ملخص
تظهر التجارب السياسية العربية مدى حرص العرب على التشبث بموروثهم الفني من موسيقى وأغان وأفلام وصور فوتوغرافية تدين فداحة الاحتلال وقهره اليومي.
على مدار تاريخ البلاد العربية لعب الفن بمختلف أنواعه وألوانه دوراً محورياً في تحرير الشعوب وانتصار كلمة الحق وارتفاع منسوب الحرية، إذ تظهر التجارب السياسية العربية مدى حرص العرب على التشبث بموروثهم الفني من موسيقى وأغان وأفلام وصور فوتوغرافية تدين فداحة الاحتلال وقهره اليومي.
ومنذ أربعينيات القرن الماضي أصبح الفن الوسيلة الوحيدة لمواجهة الاستعمار والكشف عن مآزقه وتصدعاته، إذ لجأ الفنانون العرب إلى الثورة سياسياً على الواقع، بعد أن قاموا بكتابة أغان تحرض الناس على مواجهة الاحتلال.
وظهرت أغان ومسرحيات ذات بعد سياسي حولت حساسية المرحلة الاستعمارية إلى تجربة فنية باقية في مخيلة الناس ووجدانهم، فالفن يلعب دوراً كبيراً في المقاومة، بل أحياناً تكون الكلمة أقوى من مختلف بقية الأشكال النضالية الأخرى.
ولعب فن الشعر دوراً كبيراً في توطيد فعل الحداثة السياسية داخل البلاد العربية منذ نهاية الستينيات، فجاءت التجارب عبارة عن بيانات سياسية تنتقد الواقع وتدين بقايا الاستعمار داخل التفكير والأمزجة والسلوكيات.
كما أن الفن وبسبب طابعه الحيوي في التخييل يفرض طريقة نظر أخرى في المقاومة، بعد أن تتحول الأغاني والأفلام واللوحات إلى وسائط تعبيرية تنتقد بقوة فكرة الاستعمار وترسباته.
بواكير غنائية
في المغرب اضطرت الفنانة الشعبية حادة الزيدية "خربوشة" إلى مناهضة الاحتلال الأجنبي وقواده داخل الوطن، بعد أن انتقدت في أغنيتها القائد عيسى بن عمر وسلوكياته العنيفة تجاه سكان قبيلة.
وفي وقت كان فيه القائد يتلقى المديح من الشعراء والفنانين والمغنين داخل القبيلة، جاءت أغنية "خربوشة" على شكل قصيدة هجائية تستصغر اسم القائد وشخصيته وقوته لتكون النتيجة سجنها وتعذيبها.
اعتبرت هذه الأغنية الشعبية المنتمية إلى فن العيطة أحد أبرز البواكير الغنائية التي ثارت على سلطة الاستعمار من خلال نموذج قائد القبيلة، لهذا يمكن اعتبارها المبادرة الأولى التي قاومت بالفن وجعلته منطلقاً أيديولوجيا للمقاومة والتعبير، إذ على رغم الأبعاد الأيديولوجية والنضالية التي رافقت هذه الأغنية في منطلقاتها، إلا أن الهواجس الجمالية بقيت تشكل أفقها الغنائي.
ولا شك في أنه بالعودة لمثل هذه الأغاني الشعبية، سنجد أن تأثيرها في تحرير القبائل خلال المرحلة الكولونيالية كان كبيراً، على رغم أن المؤرخ المغربي خلال القرنين الـ19 والـ20 لم يهتم بالحياة الاجتماعية المتصلة بالاستعمار، مما جعله يبقى أسير حدود الحياة السياسية وما يتعلق بها من السلاطين وبلاطاتهم وطرق المقاومة المسلحة وميكانيزمات خوضها لعمليات المقاومة والمطالبة بالإصلاح ثم الاستقلال.
إن المؤرخ بإهماله لهذا الجانب الغنائي في الثورة على الاستعمار وميثولوجياته يكون أهمل صفحة من صفحات تاريخ الفن الشعبي في علاقته بتحرر القبائل والطريقة التي بها جعل من الأغنية وسيلة ثورية.
هذا الأمر لا نكاد نعثر عليه داخل تجارب عربية أخرى، لكونها لم تحقق فعل المقاومة بالغناء والفن عموماً، إلا من خلال اللحظات التي تشربت فيها منابع الحداثة خلال الستينيات وبدأت أغانيها تهجس بالثورة والنضال.
بهذا المعنى تصبح أغنية العيطة تجربة وجودية حقيقية تختزن تجارب الألم والمعاناة، بعد أن تطلعت إلى بناء سردية غنائية تهجس بالمقاومة والموت.
وتعتمد العيطة في ثورتها على المستعمر على لغة شعبية بسيطة يسهل تداولها بين الناس، بما جعلها تظل مستقرة في وجدانهم وتفكيرهم، بل وتجعلهم ينسجون معها علاقة خاصة قوامها الافتتان والمحاكاة.
