ملخص
تتركز صناعة المواد الأفيونية الاصطناعية كالفنتانيل والميثامفيتامين في الصين والمكسيك. وثمة فشل في سياسة واشنطن حيال التعامل مع هاتين الدولتين في مجال المخدرات، بدليل تحول الفنتانيل وباءً داخل الولايات المتحدة
تواجه الولايات المتحدة وباء المخدرات الأخطر في تاريخها. أزهقت الجرعات الزائدة من هذه المواد حياة ما يربو على 100 ألف أميركي بين أغسطس (آب) 2021 وأغسطس 2022. وخلال سنوات قليلة، تضاعفت الوفيات الناجمة عن المخدرات. وتتعلق معظم حالات الموت إثر تناول جرعات زائدة من المخدرات، بتعاطي مادة الفنتانيل fentanyl [إحدى المواد التي توصف بالأفيونيات الاصطناعية، بسبب تشابه تركيبها وتأثيراتها مع مادة الأفيون الطبيعية]. والآن، باتت تلك المواد الأفيونية الاصطناعية تفتك بأرواح حوالى 200 أميركي يومياً.
[يطلق تعبير المواد الأفيونية على مجموعة واسعة من المواد الطبيعية والاصطناعية التي تعطي تأثيرات مشابهة، سواء بصورة كلية أو جزئية، لتناول المورفين الذي يوجد بصورة طبيعية في نبتة الخشخاش التي تعطي مادة أخرى هي الكودايين. ويعتبر تسكين الألم والإحساس بالخدر والنعاس وتباطؤ التنفس وتباطؤ حركة الأمعاء، من الأعراض البارزة لتلك المواد. وتؤدي الجرعة الزائدة إلى توقف التنفس وإبطاء عمل الدماغ إلى حد التوقف. ويعتبر الهيرويين من أشهر المواد الأفيونية التي تُصنّع كيماوياً. وأحياناً، توضع مواد تعمل على مناطق تأثير الأفيون في الدماغ، لكنها تعطي تأثيرات مضادة، ضمن التصنيف نفسه. ومن الأمثلة على ذلك، الكوكايين والأكستازي والميثامفيتامين وغيرها].
وفي سياق تصديها للأزمة، لا تكتفي حكومة الولايات المتحدة بتطبيق القانون بغية تضييق الخناق على تجار الـ"فنتانيل"، بل تتخذ أيضاً خطوات تقف سداً أمام آفة تعاطي المخدرات، وتسعى إلى وضع حد لها وللأضرار الناجمة عنها. بيد أن الصعود المطرد لوباء الـ"فنتانيل" يوضح بجلاء عدم كفاية تلك الإجراءات. ومع ملاحظة أن كميات الفنتانيل المستخدمة في الولايات المتحدة، تُنتج كلها خارج هذه البلاد، فإن درء تدفق هذه المخدرات إليها يبقى خطوة لا غنى عنها أيضاً.
حتى الآن، تعثرت جهود وقف الإمدادات أو تعطيلها. ويعزى ذلك إلى سبب واحد، يتمثّل في القدرة على إنتاج المواد الأفيونية الاصطناعية من قبيل الفنتانيل، باستخدام مجموعة واسعة من المواد الكيماوية، وكثير منها أيضاً له استخدامات تجارية مشروعة. بالتالي، فإن فرض قيود على إمدادات تلك المواد الكيماوية يشكّل خطوة صعبة وغير عملية. علاوة على ذلك، حينما تصدر الجهات التشريعية قوانين عن حظر أو منع المواد الأفيونية الاصطناعية أو مكوناتها، يلجأ المنتجون ببساطة إلى تعديل مكونات وصفاتهم.
في سياق متصل، ثمة أمر يحوز أهمية مساوية للتشريعات، لكن قلما يصار إلى الحديث عنه، ويتمثّل في المعوقات الجيوسياسية [أمام دحر هذا الوباء]، التي تجعل من العسير على حكومة الولايات المتحدة سد قنوات إمداد البلاد بتلك المواد. إذ تأتي غالبية الإمدادات العالمية لمادة الـ"فنتانيل" والمواد الكيماوية الأولية التي تستخدم في صنعها، من الصين أو المكسيك، علماً أن السياسة والأولويات الحالية السائدتين في هذين البلدين تعيق السيطرة الفاعلة على إنتاج الـ"فنتانيل".
