لم يكن للسينما وجود يومها، ولم تكن الصورة قد ولدت لا ملونة ولا بالأسود والأبيض، لا عريضة ولا ضيقة، لكن المخيلة الفنية والحكايات التاريخية كانت موجودة، وكذلك كانت جدران الكاتدرائيات والقصور مستعدة لاستقبال ما ينتج من ذلك كله.
وكان الفنانون الكبار حاضرين على استعداد بمواهبهم العظيمة وخطوطهم وألوانهم التي لا يفنى معظمها عبر عاديات الدهر في متناول اليد.
ولئن كان تحقيق ذلك كله يحتاج إلى أموال تصرف عليه وغالباً بسخاء، فها هي السلطات الكنسية جاهزة للدفع وكذلك أصحاب القصور، سواء كانوا ملوكاً أم حكاماً أقل منهم شأناً أو من أعيان القوم، ولعل في مقدورنا هنا أن نقول مع مؤرخ النهضة الإيطالية يعقوب بوركهارت إن الفن الكبير ولد من رحم تلك التوليفة، ومع جورجيو فازاري أن تلك التوليفة ما كان يمكنها إلا أن تولد الفنانين الكبار، إذ راح كل جيل يلد ما بعده وكل فرد يورث فنه إلى الموهوبين من مريديه. ولا شك في أن الفنان الكبير فيروكيو كان علامة كبيرة في ذلك المسار، حتى وإن كنا لا نعرف عنه الكثير، وهو أمر اعترف به فازاري في كتابه العمدة عن "حياة الفنانين".
تلميذ آل بلليني
كل ما نعرف إذن عن ذلك الفنان المؤسس الذي سيطالعنا اسمه وذكره في التأريخ لعدد لا بأس به من رسامين مجايلين له أو تالين، أن اسمه الكامل هو فيتوريو كارباتشيو، وأنه ولد في البندقية أو انتقل إليها صغيراً، وعاش بين عامي 1465 و1525 أو 1526.
أما عن تدربه على فن الرسم فليست لدينا معلومات كافية، وإن كان من المفترض، تبعاً لدارسي لوحاته وأساليبه، أنه ترعرع في أحضان عائلة بيلليني آخذاً عن قطبها جنتيلي، لكنه تأثر لاحقاً بأكثر أبناء العائلة موهبة، جيوفاني، كما تفيدنا بخاصة لوحات عدة له أشهرها "تأمل حول آلام المسيح" المملوكة اليوم لمتحف "المتروبوليتان" النيويوركي.
وفي المقابل قد يفيدنا تأملنا مثلاً للوحته "معجزة جسر ريالتو" بأن البعد الهندسي في رسمه ينتمي إلى أساليب عرفت عن أنطونيلو دا ماسينا أو بيروجينو.
وبشكل عام يقول لنا فازاري إن من خصائص فن كارباتشيو تمكنه من التصدي لكل التحديات الفنية التي جابهته بمهارة وفرادة جعلتاه معلماً لا ينافسه أحد في زمنه، ويبقى هنا أن الإنجاز الرئيس لكاراباتشيو إنما تمثل في تلك اللوحات الضخمة الثماني التي ترجم بها المشاهد الرئيسة من حكاية القديسة أورسولا لحساب الكنيسة المعروفة باسم "القديسين جيوفاني وباولو" وتحديداً لجدران مدرسة ملحقة بالكنيسة في البندقية كانت تعرف تحت باسم "لا سكوالا دي سانت أورسولا"، لكنها تعرف اليوم بـ"غاليريا الأكاديمية"، علماً أن عدداً من تلك اللوحات بات منذ زمن موزعاً بين مدن عدة في إيطاليا وخارجها.
من الأسطورة الذهبية
رسم كارباتشيو هذه اللوحات بين عامي 1490 و1496. وهو يتابع فيها استناداً إلى كتاب "الأسطورة الذهبية" لجاك دي فوراجين حكاية تلك القديسة المسيحية ذات الأصول الإنجليزية، التي رغبت يوماً في تعميد خطيبها الأمير إيريو كاثوليكيا فتوجهت به إلى روما وبرفقتهما 11 ألف عذراء في نوع من احتفال صاخب.
ولقد تمكن الوفد يومها من الوصول إلى عاصمة "الكثلكة" على الرغم من تحذيرات فجائعية وصلتهما من طريق أحلام كابوسية تحذرهما من شر مستطير. وفي روما تولى مهمة التعميد البابا سيرياك. وحين انتهى الاحتفال وفيما الوفد يغادر روما عائداً إلى دياره هاجمته عصابات الهون بالقرب من كولونا، وذبحت كل أفراده من دون شفقة أو رحمة، لتكون تلك واحدة من أقسى المذابح التي تعرض لها قديسون ومؤمنون.
كان رسم مشاهد متنوعة تعبر عن تلك الحكاية هو ما طلبت هيئة الكنيسة من كارباتشو تحقيقه، وقد استجاب للطلب من دون تأخير، شارعاً من فوره في تحقيق الرسوم واحداً تلو الآخر على لوحات قماش بالغة الضخامة مقاساتها 365 في 389 سنتيمتراً، و280 في 681 سنتيمتراً للوحة الواحدة، مما يجعل مجموع قياس اللوحات معاً لا يقل عن 120 متراً مربعاً لموضوع واحد، وهو ما كان من شأنه أن يعتبر رقماً قياسياً على مدى الأزمان إلى جانب لوحة "الخليقة" لمايكل أنجلو وسلسلة لوحات روبنز عن ماريا دي مديتشي.