يقول سعيد فرحاوي "إذا كانت العيطة كفن موسيقي، أو كحقل فني لصيقة بالإنسان التصاقاً قوياً، فهي من الفنون الجمالية الموسيقية المغربية الأصيلة، عرفناها منذ زمن سلاطين المغرب، تبلورت كقضية إبداعية في عصر الاستعمار، هي لون غنائي يعتمد شفرات جد مرمزة تحمل خصائص خفية لا يفهمها إلا أصحاب الأرض، عبارة عن شفرات سرية تتناقل بين المقاومين في تواصل سري خاص، أي لغة موسيقية تفيد نقل المعلومة بين شريحة معينة لا يفهمها الآخرون، هي لغة ميتا، لها إيحاءات قوية تساعد سرياً بأشكال أخرى في حوار لا يريد منه أصحابه معرفة ما يتداول بينهم، على أساس حربي أو مقاوماتي محض، بصفته تكتيكاً يهم أسلوب المناورات السرية المستعجلة كاستراتيجية دقيقة وخاصة".
العيطة مواجهة للاستعمار
العيطة بوصفها نصاً شعرياً قبل أن يكون غنائياً تظهر في تشكلاتها الفكرية بعداً تاريخياً، لكونها عبارة عن وثيقة تاريخية مهمة تظهر حساسية المرحلة الاستعمارية وعنفها، بالتالي فقد اعتبرت من لدن الدارسين والمؤرخين أولى المحاولات الغنائية لمحاربة المستعمر، بل إن بعضهم يجزم أنه لا يوجد نمط غنائي آخر عمل على تحرير مخيلة الناس ودفعتهم إلى الثورة على قواد الاستعمار كما فعلت بعض أغاني العيطة.
وعلى رغم أهمية المرحلة السبعينية من القرن الـ20 والحراكين الفني والثقافي اللذين شهدهما المغرب، لم تستطع الأغاني الثورية المستوردة من المشرق من خلال نموذج الشيخ إمام ومارسيل خليفة وغيرهما أن تضاهي في أفقها الفكري ما بلورته العيطة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أولاً لأن هذه الأغاني المشرقية انطلقت من بعد سياسي محض تأسس على مفهوم الثورة على الأنظمة السياسية القمعية وسياق الصراع العربي - الإسرائيلي، فكانت الأغاني مطبوعة بنفس أيديولوجي لا تعير بعض نماذجه أهمية بالغة للأبعاد الفنية والجمالية.
أما الأمر الثاني فيكمن بدرجة أنها كانت امتداداً عميقاً لما كانت تعرفه الحركة السياسية العالمية على المستوى الخريطة الجيوسياسية، فكانت الأغاني موجهة لدعم اليسار والتيار الاشتراكي بمختلف ألوانه.
يقول الكاتب إبراهيم نجم "بعد نكسة عام 1967 بدأ إمام بتوجه غنائي جديد، سيشكل من خلاله الهوية الموسيقية التي عرفناه بها، وبعيداً من المواضيع السياسية والوطنية والاجتماعية الساخرة التي تناولها الشيخ الضرير الثائر، فإن أهمية إنجازه الموسيقي قد لا تقل عن أهمية سيد درويش، إذ استخدم جميع أدواته من غناء شعبي وإنشاد وموشحات وعلمه في المقام والإيقاع. ويحسب له استخدام إيقاع السماعي الثقيل، الذي تميزت به الموشحات في أغاني مثل: يا مصر قومي وشدي الحيل، وهذا لم يكن شائعاً، كما استخدم روح الإيقاع الكربلائي المعروف باللطميات في أغنية جيفارا مات"، ويضيف "استطاع إمام أن يطوع المقامات العربية وأن يخرجها من شكل عرضها التقليدي، مثلاً استخدم مقام البيات في أغنية: واه يا عبدالودود، وهو مقام يستخدم للفرح على غرار أغنية: دقوا المزاهر لفريد الأطرش، كما استخدم مقام الصبا الحزين في أغنية: يا فلسطينية الحماسية".
وبالعودة لأغاني فن العيطة سنعثر على نصوص شعرية - غنائية ذات نفس نضالي، بحيث تغدو فيها الأغنية الشعبية وسيلة فنية للمقاومة تؤكد مدى حضور الذات من خلال رغبتها في التحرر والانعتاق، إن العيطة وثيقة تاريخية تظهر نمط عيش سكان القبائل في خضم الاستعمار الغاشم، فهي تنقل يوميات المقاومة ولحظات الألم والفرح في حضرة قواد الاستعمار وخدمته.
ونظراً إلى هشاشة تكوين المؤرخ المغربي لم ينظر يوماً إلى هذه الأغاني باعتبارها سجلات تاريخية قادرة على أن تزودنا بأحوال نضال القبائل ومقاومتها للاستيطان (شكل من أشكال الاستعمار) من خلال أغنية واحدة مكثفة في شعريتها وغزيرة في إيقاعها الموسيقي ومتطلعة صوب حداثة لم تختمر بعد.
