ملخص
قصة لوحة رقبة القديس يوحنا المعمدان قطعت أواصر العلاقة بين الرسام الإيطالي بيلليني والسلطان محمد الفاتح في القسطنطينية، فماذا حدث؟
يخبرنا تاريخ الفن، لا سيما في القرون الأخيرة من عصر السلطنة العثمانية، كيف أن عدداً كبيراً من الرسامين والمعماريين والفنانين الأوروبيين، بينهم الإيطاليون، توجهوا إلى القسطنطينية في حقبة من حياة كل منهم ليحققوا لوحات وعمراناً وشتى الأعمال الفنية التي كانت تبهر السلاطين العثمانيين، وحتى رعاياهم وتؤمن للمبدعين ثروات طائلة يعودون بها إلى بلادهم تصنفهم من بين الأثرياء.
ولئن كان التاريخ قد محا أسماء عديد من أولئك الفنانين، فإن أسماء أعداد لا بأس بها منهم بقيت محفورة في سجلات ذلك التاريخ، بينها أسماء لفنانين كبار كانوا معروفين على أية حال قبل "مغامراتهم" التركية، بالتالي لم يحسبوا أبداً من المستشرقين الذين بنيت شهرتهم وحازوا مكانتهم في عاصمة الخلافة العثمانية، ثم لاحقاً في أرجاء تلك الإمبراطورية.
ولعل الأشهر بين أولئك الرسامين يبقى الفنان النهضوي جنتيلي بيلليني الذي كان واحداً من الرعيل الأول من الفنانين الإيطاليين الذين عملوا لفترة في القسطنطينية، بل إنه توجه إليها قادماً من موطنه في البندقية استجابة بالتحديد لطلب السلطان محمد الفاتح الذي كان، وبعد أن استتبت سلطته، وبدأ قدر كبير من الازدهار ينتشر في دياره، قد رأى أن الوقت بات ملائماً كي يضفي لمسات فنية أوروبية الهوى على مملكته فكانت تلك الدعوة التي استجاب لها جنتيلي، لكنه لن يبقى في الديار العثمانية طويلاً. والأسباب ستبدو هنا حين نصل إليها غريبة.
اختيار السلطات الموفق
قبل عرض تلك الأسباب يجدر بنا أن نذكر أن السلطان محمد الفاتح لم يكن قبل "استدعائه" جنتيلي قد سمع باسمه أو عرف عنه شيئاً. كل ما في الأمر أن علاقته الحميمة بسلطات "جمهورية البندقية" والتبادلات التجارية بينه وبينها، كانت تدفعه بين الحين والآخر إلى أن يطلب منها مده بالخبراء والمبدعين في كافة المجالات، هو الذي كان منفتحاً على التطورات الفنية والعمرانية الأوروبية بصورة عامة كما كان راغباً في توفير ضروب حداثة في عاصمة إمبراطوريته كان يشعر بأنها باتت متوافرة في إيطاليا، لا سيما بالبندقية في ذلك الحين، تحديداً في قلب النصف الثاني من القرن الخامس عشر.
ومن هنا توجه في عام 1479 تحديداً إلى السلطات البندقية الحليفة سائلاً إياها أن تنتدب له رساماً ماهراً قادراً بشكل خاص على رسم "بورتريهات" له، وحتى لغيره من كبار أعيان الدولة ورجالاتها، بالنظر إلى أن السلطان كان يعرف أن ثمة في الممارسات الإسلامية محظورات وموانع تمنع أي رسام مسلم من إنتاج لوحات تمثل بشراً. ولما كانت سلطات البندقية ترغب في "تبييض وجهها" مع السلطان الكبير والحليف اختارت أن ترسل إليه رسامها الكبير في ذلك الحين جنتيلي بلليني (1429 – 1507) الذي كان، ولا يزال يعد حتى اليوم واحداً من مؤسسي تيارات الرسم الإنساني والنهضوي هو وأخوه الأصغر جيوفاني بلليني (1430 – 1516)، بل كانا يعتبران رائدين كبيرين في تعليم وإعداد الأجيال الأولى من الرسامين النهضويين في محترفهما الذي مرت عليه الأسماء الكبرى في عالم الرسم الإيطالي.
شروط فنان
والحقيقة أن جنتيلي بلليني كان من النجاح في عمله إلى درجة أنه لم يتحمس للسفر إلى الديار العثمانية ولا للعمل تحت إشراف محمد الفاتح. ومن هنا ما ترويه الحكاية من أنه بدلاً من أن يرفض القيام بتلك "السفارة الفنية" رفضاً مباشراً، وضع شروطاً عديدة كان واثقاً من أن سلطات بلاده لن توافق عليها، وطلب من سلطات القسطنطينية مبالغ طائلة كان أيضاً يتمنى أن تجدها هذه باهظة فتطلب غيره، لكن مفاجأته كانت كبيرة حين وافق المعنيون في البلدين على شروطه. وبخاصة منهما سلطات البندقية التي وافقت دون تردد على ما طلبه من أن يعهد إلى أخيه جيوفاني بمشروع كبير كان هو قد اختير لتنفيذه أول الأمر، كما على طلبات أخرى له لا تقل عن ذلك أهمية، ومنها بخاصة أن يتم تعيين أخيه جيوفاني أيضاً ككفيل في "فنداكو دي تديسكي" الذي كان مركز تجمع التجار الألمان المتعاملين مع تجار البندقية والربط بين الفريقين، ما أمن له دخلاً ثابتاً مدى حياته.