وقد وصل تعاون الولايات المتحدة في إنفاذ القانون مع الصين، الذي كان محدوداً في البداية، إلى نهايته في السنوات الأخيرة. وفي ظل عدم إعادة هيكلة العلاقات الأميركية - الصينية، من غير المرجح أن يطرأ أي تغيير على هذا الواقع. وكذلك أوقفت الحكومة المكسيكية أيضاً التعاون مع الولايات المتحدة في إنفاذ القانون. على رغم أن سلسلة اجتماعات ثنائية رفيعة المستوى انعقدت في أبريل (نيسان) 2023 ربما تكون قد فتحت الطريق أمام تعزيز التعاون في المستقبل، إلا إنه ليس واضحاً إن كانت ستتمخض عن إجراءات أساسية تتخذها السلطات المكسيكية.
لكن تستطيع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن اتّخاذ إجراءات كثيرة حيال ذلك. ما زال في متناول واشنطن خيارات غير مستكشفة يسعها أن تتوسلها كي تحث بها السلطات الصينية والمكسيكية على إبداء تعاون أقوى، مثلاً من طريق الجمع بين المقترحات البناءة من جهة وبين التهديد بفرض عقوبات على الجهات الحكومية والخاصة في البلدين من جهة أخرى.
كذلك يسعها اعتماد تدابير إضافية خاصة تتعلق بالعمليات الاستخباراتية وإنفاذ القانون، وذلك بوجود تعاون أجنبي أو من دونه. لقد حان الوقت كي تتخذ واشنطن إجراءات على هذه الجبهة. إذا تقاعست، فإن معدلات الوفيات القياسية التي تسببها مادة "فنتانيل" اليوم، ستطيح بها معدلات أعلى ستُسجَّل غداً.
صنع في الصين
أدرك المسؤولون الأميركيون منذ فترة طويلة أن وقف إنتاج مادة "فنتانيل" من مصدرها يعني وقفها في الصين. منذ عام 2015، طالبوا بكين بتشديد الضوابط على العقاقير من فئة "فنتانيل"، مع توخي الجدية في إنفاذ تلك الضوابط. في البداية، بدا أن تلك الجهود تؤتي ثمارها. في عام 2019، شرعت الصين في فرض قيود على فئة كاملة من المواد الأفيونية الاصطناعية.
ومنذ ذلك الحين، وسَّعت نطاق تلك القوانين كي تشمل المواد الكيماوية الرئيسة المستخدمة في إنتاج المواد الأفيونية الاصطناعية. ولفترة من الزمن، وضعت الولايات المتحدة يدها في يد الصين من أجل مكافحة المخدرات. وفي عام 2019، استخدمت السلطات الصينية في مقاطعة "هبي" [في شمال الصين] المعلومات الاستخباراتية الأميركية في اعتقال وإدانة تسعة من مهربي المخدرات جزاء إرسالهم الـ"فنتانيل" بالبريد مباشرة إلى مستهلكين وموزعين في الولايات المتحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن منذ ذلك الحين، نجح مهربو المخدرات الصينيون في الإفلات من المراقبة، إذ غيروا مسار عملياتهم عبر المكسيك. خلافاً لمخدرات على شاكلة مادة "ميثامفيتامين" methamphetamine، التي ما زالت تحت سيطرة عصابات الجريمة المنظمة الصينية، غالباً ما تبدأ سلسلة إنتاج الـ"فنتانيل" مع لاعبين صغار ومتوسطي المستوى في الصناعات الكيماوية والصيدلانية في البلاد، بما في ذلك الأعمال الصغيرة التي يتولاها أفراد من العائلة نفسها. تتولى تلك الشركات التي تبدو مشروعة في الظاهر، شحن المواد الكيماوية التي يُصنّع الـ"فنتانيل" منها إلى عصابات المخدرات الصينية أو المكسيكية. وتعمل الكارتلات على تجميع المواد الكيماوية لصناعة الشكل النهائي من مادة "فنتانيل"، ثم نقل الكميات المُنتَجَةْ إلى أسواق الولايات المتحدة.