وبالنظر إلى أهمية العيطة ودورها الحيوي في خدمة ساكنة القبائل وأذواقهم الفنية، فإن الوجوه الغنائية الجديدة أعادت الاشتغال على هذه الأغاني وفق طريقة معاصرة أخرجتها من رتابة الإيقاع التقليدي، صوب حداثة الآلة الموسيقية وسكراتها، كما الحال في تجربة المغنية سكينة فحصي.
ومنذ ذلك التاريخ بقيت الأغنية في وجدان الناس يرددونها ويتغنون بها في المحافل الشعبية، إن ما جعل الأغنية تستمر كل هذه القرون هو أنها تنطلق من قصة حقيقية مؤثرة في ذاكرة المغاربة، فكل أغنية لها ارتباط عميق بحكاية معينة وجغرافية محددة، تختزن عشرات القصص الأليمة ضد المستعمر.
التجربة الفلسطينية
لكن إلى جانب فن العيطة تعتبر التجربة الفلسطينية إحدى أغنى التجارب التي وثقت علاقة الفن بالمقاومة، ذلك أن قسطاً كبيراً من الأعمال الغنائية قام على هذا المعيار الفكري الذي ينتقد الواقع ويناهض الاستعمار.
الأغنية الفلسطينية استطاعت أن تراكم ريبرتواراً غنائياً ثائراً على الاحتلال وميثولوجياته، بل إن قوة التجربة الفلسطينية تبنى بشكل أقوى وأكثر حميمية على الأغنية الشعبية، التي ظلت إلى حدود اليوم السلاح الوحيد لتهديم الاحتلال الإسرائيلي، فالأغنية وبسبب بساطتها كانت سهلة الانتشار ويصعب على المحتل القبض عليها أو منعها مقارنة بتجارب مسرحية أو سينمائية أو تشكيلية.
لذلك ظهرت الأغنية كعلامة بارزة في تاريخ المقاومة الشعبية الفلسطينية، بوصفها فناً شعبياً تلقائياً مؤثراً في ذاكرة الناس ووجدانهم، بل إن أغنية من قبيل "هدي يا بحر" التي كتبها الشاعر إبراهيم محمد صالح (1931-2014) أعادت فرقة "زمن" الاشتغال عليها وفق النمط المعاصر وحققت من خلالها شهرة واسعة.
وتعتبر هذه الأغنية من الأغاني التراثية الرفيعة لما تحمله لما تحمله من عمق على مستوى الكلمات ووجعها، وذلك لكونها ترثي حال اللجوء الذي تعيشه فلسطين جراء الاحتلال الإسرائيلي.
لكن إلى جانب هذه الأغنية التراثية التي أصبحت مثل الأناشيد الوطنية التي يتغنى بها العرب. برزت تجربة المغنية ريم بنا التي أعادت للبعد السياسي نظرة أخرى في أغانيها، إذ لم يقتصر الخطاب الجمالي لأغانيها على نوع من الاحتجاج السياسي، بل جعلت الملمح الجمالي متوهجاً في بناء شرعية الأغنية وخطابها.
وتكاد تمثل ريم بنا حالاً غنائية أصيلة ومتفردة في التجربة الفلسطينية، فهي لم تترك التأليف الغنائي يطغى عليه التاريخ، بقدر ما حولته إلى حاضر لا ينقضي بعد أن جعلت الآلة المعاصرة تيجاناً قوياً تشيد عليه التجربة الغنائية الفلسطينية.
تقول الصحافية إيمان محمد "في ألبومها: مرايا الروح، قدمت ريم تجربة غنائية عن الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال، وكذلك في: صرخة من القدس".
وتضيف "كانت بنا التي أنجبت ثلاثة أبناء حريصة على مخاطبة الأجيال الأصغر وتشكيل وعيهم بالقضية الفلسطينية فقدمت لهم مجموعة من الأغاني، وبحصيلة 13 ألبوماً في رحلتها الغنائية التي بدأتها في التسعينيات، وعدت الأيقونة صاحبة الصوت المدافع عن القضية الفلسطينية".
وتشير إلى أن "أغاني الفلسطينية كاميليا جبران شكلت كذلك جزءاً أصيلاً من الوعي الغنائي في فلسطين، ففي بدايتها ظلت المؤدية الأولى لفرقة القدس مدة 20 عاماً، وفي حوار لها رأت كاميليا أن الأمر أكبر من كونه فرقة بل كان صوتاً للمقاومة، واختارت بعد ذلك تقديم أساليب موسيقية مختلفة مع بداية الألفية الجديدة، بالتعاون مع موسيقيين أوروبيين، فأنتجت ألبومات مثل محطات ووميض ونبني وحبكة".