ملخص
ضرورة الأمانة على الحق والاستمتاع الشرعي بالحياة رغم الألم
غالباً ما نختبر التردد والارتباك والضيق حين نجد أنفسَنا أمام سبيلَين من الاختيار: إما الأمانة على الحقيقة، ولو كانت مؤلمةً هدامةً، وإما الاستمتاع الشرعي بالسعادة التي تَعدنا بها الحياة حين ندخل في فضائها، وننمو في حدائقها، ونسلك على دروبها. كثير من الناس تضطرهم الأحوال الحياتية إلى الإعراض عن مسعى السعادة الطبيعي، وسلوك سبيل الواجب الذي يُفضي بهم إلى قول الحقيقة الثقيلة الجارحة. فإذا بهم يضحون بسعادتهم من أجل الاضطلاع بحقائق الوجود المرتبطة بقرائن التزاماتهم العيلية والمهنية والاجتماعية والمدنية والوطنية. إذا كان الأمر على هذا النحو، لا بد لنا من أن ننظر في طبيعة هذا التنازع، وأن نتدبر أبعادَه حتى نستطيع أن نزرع في وعي الأجيال الفتية الحس الأخلاقي الذي يتيح لهم أن يدركوا جسامة المشكلة، وأن يُحسنوا الاختيار في انتهاج سبيلهم الحياتي الخاص.
السعادة حال كيانيةٌ والحقيقة مسعى تطلبي
من الضروري، في البداية، أن ننظر في التناقض الذي يعاينه بعضُنا ناشباً بين الحقيقة والسعادة. ذلك بأن افتراض مثل هذا التناقض يشير إلى موقف فلسفي يقفه الإنسان من كلتا القضيتَين. لنبدأ بتعريف المفهومَين. السعادة حال من الرضا الكياني، والانتعاش الوجداني، والسكينة الطيبة، والمتعة المنغلة في ثنايا الائتلاف الجسدي-النفسي برمته. ومن ثم، ليست السعادة مجرد فرحةٍ عابرةٍ أو ارتعاشٍ استمتاعي طارئٍ، بل بالأحرى المثال الوجودي الأعلى الذي يصبو إليه كل كائنٍ بشري.
أما الحقيقة فقوامُها معرفةُ الواقع وإدراكُ الصواب في كل شيء، والإفصاحُ السليمُ الملائمُ الممكنُ عن هوية الكائنات والموجودات والأشياء وارتباطها بعضها ببعض. من الضروري ألا نختزل الحقيقة ونقزمها فنحصرها بما يناقض الكذب والخطأ. حين نتناول الحقيقة في أرحب مداها، يجب أن نعارضها بالجهل والوهم والتخيل والانحراف. وهذه كلها مفاهيمُ ملتويةٌ تحتاج إلى تدبرٍ حصيفٍ حتى نستطيع أن نستجلي أثرَها في استجلاب السعادة وضمانتها، لا سيما إذا تَبين لنا أن الاعتصام بها أفضلُ من التصريح العلني بالحقيقة الجارحة.
لا بد لنا، والحال هذه، من أن نسأل أنفسنا: هل نفضل الحقيقة على السعادة؟ أم السعادة على الحقيقة؟ هل يمكننا أن نحيا حياةً سعيدةً إذا آثرنا أن نعيش في الظلام والجهل والوهم وسوء النية؟ أفليس من الضروري أن تقوم السعادة على مطلب الحقيقة؟ لا شك في أن هذه الأسئلة تصيب جوهر القضية. غير أن الإنسان الفطن يميز بين أمرَين: معرفة الحقيقة، ومعرفة ما يظن أنه الحقيقة أو ما يميل إلى اعتقاده في منزلة الحقيقة. فضلاً عن ذلك، نشعر في بعض الأحيان بأنه يحق لنا أن نكذب كذباً مشروعاً في سبيل إسعاد الآخرين.