وهكذا لم يعد في وسع جنتيلي أن يرفض، وتوجه إلى القسطنطينة التي كانت تعد على أية حال "عاصمة العالم الحضارية" في ذلك الحين. ويقيناً أنه لم يندم على توجهه إليها، ولكن في البداية فقط ولمدة لم تزد على عام سيعود بعدها إلى بلاده مهرولاً مرتعباً كما سنرى بعد سطور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استقبال يليق بالكبار
الحقيقة أن محمد الفاتح وبطانته خصوا الفنان البندقي باستقبال حافل يليق بمكانته الفنية الكبيرة التي كانت قد تناهت إليهم أخبارها في ذلك الحين، بل إن محمد الفاتح سيعتني به شخصياً كما سيقول جنتيلي لاحقاً لأصدقائه واصفاً السلطان بالعاهل المتنور والمنفتح على الفنون وعلى العالم، بل إن جنتيلي سيلمس بنفسه ما يتحلى به السلطان من "ذكاء" و"ذائقة فنية"، إضافة إلى ما يتمتع به من تلك المزايا "التي تطبع مجمل الطغاة الشرقيين جاعلة منهم راغبين في أن يعلنوا أنفسهم حماة للفنون والآداب منفقين بكل سخاء على أهل الإبداع".
والواقع أن محمد الفاتح لم يبخل على رسامه الجديد، والذي شرع من فوره في تصويره في بورتريهات لا تزال حتى اليوم تعد نموذجية في هذا المضمار ومن شأنها أن تثير حسد نظرائه في كثير من البلدان. ولسوف يتكلم جنتيلي لاحقاً بإسهاب عن إعجاب السلطان بلوحاته التي تلمس بنفسه ما قاله عن "تميزها عن تلك البورتريهات البيزنطية القديمة المنمقة والمصطنعة، والتي حققها رسامون سبقوا جنتيلي لسلاطين وسياسيين آخرين"، ولم يكن الإعجاب لفظياً نظرياً على أية حال، بل كان عملياً أيضاً إذ راح السلطان يغدق على الفنان أموالاً طائلة كانت غالباً ما تتجاوز ما كان قد وُعد به، بل أمله. وإذا كان الأمر كذلك، لمَ لم ينقض عام على تلك "السفارة" التي كان متوقعاً لها أن تدوم سنوات، حتى قفل الفنان عائداً إلى بلاده على الحال التي وصفناها أعلاه؟
ضربة سيف فنية
بكل بساطة كان السبب لوحة رسم فيها الفنان مشهد قطع رأس القديس يوحنا المعمدان. فالفنان بعد أن أنجز تلك اللوحة التي أراد منها أن تكون نزوة يتفكه مع السلطان بصددها، فوجئ بالأخير ينظر إلى اللوحة بإمعان، ثم يعلق عليها بـ"خبرة فنية وجد نفسه يريد التعبير عنها أمام هذا الفنان الذي أضحى صديقاً له"، قائلاً إنه يعتقد أن قطع رقبة يوحنا أطول كثيراً مما يحتاج الأمر فـ"الرؤوس لا تقطع عادة على تلك الشاكلة".
والحقيقة أنه لو اكتفى السلطان بإبداء رأيه على هذا النحو لمرت الأمور بسلام، لكن الذي حدث عند ذلك هو أن السلطان أراد أن يقرن القول بالفعل، فاستدعى عبداً من عبيده وامتشق بسرعة البرق سيفاً بتاراً انقض به على رقبة العبد يقطعها قائلاً لجنتيلي، هكذا يكون قطع الرؤوس عادة، وهكذا يجب أن ترسم الرأس المقطوعة عند الرقبة.
ويمكننا هنا أن نتخيل المشهد والرعب الذي ارتسم لدى جنتيلي بلليني بدلاً من انبهاره بحصافة الرأي "الفني" الذي توخى السلطان التعبير عنه. تقول الحكاية إن جنتيلي اتخذ في تلك الليلة بالذات قراره بتقصير إقامته في القسطنطينية والعودة إلى البندقية. وطبعاً دون أن يفصح لصاحب الجلالة عن الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى ذلك. ويقيناً أن الرسام اكتفى حينها بذكر أسباب واهية، بل إنه ظل ساكتاً عن تلك الحكاية لا يرويها لأحد حتى أيامه الأخيرة، وربما ليس لخوفه من السلطان، فهو بقي يكنّ له خالص الود ويذكره بكل خير، ولكن لأن الحكاية ظلت تبدو له أغرب من أن تُصدَّق.