ملخص
أنشئ المجمع الكيماوي خلال سبعينيات القرن الماضي في منطقة متاخمة لخليج قابس، ويحوي وحدات تعمل على تحويل الفوسفات إلى حمض فوسفوري
في ولاية قابس الواقعة جنوب شرقي تونس، تواجه الثروة الحيوانية كما الناس مصيراً يكتنفه كثير من الغموض في ظل الأمراض التي تسببها انبعاثات المجمع الكيماوي والمعامل الصناعية في المنطقة، وهو أمر لطالما ندد به الأهالي.
واستغل أهالي قابس ونشطاء بيئيون الاحتفال باليوم العالمي للبيئة للتذكير بالوضع الصعب الذي تشهده المدينة وخليجها، إذ نظموا احتجاجاً وصفوا فيه استمرار نشاط المجمع الكيماوي المتسبب الرئيس في التلوث بـ "الجريمة والإرهاب البيئي"، داعين إلى إيجاد حلول لهذا الوضع.
الوضع البيئي
وكان وزير البيئة التونسي السابق نجيب درويش قد أعلن تشكيل لجنة تهتم بالوضع البيئي في قابس لافتاً إلى أنها "ستضم مكونات من المجتمع المدني وممثلين عن المجمع الكيميائي للتفاوض حول تركيز مصب جديد للفوسفوجيبس".
حمض فوسفوري
وأنشئ المجمع الكيماوي المذكور خلال سبعينيات القرن الماضي في منطقة متاخمة لخليج قابس، وتعمل وحدات في المجمع على تحويل الفوسفات إلى حمض فوسفوري.
وتفرز هذه الوحدات غازات ملوثة قادت إلى حوادث مثيرة على غرار اختناق عدد من الأهالي عام 2019، علاوة على أن البحر في قابس لم يعد صالحاً للسباحة أو غير ذلك.
جريمة بيئية
وتلفظ شواطئ قابس باستمرار أسماكاً وسلاحف بحرية وحيوانات نافقة جراء التلوث، مما دفع الأهالي إلى دق ناقوس الخطر تجاه ما وصفوه بـ "اختلال التنوع البيولوجي" الذي كان إلى أمد غير بعيد يميز المدينة عن غيرها.
وشهد عام 2018 نفوق أعداد كبيرة من الأسماك مما دفع المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار الحكومي إلى القول إن "هلاك الأسماك ناتج من طحالب مجهرية سامة، بسبب نسب ملحوظة من مادة الفوسفور وأملاح الأمونيوم، تزامناً مع ارتفاع درجات الحرارة وتساقط الأمطار".
ولم يسلم من الأبخرة والغازات الكيماوية أهالي المدينة، إذ سببت لهم أمراضاً خطرة مثل السرطان والربو وغيرهما، مما أدى إلى وفاة كثيرين في ظل الخدمات الصحية المتردية التي لا يمكنها مجابهة هذه الأمراض.
وقال الناشط في إحدى الحملات الهادفة إلى التصدي للتلوث الناجم عن الأنشطة الصناعية في قابس خير الدين دبية، إن "ظاهرة نفوق الأسماك والسلاحف البحرية أصبحت ظاهرة يومية، وخليج قابس قبل نشوء المجمع الكيماوي التونسي كان يمثل محضنة المتوسط للأسماك الصغيرة والمتوسطة، إذ يتميز بتنوع بيولوجي كبير نظراً إلى عمق المياه الذي لا يتجاوز 40 متراً، وحتى درجة الحرارة فيه الملائمة للطحالب البحرية التي كان يبلغ عددها ستة في السابق، وهو المكان الوحيد في المتوسط الذي فيه هذا العدد، فالأسماك تجد المرعى وأيضاً مكاناً مناسباً لتبيض، ولذلك فهي منطقة يكثر فيها التناسل".
وتابع دبية قائلاً "كان هناك أكثر من 300 نوع من الأسماك في المنطقة، لكن اليوم يوجد فيها أقل من 20 نوعاً مما يعني خسارة أكثر من 93 في المئة من التنوع البيولوجي، وهناك أنواع بحرية انقرضت من خليج قابس وحتى ما تبقى منها مثل السلاحف والدلافين بصدد النفوق، كما سجلنا خروج دلافين إثر نفوقها".
ولفت إلى أن "الطيور المهاجرة أيضاً وجدناها نافقة في الشط المسموم بسبب التلوث، وما يحدث جريمة بالنظر إلى نسب التلوث وانبعاث الغازات العالية، مما سبب أمراضاً خطرة وخصوصاً في الأحياء المجاورة لخليج قابس، مثل منطقة غنوش وشط السلام وبقية المناطق".