في جميع الأحوال، تضطرنا هذه الأسئلة إلى النظر في غاية حياتنا ومعنى وجودنا. فهل تنعقد حياتُنا كلها على البحث عن السعادة؟ أم على طلب الحقيقة؟ أم على تعزيز كرامتنا الكيانية الأخلاقية؟ يمكننا أن نوجز هذه الأسئلة بسؤالٍ أساسي: هل تستحق السعادة التي نتوق إليها أن نجعل الحقيقة تخضع لرؤيتنا الخاصة وتفسيرنا المرتبط بقرائن معاناتنا الحياتية؟ أصل هذا الاستفسار النظرُ في أحقية التفضيل بين السعادة والحقيقة. ذلك بأن السعادة الحق تفترض فهماً دقيقاً يغوص على معاني الحقيقة ويتدبر ارتباطاتها الوثيقة باختبارات الحياة الإنسانية.
السعادة غاية الحياة
في أغلب الأحيان يشعر الإنسان بأن السعادة أعظمُ هبات الحياة الإنسانية. يذكرنا أرسطو (384 ق.م.-322 ق.م.) في الكتاب الذي أهداه إلى ابنه نيقوماخوس أن السعادة غايةُ أعمالنا كلها، وأن كل ما نقوم به إنما هو وسيلةٌ من أجل بلوغها والتمتع بها. ذلك بأنها وحدها تستحق أن تكون غايةَ ذاتها. فالإنسان لا يرغب في السعادة من أجل بلوغ أمرٍ آخر. لا يجوز أن تتحول السعادةُ إلى وسيلة. الأصح أن نعاين فيها الخير الإنساني الأعظم الذي يمنح وجودَنا معناه الحق ويجعلنا نفضله على كل غاية أخرى.
إذا كانت الحقيقة صعبة المنال بسببٍ من غموض الواقع وتعارض الآراء ونسبانية المذاهب، فإن الإنسان لا يجوز له أن يفني حياتَه القصيرة في البحث عن حقيقةٍ لا يستطيع الإمساك بها. من الحكمة، والحال هذه، أن نصرف جهدنا في البحث عن مثالٍ نستطيع بلوغه، بحسب ما كان يذهب إليه الفيلسوف اليوناني إبيقورُس (342 ق.م.-270 ق.م.) الذي كشف لنا أن السعادة سهلةُ المنال إذا تعلمنا أن نُصغي إلى صوت الطبيعة. لسنا بحاجة إلى قرونٍ من البحث لكي نتلمس سبيلَ الحقيقة، إذ إن كل فردٍ يمكنه أن ينعم بها، لا سيما حين يدرك أن غاية الحقيقة أن نحيا في هدوء النفس وسكينة الوجدان وصفاء الوعي.
ومن ثم، ينبغي لنا أن نسأل: كيف يمكننا أن نطبق هذه النظرية في حياتنا اليومية؟ في أغلب الأحيان، يجوز لنا أن نعارض الحقيقة أو أن نحجبها رأفةً بالناس الذين لا يستطيعون أن يتحملوا آثارها. إذا أردنا إسعادهم، وَجب علينا أن نراعي ما يمكنهم أن يحتملوه من تجليات الحقيقة في حياتهم. حين ينطوي حَجبُ الحقيقة على مقصدِ إسعاد الآخرين، من غير أن يفترض سوء النية أو أنانية المنفعة، فإن مسلكنا هذا أخلاقي في وجهٍ من الوجوه، يجعل الحقيقة خاضعةً لمقتضيات إسعاد الإنسان.
الحقيقة أرفعُ مراتب التطلب الإنساني
بيد أن الإنسان ليس كائن السعادة فحسب، بل كذلك كائنُ التبصر العقلي والتدبر الوجداني. في كتاب "أسُس ميتافيزياء الأخلاق" (Grundlegung zur Metaphysik der Sitten)، يبين لنا الفيلسوف الألماني كانط (1724-1804) أن طلب السعادة ليس مقتصراً على الكائن البشري، بل تشاركه فيه الكائنات الحيوانية، إذ إن الطبيعة تدفع بجميع الكائنات الحية إلى تلبية رغباتها وإرضاء أهوائها. من نتائج هذه المقارنة أن الكائنات الحيوانية تنعم بقسطٍ أوفر من السعادة، إذ إنها لا ترتبك بمسائل البحث عن سبُل السعادة، في حين أن الإنسان الذي يستشير وعيَه يحتار حيرةً عظيمةً في اختيار سبيل السعادة الأنسب. فالوعي يجعلنا نعاني معاناةً عظيمةً قبل أن ندرك معنى حياتنا. ومن ثم، يجوز لنا أن ننظر في الوعي نظرتنا في محنةٍ وجوديةٍ شديدةٍ ابتُلينا بها حتى نستطيع أن نمحص الأمور، ونتفحص الإمكانات، ونزن حقائق الحياة بميزان الاستقامة.
