كان سيقوم بها حشد من المتظاهرين، وكان ممكناً أن ينجم عنها تخريب وتكسيروضرب وإراقة دم. وكان ممكناً أيضاً أن تسهم عناصر "مدسوسة" بحسب المقولة اللبنانية، لتصطاد في الماء العكر وتزيد على حجم الأضرار. ولكن ما يجب التوقف عنده هنا أن قضية "مشروع ليلى" التي استحالت قضية دينية ووطنية وسياسية، لم تنته في قرار الإلغاء، فتبعاتها ستلقى ردود فعل أخرى، أشد عمقاً وإشكالاً مما بدا رد فعل عاطفي أو وجداني لدى جماعة كبيرة من المسيحيين وتحديداً الموارنة الذين كانوا في طليعة الحملة، بعدما وجدوا أنفسهم معنيين بهذه القضية أكثر من سواهم من روم أرثوذكس وروم كاثوليك وبروتستانت وسريان... فالحملة التي أطلقها غلاة المسيحيين، المحافظون و"المستقيمون" والمتمسكون بحرفية العقيدة، الذين شكلوا كما في مرات سابقة، جبهة واحدة، التقى فيها الإكليروس والرعايا أو المؤمنون الذين ينتمون إلى رعيات محلية مرتبطة مباشرة بمراجعها الإكليريكية، إضافة إلى المواطنين المنضوين إلى أحزاب مسيحية (الكتائب، القوات، التيار الوطني الحر). في ظروف مماثلة، عندما يشعر الرعايا المسيحيون بخطر يتهدد العقيدة والكنيسة، يتّحدون على الفور مع الإكليروس ويصبحون يداً واحدة وقلباً واحداً، مع أن هؤلاء الرعايا يخوضون دوماً معارك سلمية، كلامية وخطابية، ضد الإكليروس عندما يرفع أقساط المدارس أوعندما يتملص من تقديم عون أو مساعدة.
حملة غير مألوفة
لم يكن مألوفاً في السابق لدى المسيحيين اللجوء إلى مثل هذه المواجهات المتطرفة ومثل هذه الحملات العنيفة في قضايا الحريات العامة. ولم تكن المراجع المسيحية تؤدي دور الرقيب على الأعمال الفنية والأدبية والفكرية، ونادراً ما طالبت بمنع كتاب أو مسرحية أو حفلة فنية. كانت عموماً تؤثر غض الطرف عن أعمال جريئة أو تكتفي بإعلان موقف شفهي يعترض عليها. وكان بعض رجال الدين يتصرفون أحيانا فردياً إزاء عمل مسرحي أو كتاب لا يرضون عنهما، من دون أي دعم مرجعي. ويذكر الكثيرون كم من كتب صدرت لمؤلفين مسيحيين تناولت بالنقد والتجريح، ظواهر دينية مرجعية وأوّلت العقيدة على طريقتها أو انتقدت وسخرت، ولم يتم الادعاء عليها ولا مقاضاتها. بل كان بعض أصحاب الكتب أو المسرحيات الممنوعة "رسمياً" أي عبر رقابة الدولة، يلجأون إلى بكركي ذاتها، خصوصاً أيام البطريرك صفير، طالبين الوساطة. إلا أن الظروف راحت تتبدل شيئاً فشيئاً، لا سيما مع صعود حركات التطرف الأصولي مثل "القاعدة" و"داعش" وسواهما، ومع بروز أعمال تهجير المسيحيين في العراق خصوصاً. وبات الكلام يجري عن مصير المسيحيين في الشرق ومنهم مسيحيو لبنان، الذين بدأ عددهم يتضاءل. وصعدت أصوات سياسية وحزبية مسيحية (التيار الوطني الحر على سبيل المثال) تنادي بحفظ حقوق المسيحيين وعدم تهميشهم، بل أن رئيساً لأحد الأحزاب المسيحية بالغ كثيراً في إقامته حملة (دونكيشوتية طبعاً) لدعم مسيحيي الشرق. هكذا أصبح الرعايا المسيحيون اللبنانيون والموارنة تحديداً، يعيشون حالاً من التململ ولن أقول القلق، إزاء تراجع موقعهم وتضاؤل حقوقهم وقد أدركوا أنهم باتوا يمثلون 30 في المئة من الشعب اللبناني (مقابل 30 في المئة للسنة و30 في المئة للشيعة)، بعدما كانوا حتى الخمسينيات يمثلون نحو 60 في المئة. وما برحت أصوات مارونية تعترض على هذا التصنيف العددي ولا تعترف به.