يبدو صعباً على الأجانب تكوين رؤية واضحة عن الوضع الراهن في مكافحة المخدرات المحلية داخل الصين. وفي المقابل، لم تشهد الصين ملاحقات قضائية رفيعة المستوى ضمن ذلك الإطار منذ محاكمة 2019 في مقاطعة "هبي". وكذلك لا يبدو أن بكين تكلف نفسها أي عناء في وقف تدفق المواد الكيماوية الأولية إلى الكارتلات المكسيكية. ولكن لا يأتي هذا التهاون مصادفة. حدثت الاعتقالات في "هبي" حينما كانت بكين لا تزال تأمل في تحسن واسع في العلاقات مع واشنطن. ومع تلاشي هذا الأمل، تضاءل أيضاً استعداد الصين للتنسيق مع السلطات الأميركية على جبهة المواد الأفيونية.
نادراً ما تتخذ الحكومة الصينية إجراءات ضد الجهات العليا في عصابات الجريمة
ببساطة، تفكر بكين في التعاون بشأن مكافحة المخدرات باعتباره متفرعاً من علاقاتها الجيوستراتيجية. وعلى النقيض من حكومة الولايات المتحدة التي تسعى إلى فصل هذه المسألة عن المسائل الجيوسياسة، تنظر الصين إلى أزمة الـ"فنتانيل" من منظور تنافسها المتنامي مع الولايات المتحدة. وقد فعلت ذلك حتى قبل زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي آنذاك نانسي بيلوسي إلى تايوان العام الماضي، التي أنهت بعدها الصين رسمياً جميع أشكال التعاون في مجال إنفاذ القانون مع الولايات المتحدة.
ويبدو مستبعداً أن التدابير الجزائية الأميركية ضد الصين، من قبيل العقوبات ولوائح الاتهام، ستغير هذا الواقع. حتى في جنوب شرقي آسيا والمحيط الهادئ، حيث تأخذ بكين تهريب المخدرات على محمل الجد، فإن انخراطها مع سلطات الدول الأخرى يميل إلى الانتقائية الشديدة، ويخدم مصالحها الذاتية، ويخضع لمصالحها الجيوسياسية.
في داخل البلاد وخارجها، نادراً ما تتخذ الحكومة الصينية إجراءات ضد الرؤوس الكبيرة من عصابات الجريمة ما لم تنتهك مجموعة محددة من مصالح الدولة الأساسية. في الحقيقة، تقدم هذه الجماعات الإجرامية مجموعة متنوعة من الخدمات للأعمال التجارية المشروعة، بما في ذلك الشركات التي ترتبط بعلاقات مع مسؤولين حكوميين والحزب الشيوعي الصيني. إنّ الجهود المبذولة في سبيل وضع قوانين ولوائح تنظيمية أفضل بشأن المواد الكيماوية المستخدمة في صُنع مادة "فنتانيل" ونظائرها، يعوقها أيضاً فساد ممنهج، فضلاً عن الهياكل التحفيزية التي يعمل في ظلها المسؤولون الصينيون.
واستطراداً، تترك هذه الظروف مجتمعة إلى فتح مساحة كبيرة للشبكات الإجرامية الصينية كي توسع حجمها ونطاقها، بما في ذلك في الأميركتين. تشير دلائل إلى أن السفن الصينية للصيد التي تبحر في مياه أميركا اللاتينية تحمل على متنها أحياناً مخدرات ومواد كيماوية تستخدم في الأفيونيات الاصطناعية. بالتالي، بات من الواضح أن الجهات الفاعلة الصينية لها اليد الطولى في غسيل الأموال لمصلحة الكارتلات المكسيكية من طريق الشبكات المالية والتجارية غير الرسمية. ويتسم بأهمية خاصة بروز الدفع العيني. ففي مقابل المواد المستخدمة في صنع المخدرات، تزود الكارتلات المكسيكية مهربي المخدرات الصينيين بمنتجات السوق السوداء المرغوبة، خصوصاً الأخشاب والحيوانات البرية المحمية. ويحمل ذلك التبادل العيني ضرراً شديداً محتملاً على الاستدامة الاقتصادية، والأمن الغذائي، والتنوع البيولوجي العالمي، إضافة إلى احتمال انتشار الأمراض الحيوانية المنشأ حول العالم.