وعليه، تفقد الحياة بساطتها حين تخضع لمتطلبات الوعي وعمليات التفحص العقلي. قد يكون في هذا الأمر دليلٌ على أن وجود الإنسان ليس أمراً بديهياً، وعلى أن السعادة ليست غاية الإنسان الوحيدة. ذلك بأن انفطارنا على الوعي العاقل يجعلنا نُعيد النظر في أولويات الحياة. العقل دليلٌ على أن غاية الإنسان العاقل المعرفةُ الصحيحةُ والفكرُ الصائبُ. ليس للإنسان من غايةٍ أشرف من تلك التي تحثه على التفكر في ذاته وتصور مساره التاريخي في هيئة التراكم المعرفي البناء الذي يتيح للأجيال المتعاقبة أن تزين الحياة بأصدق التصورات المعرفية الخلاصية. في هذا السياق، ينبهنا فرويد (1856-1939) إلى ضرورة اجتناب الأوهام القاتلة التي تجعلنا نفضل السعادة المزيفة على الحقيقة الصعبة. غالباً ما يعاند الإنسانُ حقائقَ العلم لأنها تعارض مضامين الأوهام المضللة التي يستأنس بها ويرتاح إلى تصديقها. أصلُ هذه المعاندة أن الوهم أعذبُ من الحقيقة في وعي الإنسان الطفولي. أما إذا أرادت البشرية أن تنضج وتنمو وتتقدم، فلا بد لها من أن تضحي بالأوهام الفارغة المبهجة وتعتصم بالحقائق الأصيلة الهادية.
من يحدد لنا سبيل السعادة؟
وعلاوةً على هذا كله، ينبغي ألا ننسى أن الحياة الإنسانية لا تستقيم إلا إذا انعقدت على غايةٍ أخلاقيةٍ رفيعةٍ. فما نفع الإنسان إذا فاز بجميع المعارف وأصاب كل أصناف السعادة ما دامت حياتُه خاضعةً لأهواء الأنانية وغرائز المنفعة الذاتية ونوازع المشاجرات المهلكة ومكائد الاحتراب الفتاك؟ كانط نفسه يحثنا على استخدام عقلنا من أجل استجلاء طبيعة الخير الأسمى الذي ينبغي أن نستهدي به في حياتنا. ذلك بأن الوجود الإنساني مفطورٌ على غايةٍ أخلاقيةٍ ساميةٍ تستوجب منا أن نحيا حياةً خاضعةً لمثال الخير الأسمى هذا. لا شك في أن مثل الغاية الشريفة هذه توافق طبيعتنا العقلية. بيد أن العقل لا يستطيع، بحسب كانط، أن يحدد لنا تحديداً جلياً طرائق الاستحصال على السعادة. وظيفته الوحيدة التي تليق به تجعله قادراً على إرشادنا إلى طريق الواجب.
إذا استشرنا عقلنا في مسألة المسلك الذي ينبغي أن نسلكه في جميع أوضاع حياتنا اليومية، أتى الجواب واضحاً وضوحَ الشمس: ينبغي أن نسلك مسلكاً يحترم الأمر الأخلاقي القطعي الذي يُملي على الجميع ثلاثة مبادئ: أن يتصرفوا وفق قاعدةٍ أخلاقيةٍ تَصلح في جميع الأحوال ناموساً إنسانياً كونياً عاماً؛ أن يعاملوا الإنسانية جمعاء في شخصهم وفي شخص الآخرين بوصفها غايةً مطلقةً بحد ذاتها، لا مجرد وسيلةٍ من الوسائل؛ أن يتصرفوا تصرفَ الإنسان المشرع والإنسان الخاضع للشريعة العقلية هذه في ملكوت الإرادات الحرة العاقلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذا عدنا إلى مسألة الكذب، اتضح لنا أن هذا المسلك لا يصلح قاعدةً كونيةً في جميع الأحوال والأوضاع. لا يجوز لنا أن نعتمد الكذب مبدأً عاماً في جميع معاملاتنا وتصرفاتنا. حين نستفسر عن أفضل السبُل التي ينبغي أن ننتهجها في معاملة الآخرين، لا يجوز لنا أن نحصر نظرَنا في مسألة إسعادهم وحسب. ما يطلبه الآخرون منا إنما هو الصدق المطلق. أما سعادتهم فمسألةٌ تتعلق بهم أولاً وأخيراً. ذلك بأن النفاق أبشعُ ما يصدم الآخرين في تصرفنا.