غير أن اللافت في هذا العمل الجبار هو أن كارباتشيو لم يتبع في رسم اللوحات نظاماً مرتباً زمنياً بل انطلق كما شاء له الهوى فرسم أولاً خلال العامين 1490 و1491 لوحتين هما "الوصول إلى كولونا" ثم "اللقاء مع البابا سيرياك في روما"، وقد انتظر عامين بعد ذلك قبل أن يرسم لوحة ثالثة، ثم العام 1495 لينجز تلك التي ستصبح من أشهر لوحات المجموعة "انطلاق الخطيبين"، والتي تعتبر واحدة من اللوحات التي عرفت كيف تمجد عمران المدينة وقد بات ديكوراً هائلاً لاجتماع كبار الأعيان ورجال الدولة ونسائها في أزهى الحلل احتفالاً بمبارحة الوفد والخطيبين.
والحقيقة أن مؤرخي الفن لا يبدون بعيدين من الصواب حين يرون في هذه اللوحة أروع تكريم فني حظيت به روما في تاريخها، ويكاد يكون نموذجاً أولياً لتلك اللوحات التي ستمجد مدينة البندقية لاحقاً بريشة كاناليتو أو غاودي، إذ يتجاور البشر مع الحجر في بوتقة فنية واحدة تصطخب بالحياة. وهنا في هذه اللوحة تحديداً، كما في كل لوحات المجموعة على أية حال، لدينا الشيء ذاته. ذلك الاحتفال بروعة المدينة وتعلق أبنائها بها ودهشة الزوار أمام ما يفتنهم فيها من مشاهد.
منمنمات ضخمة
ولئن كان كثير من مؤرخي الفن قد رأوا في هذه اللوحة بالذات تأثيرات أتى بها فن كارباتشيو من أساليب عرفت عن جنتيلي بلليني في تعامله مع لعبة التأطير وواقعية الألوان والإخراج المسرحي، فمما لا شك فيه أن كارباتشيو تفوق هنا في مناح كثيرة على "معلمه"، حتى وإن كان في مقدورنا أن نقول إن مجموع اللوحات يبدو أقرب إلى فن المنمنمات المكبر إلى درجة مدهشة منه إلى فن الجدرايات، بخاصة من جراء استخدام تلويني يوصف منذ كارباتشيو بالبلوري (الكريستالي) نسبة إلى صفاء البلور، وهو ما لا يتوافر عادة في الرسوم الجدرانية الكبرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل هذا التلوين هو ما يجعلنا بصدد الحديث عن الفن الطاغي على هذه اللوحات، وهو فن الشرائط المصورة. ولنلاحظ هنا على أية حال أن التلوين الجامع بين اللوحات هو الذي يعطيها الجزء الأساس من وحدتها الشكلية في مقابل تسلسل الحكاية الذي يوفر للمجموعة وحدة الموضوع.
ومما لا شك فيه أن لوحات كارباتشيو هذه تكاد تكون الممهد الأبرز للوحات البندقي تنتريللو والإرهاص كذلك بنتاج فيرونيزي.
رزانة إنجليزية
وإلى ذلك كله، قد يكون علينا أن نضيف بعداً اجتماعياً يكاد يكون إنثروبولوجياً تحمله ثلاث لوحات ستعرف بأنها كانت آخر ما رسمه كارباتشيو من لوحات المجموعة، وله علاقة ما بالأخلاق الإنجليزية وعادات الإنجليز الاجتماعية، بخاصة عند أعلى مستويات السلم الاجتماعي، وهذه اللوحات هي تباعاً "وصول السفراء إلى بلاط بريتاني ومقاطعة الغرب الفرنسي" و"رحيل السفراء" وأخيراً "العودة إلى إنجلترا". ففي هذه اللوحات الثلاث عرف الرسام كيف يخلق تضافراً ملهماً بين جمال المكان الذي يدور فيه الحدث ورزانة شخصيات اللوحة وكياستهم بدءاً من الأناقة المتحفظة لملابسهم وصولاً إلى الوضعية التي يتخذها كل واحد منهم في المشهد العام.
في هذه اللوحات الثلاث لا يفوت كارباتشيو التوقف عند أدق التفاصيل والعلاقة بين الشخوص ونظرات الترقب في عيونهم على خلفية إبراز بديع للبيئة المدينية، وهذا من دون أن ننسى أخيراً تلك اللوحات القاسية والعنيفة التي تصور مشاهد استشهاد أورسولا وصحبها، إذ تترك الرزانة والجمال المطلق المكان للعنف والموت والدم في فوضى ما كان يمكن لمن تفرس في اللوحات الأخرى أن يخمن وجودها متربصة بأولئك المؤمنين، ولعل هذا التفاوت يقدر وحده على تصوير الفاجعة المطلقة في تناقضها مع الاحتفال الأجمل.