عالق في خمسينيات القرن العشرين
على الرغم من أن العلاقات الأميركية مع المكسيك لم تتدهور بالدرجة عينها التي ساءت فيها العلاقات مع الصين، إلا أن سياسة الولايات المتحدة في مكافحة المخدرات تواجه هناك أيضاً عقبات خطيرة. إذ يذهب انهيار حكم القانون في المكسيك إلى ما هو أبعد من الخسائر البشرية الناجمة عن حرب المخدرات التي أودت سنوياً بحياة أكثر من 30 ألف مكسيكي منذ عام 2017، وذلك من دون أن نحتسب أكثر من 112 ألف شخص فُقدوا خلال الفترة الزمنية عينها.
وبالإضافة إلى السيطرة على تجارة المخدرات، وسّعت الكارتلات من ابتزازها وصارت تهيمن حتى على أجزاء من الاقتصاد الرسمي للبلاد. الآن، يمتد سلطانها إلى الزراعة، ومصائد الأسماك، وقطع الأشجار، والتعدين، وإمدادات المياه. وكذلك اتّخذ هجومها على سلطة الدولة والمجتمع المدني أشكالاً جديدة أكثر وقاحة أيضاً، بما في ذلك المحاولات العدوانية المتزايدة للتأثير في الانتخابات والتسلل إلى مؤسسات الدولة.
حينما تولى منصبه في 2018، وعد الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور بأنه سيواجه الأزمة المتصاعدة بـ"العناق وليس الرصاص". وقد قصد بكلماته تلك اللجوء إلى التدابير الاجتماعية والاقتصادية بغية مواجهة قوى أساسية في البنية الاجتماعية تدفع شباناً كثيرين على الانضمام إلى صفوف الكارتلات.
لكن، إلى جانب إنشاء حرس وطني جديد، علماً أنه التعديل الأحدث في سلسلة طويلة من تعديلات مؤسسية عشوائية شهدتها قوات الأمن المكسيكية، لم يطرح لوبيز أوبرادور أبداً أي رؤية واضحة بشأن السبل إلى تحقيق استقرار في هذه الأوضاع على المدى القصير.
في ذلك الصدد، يبدو أن الحكومة المكسيكية يحدوها أمل في أنها إذا سمحت للكارتلات أن تتقاتل في ما بينها، فستصل في نهاية المطاف إلى توازن القوى وسينحسر العنف. بيد أن الصراع الذي تسبب في إراقة دماء كثيرة، والمتمثل في حرب دامية على الزعامة بين عصابة "كارتل سينالوا" ومنافستها الرئيسة "كارتل خاليسكو نويفا جينيراسيون"، لم يهدأ. وعلى النقيض من ذلك، تعاظم الصراع وامتد إلى أجزاء أخرى من أميركا اللاتينية، حتى بلغ تشيلي.
ببساطة، إن الاكتفاء بزيادة عمليات ضبط المخدرات لن يؤدي إلى حل المشكلة
وزاد في الطين بلة أن المكسيك قد قلصت بصورة منهجية التعاون مع سلطات إنفاذ القانون الأميركية. ويُنحي لوبيز أوبرادور باللائمة في تأجيج العنف، على الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد الكارتلات. وتتمحور رؤيته الآتية من خمسينيات القرن العشرين بشأن السياسة والشؤون الخارجية، حول الحد من أي وجود أميركي غير اقتصادي في بلاده.