الحقيقة والسعادة صنوان لا يفترقان
استناداً إلى هذا كله، يتضح لنا أن الإنسان لا يجوز له أن يفاضل بين الحقيقة والسعادة، إذ إن شرط السعادة الأول والأخير الحقيقةُ الصريحةُ البلوريةُ الجريئةُ المنقذةُ. لا يمكننا أن نختبر السعادة اختباراً سليماً إذا كنا نفهم الواقع الإنساني فهماً خاطئاً أو ملتبساً أو منحرفاً. حين نفقد ارتباطنا السليم بواقع الحياة، لا يمكننا أن نسعد سعادةً بناءةً. غالباً ما نبتهج بوهمٍ من الأوهام قبل أن نعود إلى مرارة الواقع الذي يستولد فينا شعوراً أليماً بالخيبة التي تنشأ من التضليل الذاتي. ذلك بأن الإنسان لا يطيق الكذب على نفسه، ولو أنه يتقن فن الاحتيال على الآخرين. أنصعُ الحقائق تلك التي تتجلى وتَسطع في منارة الوعي المنكفئ على ذاته.
ومع ذلك، لا يجوز أن نضحي بالسعادة، وحجتنا في ذلك أن الحقيقة تتوجس شراً من منطق الابتهاج الكياني. بخلاف ذلك كله، من الضروري أن ننظر في سبُل التوفيق بين الاعتصام بالحقيقة والفوز بالسعادة. من أرقى ضروب الرضا الكياني أن يَنعم الإنسانُ بتصورٍ معرفي سليمٍ يجعله يدرك جوهر الحقائق الإنسانية السامية. غبطة العارفين لا تُقاس بمتعة الملذات الوهمية العابرة. ذلك بأن الحقيقة وحدها تجعلنا نستحق اختبار السعادة. لا يكون الإنسان أهلاً للسعادة الحق إلا إذا سلك مسلكاً عادلاً فاضلاً. غير أن طلب الخير الأسمى لا يضمن لنا أن نختبر السعادة في جميع الأوضاع. بعض الأفعال الشريفة تؤلمنا وتؤلم الآخرين. أما حين نعتصم بالحقيقة على رغم جميع الإغراءات والتضليلات والتوهيمات، فإننا نشعر في أعماق كياننا بأننا حققنا جوهر دعوتنا الإنسانية. في صميم هذا الشعور تكمن السعادة الإنسانية الحق. وعليه، لا يليق بنا أن نطلب السعادة خلافاً لأصول التفكير العقلي السليم.
خلاصة القول إن أفضل سبُل التربية تلقينُ النشء الصاعد فن التوفيق بين مقتضى الحقيقة ومسعى السعادة. لا يجوز أن يُصر الأهلُ على إسعاد أبنائهم مهما كلف الأمر من مخالفةٍ صريحةٍ لأصول المعرفة العقلية السليمة. ليست الحياة حديقةً غناء يتمتع في أرجائها الأطفالُ بأصنافٍ شتى من الملذات، بل معتركٌ صعبٌ يتطلب التأهب والفطنة والحكمة في إدراك حقائق الطبيعة الخارجية والداخلية. إذا أوهمنا أطفالَنا بالقدرة على اقتناص السعادة العابرة، حَكمنا عليهم بالبؤس والشقاء حين تكشف لهم الحياة عن وجهها الحق. لذلك يجب علينا، منذ زمن تفتح وعيهم الأول، أن نبين لهم أن الواقع الإنساني ينطوي على حقائق لا تُبهجهم على قدر ما تكشف لهم إمكانات النضج النفسي والنمو الكياني. حين يتعلمون أن يفرحوا بما يحرزونه من معرفةٍ سليمةٍ، يمكننا أن نطمئن إلى سلوكهم سبيلَ السعادة.