وشدد المتحدث على أن "الوضع سبب للناس مشكلات تنفسية وسرطانات، وعلى رغم التحركات الكبيرة من قبل السلطات، وآخرها إغلاق المنطقة الصناعية والإنتاج، غير أنها لم تمض في الحل الذي توصلنا إليه والمتمثل في تفكيك الوحدات الملوثة في المجمع الكيماوي".
ونادراً ما تعلق السلطات على الوضع في المدينة، لكنها وعدت مراراً بإيجاد حل ينهي الأزمة البيئية التي تشهدها، لكن من دون أن يتم إحراز تقدم حتى الآن.
حسابات اقتصادية
وعلى رغم الدعوات المتصاعدة والتحركات التي وصلت حد إغلاق موقع الإنتاج في المنطقة الصناعية بقابس، إلا أن السلطات التونسية لم تغلق المجمع الكيماوي أو في الأقل الوحدات المتسببة في التلوث، مما أثار تساؤلات حول الأسباب الكامنة خلف ذلك.
ويربط مراقبون ذلك بخشية السلطات من الكلفة الاقتصادية التي ستنجم عن أية خطوة في هذا الاتجاه، وإمكان فقدان كثيرين وظائفهم، خصوصاً أن المجمع يوفر57 في المئة من إنتاج تونس للحمض الفسفوري الذي يتم استخدامه كمانع للأكسدة في المخابز والصناعات المعدنية وصناعة المياه الغازية ومواد التنظيف والأسمدة.
ويعد الفوسفات من أهم الموارد التي تعول عليها السلطات في تونس لتعبئة موارد مالية، على رغم تراجع إنتاجه خلال الأعوام الماضية جراء الاضطرابات في الإنتاج التي تسببت فيها احتجاجات للمطالبة بوظائف أو غير ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد أن قدرت السلطات إنتاجه عام 2010 بـ 8.2 مليون طن سنوياً، فإن الفوسفات تراجع عام 2018 إلى أقل من 3 ملايين طن، مما جعل البلاد تتراجع في تصدير هذه المادة، وبالتالي تعميق الأزمة الاقتصادية التي تئن تحتها البلاد.
وفي عام 2020 قال محافظ البنك المركزي في تونس مروان العباسي إن تراجع إنتاج الفوسفات خلال الأعوام الماضية تسبب بخسائر يمكن تقديرها بحوالى 6.7 مليار دولار، وهي خسائر تسببت فيها الحركات الاحتجاجية التي تشهدها البلاد منذ انتفاضة الـ 14 من يناير (كانون الثاني) 2011.
واعتبر الخبير البيئي حمدي حشاد أن "ملف تأثيرات المجمع الكيماوي التونسي في قابس معقد، والحكومات تتعمد تجاهله لأنها تخشى خسارة هذا المشروع الاقتصادي، إذ لا يوجد بديل ينقذ المنطقة ويعوض المجمع، كما أن الحكومات المتعاقبة تعي وتدرك حجم الخراب الذي يتركه هذا التلوث الناجم عنه".
وأردف حشاد أن "الحكومات تدرك حجم مخلفاته الصحية من أمراض خطرة مثل السرطان والحساسية والأمراض التنفسية، والآثار التي دمرت خليج قابس وتنوعه الحيوي والاستقرار الإيكولوجي، لكن ما أعاد إحياء هذا الملف هو المجتمع المدني وتحركاته من دون إحراز أي تقدم".
وفي ظل معدلات البطالة المرتفعة التي تخطت حاجز الـ 16.1 في المئة في تونس هذا العام، بحسب بيانات للمعهد الوطني للإحصاء الحكومي، فمن غير الواضح ما إذا كانت السلطات ستغامر بإغلاق وحدات من المجمع بما يوفر حلاً للأزمة البيئية المتفاقمة في قابس، خصوصاً أن ذلك سيكون على حساب عشرات العاملين في هذا الموقع.
لكن السؤال الذي لطالما طرحه مراقبون يتمحور حول أسباب العجز عن إيجاد بدائل عن المجمع لتوفير مواطن شغل لشبان وأهالي المنطقة، وفيها توازن بين الاستجابة لحاجاتهم والحد من التلوث.
ولطالما اعتبرت قابس مدينة رائدة في تونس بفضل توفر بحر وصحراء وجبال فيها، وهو ما لا يتوافر في مدن أخرى، لكن هذه المقومات الطبيعية باتت اليوم على المحك بسبب مخلفات الغازات الكيماوية المنبعثة من المجمع الصناعي هناك.