في عام 2020، حينما ألقت الولايات المتحدة القبض على سلفادور سيينفويغوس، وزير الدفاع المكسيكي السابق، بتهمة التواطؤ مع إحدى عصابات المخدرات العدوانية، هدد لوبيز أوبرادور بطرد جميع الموظفين الأميركيين المكلفين إنفاذ القانون وإنهاء كل تعاون مع السلطات الأميركية. هكذا، تراجعت واشنطن عن موقفها علّها تكبح غضبه. وسلمت أميركا سيينفويغوس إلى المكسيك، حيث صدر قرار يقضي بتبرئته على الفور.
ومنذ ذلك الحين، أصدرتْ الحكومة المكسيكية قانوناً للأمن القومي يقف حجر عثرة أمام التعاون مع رجال الاستخبارات الأميركيين. وفي مارس (آذار) 2023، زعم لوبيز أوبرادور أن عمليات تصنيع مادة "فنتانيل" لا تأخذ مجراها في المكسيك، ضمن ادعاء كشفت زيفه وزارة العدل الأميركية، وكذلك أعضاء في حكومة أوبرادور نفسه. وفي الأسابيع الأخيرة، هدّد الرئيس المكسيكي مجدداً بطرد رجال الاستخبارات الأميركيين من بلاده.
وفي حين هددت الحكومة المكسيكية بالانسحاب من "مبادرة ميريدا" أيضاً، التي تشكل إطاراً ثنائياً للتعاون الأمني المستمر منذ ديسمبر (كانون الأول) 2008، اجتهدت الحكومة الأميركية للتفاوض على اتفاقية أخرى. لكن المسؤولين المكسيكيين فسّروا إطار التعاون الجديد من زاوية ضيقة جداً. إذ اعتبروا أنه يتوجب على الولايات المتحدة خفض الطلب المحلي على المخدرات، واعتقال عدد أكبر من الهاربين المكسيكيين على الأراضي الأميركية، والحؤول دون تدفق الأسلحة والأموال غير المشروعة جنوباً إلى المكسيك، بينما تفعل المكسيك ما يحلو لها على جانبها من الحدود من دون السماح للولايات المتحدة بالدخول إليه.
منذ ذلك الحين، لم تُبدِ الحكومة المكسيكية سوى تعاون محدود ومتقطع [مع الولايات المتحدة]. وفي حين أبقت السلطات المكسيكية "إدارة مكافحة المخدرات" الأميركية في حال سبات عميق على أراضيها، فقد سمحت بتبادل المعلومات الاستخبارية من حين إلى آخر، وعملت أحياناً مع فرع التحقيق التابع لوزارة الأمن الداخلي الأميركية. ولكن في الأخير، لا تتصدى الحكومة المكسيكية للجماعات الإجرامية التي تتاجر بالـ"فنتانيل". وبدلاً من ذلك، بحسب ما كشف تحقيق نهضت به "رويترز" أخيراً، تراها تعكف على إعداد تقاريرها حول مداهمات معامل الـ"فنتانيل" كي تسترضي واشنطن. على أي حال، لقنت إدارة دونالد ترمب المكسيك درساً قيماً، لكنه مؤسف، ومفاده أن الولايات المتحدة ستتيح مجموعة واسعة من المصالح ما دامت المكسيك تكبح تدفقات الهجرة إلى حدود الولايات المتحدة. ولم تغير إدارة بايدن موقفها بشأن هذا الدرس.
إغلاق البوابات
في الوقت الحاضر، تبقى ضئيلة احتمالات الحصول على تعاون أكبر من الصين أو المكسيك في مكافحة تجارة الـ"فنتانيل". ولكن، الأجدر بواشنطن ألا تيأس من المحاولة. حينما يتعلق الأمر ببكين، يتوجب على الدبلوماسيين الأميركيين أن يستغلوا رغبتها في أن تكون رائدة عالمية في مكافحة المخدرات في أعين العالم. إذ ترغب الصين في تقديم نفسها بصورة البلد المتشدد تجاه المخدرات. لكنها تعرضت لانتقادات من دول في جنوب شرقي آسيا بسبب التدفق المستمر للمواد الكيماوية الصينية المستخدمة في صنع مادة "ميثامفيتامين" إلى المنطقة، ما أدى إلى تفشي وباء مخدرات بشكل مدمر.