الواقع المأزوم
لم يعد الموارنة قادرين على تجاهل هذا الواقع "المأزوم" ولا على تناسي المخاوف التي طالما عاشوها، في بلد تتآكله الطائفية والمذهبية بينما ينص ميثاقه على "المناصفة" بين المسيحيين والمسلمين. وفي ظل هذه "الأزمة" التي يعتبرها الموارنة وجودية ووطنية، راح يتنامى لديهم، إكليروساً وشعباً، شعور بضرورة الوحدة والحفاظ على الذات وصونها من أي خطر، سواء أتى من خارج أو من داخل. ولكن يبدو من الصعب وصف هذا الشعور، بالانغلاق أو الانكفاء أو التعصب، فالموارنة أصلا منقسمون على أنفسهم مثل سائر الطوائف في لبنان، ولا موقف سياسياً واحداً يجمعهم، على الرغم من مرجعيتهم البطريركية. هكذا لم يبدُ مستغرباً أن يباشر الإكليروس في ممارسة دور الرقيب على ما يتهدد المسيحيين. وقبل بضع سنوات، انطلق المركز الكاثوليكي للإعلام واللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام (هذه مؤسسة جديدة لم تعرفها الكنيسة المارونية سابقاً) وسرعان ما تحولا إلى "عين" ساهرة تراقب وتستمع وتقرأ وتشاهد وترفع البيانات، مطالبة الجهات الرسمية (الأمن العام مثلاً) أن تمنع وتقصّ وتجتزئ... هذه الرقابة تؤديها أصلاً كل الطوائف في لبنان من دون تفرقة.
لم تكن فرقة "مشروع ليلى" أولى ضحايا الرقابة المسيحية الجديدة والصارمة، ولن تكون الأخيرة. وبات الأب عبدو أبو كسم، رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام، "نجماً" يطل على الشاشات وفي الصحافة، بصفته ممثلاً للرقابة هذه، علماً أن هدف المركز هو إعلامي صرف. وقد أسهم أبو كسم مثله مثل مراجع أخرى في تبرير منع الحفلة والدفاع عن حق الرعايا في الاعتراض وحتى التظاهر والتطواف في الأحياء، اعتراضاً على المس بمشاعرهم الدينية وبالعقيدة المسيحية. لكن الحملة اتسعت وانتشرت عبر السوشيال ميديا وراجت شعارات التكفير وجمل التهديد والوعيد. وبرزت جمعيات تحمل أسماء غريبة مثل "القومية المسسيحية اللبنانية" و"جنود الرب"، تهدد وتهدر دماء أعضاء الفرقة. وعوض أن تلاحق أجهزة الدولة مثل هذه الحملات الداعية إلى القتل، التي تبدو الكنيسة براء منها، استدعت فرقة "مشروع ليلى" وحققت معها وطلبت منها إزالة بعض التدوينات من صفحتها على الفيسبوك بحجة أنها تمس بالمقدسات. وهذه التهمة بُنيت على قيام الفرقة بوضع صورة المغنية الأميركية مادونا في إطار صورة لمريم العذراء، في عمل فني لا يهدف إلى الإساءة المقصودة.
لعب كلمات
أما الجملة التي وردت في أغنية "جن" والتي تتحدث عن العماد "باسم الأب والابن بالجِن" (مشروب روحي) فهي التي أثارت حفيظة الإكليروس والرعايا. وهي حتماً ومن دون شك تسيء إلى العقيدة المسيحية التي تقول بالثالوث (الأب والابن والروح القدس) وبالعماد. هذه الإساءة لا يمكن إنكارها، لكنها حتماً لا تستحق كل هذه الحملة وما تلاها من تكفير وإباحة دم. ومن الأكيد أن الفرقة لم تسعَ إلى ارتكاب هذه الإساءة قصداً أو عمداً، فهي لا علاقة لها بالفلسفة المسيحية ولا اللاهوت وعلم العقيدة. ولا تنتمي الفرقة إلى الشيع المهرطقة ولا إلى حركة شهود يهوا الممنوعة في لبنان ولا إلى "عبدة الشيطان". بل هي كتبت كلمات الأغنية بطرافتها المعروفة والسخيفة أحياناً. وأصلاً لا تكتب الفرقة كلمات بقدر ما تكتب جملاً مبعثرة لا معنى لها واضحاً. إنها تلعب على الكلام. وقد أصدرت الفرقة بياناً اعتذرت فيه "من أي شخص استشعر مساً لمعتقداته في أي من أغانينا".
كان في إمكان اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام التي يرأسها المطران بولس مطر والمركز الكاثوليكي للإعلام الذي يرأسه الأب عبدو أبو كسم وسائر المراجع المسيحية أن يتجاهلوا الأغنية والفرقة ذاتها أو يطلبوا منها حذف هذه الأغنية من الحفلة، فيكونون متسامحين. ولعلهم ما كانوا يتوقعون أن تأخذ الحملة هذا الحجم الكبير وأن تلقى أيضاً اعتراض المجتمع المدني، وأن يترك فعل المنع صدى سلبياً في الأوساط الثقافية والإعلامية العالمية يطاول الكنيسة المارونية في لبنان. فالوكالات العالمية تناولت الحدث واستنكرته وكتبت على سبيل المثل جريدة "لو موند" الفرنسية الشهيرة مقالاً عابت فيه مثل هذا المنع. وقد فات المراجع المسيحية أن هذا المنع أدى خدمة كبيرة لفرقة "مشروع ليلى" وزاد من شهرتها لبنانياً وعربياً وعالمياً، وبات لدى جميع المواطنين فضول للتعرف إليها والاستماع إلى أغانيها.