في مقدور الولايات المتحدة أن تتعاون مع هذه الدول، كذلك مع أستراليا ونيوزيلندا، من أجل الضغط على الصين في المحافل الدولية المتعددة الأطراف. ومن شأن الدعوات المنسقة لبكين إلى اتخاذ إجراءات ضد المخدرات الاصطناعية، وتطبيق أنظمة مراقبة أفضل حتى للمواد الكيماوية ذات الاستخدام المزدوج غير المجدولة [ضمن قائمة المواد المستعملة في صنع المواد المحظورة]، ووضع أفضل الممارسات لشركاتها الكيماوية؛ أن تحمل الصين أخيراً على اتخاذ الإجراءات المناسبة.
تشمل أفضل الممارسات التي يجب أن تدفع الولايات المتحدة والبلاد الأخرى باتجاهها، مجموعة من أنظمة الإشراف الذاتي لاكتشاف ومراقبة الأنشطة المشبوهة وسياسات "تَعَرَّفْ إلى عملائك". وكذلك يجدر بها ألا تكف عن مطالبة الصين بحذف المواقع الإلكترونية التي تبيع بشكل غير قانوني المواد الأفيونية الاصطناعية للأميركيين أو للجماعات الإجرامية المكسيكية. كذلك عليها أن تشجع الصين على تبني معايير أكثر قوة في مكافحة غسيل الأموال ضمن أنظمتها المصرفية والمالية وممارساتها التجارية.
وفي مقدور واشنطن أن تدعم مثل هذه الطلبات من طريق التهديد بفرض عقوبات. قد تشمل الإجراءات العقابية فصل الشركات الصينية غير الملتزمة من السوق الأميركية، واستهداف مسؤولي صناعة الأدوية والكيماويات البارزين. وفي الوقت نفسه، على سلطات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة توجيه اتهامات لأكبر عدد ممكن من مهربي المخدرات الصينيين وشركاتهم.
في المكسيك أيضاً، تستطيع سياسة الولايات المتحدة أن تصنع فارقاً، على رغم أن بعض المقترحات الحالية غير قابلة للتطبيق. في ذلك الصدد، أوصى سياسيون أميركيون كالسيناتور في ولاية كارولينا الجنوبية ليندسي غراهام، بأن تصنف الحكومة الأميركية الكارتلات المكسيكية بوصفها منظمات إرهابية أجنبية، إضافة إلى إدراجها حالياً في صفوف المنظمات الإجرامية العابرة للحدود.
هكذا، تقود هذه الخطوات إلى فتح الباب أمام جمع المعلومات الاستخبارية وحتى شن ضربات عسكرية أميركية على معامل الـ"فنتانيل". في المقابل، سيكون عدد الأهداف الواقعية محدوداً، كذلك فإن ضربها لن يعوق الكارتلات لفترة زمنية طويلة. وكذلك لن يضيف تصنيف المنظمات الإرهابية الأجنبية شيئاً إلى نظام العقوبات وأدوات الاستخبارات المالية المعمول بها أصلاً. في الحقيقة، لن يفضي ذلك إلا إلى تعقيد سياسات الولايات المتحدة في المكسيك.
وكبديل من ذلك، تستطيع الولايات المتحدة أن تكثف عمليات التفتيش على الحدود، حتى لو جاء ذلك على حساب إبطاء التجارة القانونية وتسبب في مشكلات خطيرة للصادرات الزراعية المكسيكية السريعة العطب. وبطبيعة الحال، سيكون التعاون في إنفاذ القانون بين الولايات المتحدة والمكسيك قوياً بما يكفي للحفاظ على فاعلية المعابر الحدودية القانونية وتمكين عمليات التفتيش المشتركة بعيداً من الحدود. ولكن، إذا رفضت المكسيك التصرف بوصفها شريكاً يُعتمد عليه، الأجدر بالولايات المتحدة تكثيف عمليات التفتيش على الحدود بمبادرة ذاتية منها.
يكلف وباء المواد الأفيونية، إذا لم نحتسب الخسائر البشرية التي لا تُحصى، خسائر اقتصادية باهظة إلى حد أن التهاون في اتخاذ التدابير اللازمة مرفوض تماماً. في 2020، حددت التقديرات هذه التكلفة بنحو 1.5 تريليون دولار. في المقابل، في 2019، بلغ إجمالي تجارة السلع والخدمات الأميركية مع المكسيك 677.3 مليار دولار، وبلغت الواردات من المكسيك 387.8 مليار دولار.
وعلى غرار الحال مع الصين، يجدر بواشنطن إيجاد شكل شامل من الضغط كي تضمن مطالبها، بما في ذلك إيجاد ملفات الاتهام ضد مسؤولين وسياسيين مكسيكيين يعملون على تعطيل التعاون مع الولايات المتحدة. عوض النأي عن مساءلة المسؤولين المذنبين من أمثال سيينفويغوس، وزير الدفاع المكسيكي السابق، على الولايات المتحدة أن تعتقل مزيداً منهم.
الضرب في الصميم
في الوقت نفسه، الأجدر بالمسؤولين الأميركيين أن يعيدوا التفكير في الإجراءات التي يتخذونها ضد شبكات الجريمة المتورطة في تجارة الـ"فنتانيل". وبالنظر إلى تنوع النشاطات الاقتصادية للشبكات الإجرامية المكسيكية والصينية في الوقت الحاضر، فإن زيادة عمليات ضبط المخدرات لن تجدي نفعاً، بكل بساطة. على السلطات أن تنسف إمبراطوريات المهربين عن بكرة أبيها، وتسعى إلى قطع مصادر إيراداتها بالجملة، وإن استلزم ذلك ملاحقة الصيد الجائر والاتجار بالحيوانات البرية، أو الصيد غير المشروع، أو غيرها من النشاطات التي يمنعها القانون.
وفي المقابل، يقتضي تحقيق هذا الهدف توظيف مجموعة واسعة من الإدارات والوكالات الأميركية كي تعمل على إيجاد نهج تنخرط فيه الحكومة برمتها، بدءاً من وكالات الاستخبارات، ووزارة الخارجية، ووزارة الدفاع، و"دائرة الأسماك والحياة البرية". بعد نظرة فاحصة على الفروع المختلفة لتجارة الـ"فنتانيل"، والاتجار بالحياة البرية، والصيد غير المشروع، وما إلى ذلك، ستحصل الولايات المتحدة أيضاً على صورة أفضل للصلات التي تجمع بين الجريمة المنظمة وحكومات دول أجنبية، من بينها الصين.
ربما سيكون مفيداً التبادل الواسع للمعلومات الاستخبارية داخل الحكومة الأميركية، وكذلك تعزيز دور العملاء الخاصين لدى "دائرة الأسماك والحياة البرية" في فرق العمل المشتركة لمكافحة الجريمة المنظمة. إلى جانب هذا الجهد، لا بد من تصنيف الاتجار بالأحياء البرية جريمة أصيلة من طريق أذونات التنصت على المكالمات الهاتفية، التي من شأنها تمكين السلطات من جمع المعلومات الاستخبارية من دون الحاجة إلى إثبات وجود صلة مسبقة مع جرائم أخرى.
يبقى أن السير على هذا الدرب يقتضي إحداث تغيير في العقلية نفسها، لكنه لن يكون باهظ الكلفة سواء بالأرقام المطلقة أو النسبية. ولا ريب أنه لن يبلغ سوء جزء بسيط من التكلفة التي يفرضها وباء الـ"فنتانيل" المنفلت من عقاله على حياة الأميركيين ومجتمعاتهم. بالنظر إلى المخاطر، لن يوفَّ الحجم المهول لتلك الأزمة حقه إلا عبر نهج حكومي جامع، في الداخل والخارج.
* فاندا فيلباب براون، مديرة مبادرة "الأطراف غير الدولاتية الفاعلة والمسلحة"، وزميلة أولى في "معهد بروكينغز".
فورين أفيرز
مايو (أيار)/ يونيو (حزيران) 2023