ملخص
يقول أندريه كوليسنيكوف إن الكرملين يرغب في الإيحاء بأن المعركة الحقيقية التي تخوضها روسيا هي ضد الولايات المتحدة الجبارة التي تريد تدميرها وإقناع الروس بأنها السبب في استمرار الحرب لفترة طويلة
عندما تحطمت طائرتان من دون طيار على سطح الكرملين في أوائل مايو (أيار) الماضي، لم يكن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف في حاجة إلى انتظار نتيجة التحقيق لتحديد الجاني. وصرح بثقة بأن الهجوم كان من تدبير الولايات المتحدة، وليس أوكرانيا. وأوضح أن "كييف تفعل فقط ما يطلب منها القيام به". ولم تمض سوى أيام قليلة، حتى كاد الكاتب الروسي زاخار بريليبين، وهو من عتاة القوميين الروس ومؤيد صريح للحرب، يسقط ضحية عملية اغتيال بواسطة قنبلة وضعت في سيارته، فصرحت وزارة الخارجية الروسية بثقة مماثلة بأن الولايات المتحدة كانت وراء تلك الجريمة، أيضاً. كان هذا على رغم حقيقة أن الشخص الذي عُرّف على أنه المشتبه فيه الرئيس كان من الواضح أنه يعيش على هامش المجتمع الذي قاتل، مثل بريليبين، على ما يبدو جنباً إلى جنب مع الانفصاليين المدعومين من روسيا في منطقة دونباس بأوكرانيا.
هذه ليست تأكيدات عابرة طرحت بشكل عرضي. فمع تحول "العملية العسكرية الخاصة" لموسكو في أوكرانيا إلى حرب طويلة وصعبة، استدعيت الخلطة الأيديولوجية القديمة التي تغلب عليها النزعة القائلة باستثنائية روسية ومهمتها الرسولية التي باتت سلفاً الأداة المفضلة للكرملين من أجل التلاعب بالرأي العام، لتصبح نوعاً من تحديد الأساس المنطقي للنظام.
لم تعد روسيا ببساطة تركع أوكرانيا الضعيفة عديمة الجدوى التي وقعت تحت تأثير "النازيين الجدد". فوفقاً للتأطير الجديد، إن المعركة الحقيقية التي تخوضها روسيا هي ضد الولايات المتحدة الجبارة التي تريد تدميرها، في حين أن أوكرانيا، شأنها شأن الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو"، مجرد دولة تابعة مطيعة لأميركا. وتوفر مؤامرة الولايات المتحدة الشريرة بالنسبة إلى الكرملين، تفسيراً مناسباً لسبب استمرار الحرب لفترة طويلة، ولماذا أثبت بوتين أنه ليس قائداً إستراتيجياً عسكرياً عظيماً على الإطلاق. كما أنها تساعد في شرح سبب بدء الحرب في المقام الأول للروس العاديين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عند النظر إلى "العملية الخاصة" في هذا السياق، تبدو وقد تطورت من محاولة لاستعادة أراضي الإمبراطورية المفقودة إلى معركة حضارية بين قوى الخير التي تجسدها روسيا، وقوى الشر، المسماة أحياناً "الشيطانية"، وتمثلها الولايات المتحدة وحلفاؤها. وكانت هناك سلفاً أبعاد باهظة لهذه الفكرة البسيطة. توقع نيكولاي باتروشيف، وهو رئيس مجلس الأمن الروسي، في مايو، أن الأميركيين سيسعون قريباً إلى استغلال المساحات الشاسعة لروسيا لأغراض تتعلق بإعادة التوطين لأن ثوراناً وشيكاً للبركان الهائل تحت متنزه يلوستون الوطني لن يترك لهم مكاناً للعيش. (إن قيام مسؤول روسي كبير بتأييد نظرية المؤامرة السخيفة هذه دفع وسائل التواصل الاجتماعي الى إضافة حليف على القول الشهير للقيصر ألكسندر الثالث ليصبح "لدى روسيا ثلاثة حلفاء فقط، الجيش وسلاح البحرية وبركان يلوستون").
غير أن الكرملين جاد للغاية. فمن خلال التركيز على الولايات المتحدة، يستغل بوتين العقيدة التي جرى تبنيها في وقت متأخر من الحقبة الستالينية وشكلت الأساس الأيديولوجي للحرب الباردة. وهي تنص على أن الولايات المتحدة تحكم العالم وأرادت دائماً إضعافنا، هذا إن لم ترغب في تدميرنا. وبطبيعة الحال، فإن عدداً من الروس العاديين يميلون إلى عدم المبالاة أو حتى التحيز إلى جانب الولايات المتحدة، في الأقل عندما يتركون وشأنهم ولا يجري إخبارهم بخلاف ذلك من قبل الدولة الروسية. لكن كما أدرك ستالين واكتشف بوتين، فإن الدعاية المؤثرة يمكن أن تغير هذه المواقف التي يتخذها الروس العاديون.
من خلال استحضار خصم شرير وقوي، يستطيع نظام بوتين أن يخلق مبرراً جديداً لحرب ستكون كلفتها باهظة جداً واستمرت سلفاً أكثر من عام فيما يبدو من غير المرجح أن تنتهي في أي وقت قريب. إن وجود مثل هذا العدو الخارجي القوي يبرر، بطبيعة الحال، أيضاً القمع المكثف للأعداء الداخليين من المنشقين وناشطي الحقوق المدنية والمحامين والصحافيين والأساتذة وجميع "العملاء الأجانب" بأنواعهم. كان النظام الستاليني يعمل أيضاً وفق المنطق ذاته. ففي أبريل (نيسان) 1951، كتب جورج كينان في مجلة "فورين أفيرز" يقول "لا توجد مجموعة حاكمة تحب الاعتراف بأنها لا تستطيع أن تحكم شعبها إلا من خلال اعتبار أبنائه مجرمين ومعاملتهم على هذا الأساس. لهذا السبب، هناك دائماً ميل لتبرير الاضطهاد الداخلي من خلال الإشارة إلى الظلم الذي يشكل تهديداً في العالم الخارجي".
الأميركيون اللعناء
لم تكن الولايات المتحدة في الأصل بؤرة تركزت عليها الكراهية التي يكنها الروس للأجانب. فخلال الحرب العالمية الأولى، كانت ألمانيا تعتبر العدو الرئيس، وكانت مشاعر العداء لألمانيا تغذي نزعة الهستيريا الوطنية. ثم صارت فرنسا والمملكة المتحدة، في أوائل عهد الاتحاد السوفياتي، بمثابة الخصمين الرئيسين، في حين كانت الولايات المتحدة مجتمعاً رأسمالياً بعيداً ومتطوراً ولكنه بلا روح الذي يمكن استعارة التكنولوجيا والمتخصصين في الصناعة منه. وكان تحويل الولايات المتحدة إلى العدو الرئيس ظاهرة تشكلت إلى حد بعيد في مرحلة ما بعد الحرب، فحتى في ذلك الحين، كان ستالين في البداية أكثر انشغالاً، كما قال عام 1946، "باستبدال هيمنة تشرشل بهيمنة هتلر". ووسط تنامي كراهيته المرضية للإنجليز، تغاضى عن تحول أميركا إلى قوة رائدة. لكنه سرعان ما عوض عن ذلك من خلال الدعاية والقمع اللذين وظفهما عندما ظهر "الجواسيس الأنغلو-أميركيين" في الصورة.
مع ذلك كانت الأمور مختلفة بشكل كامل أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ كان الجنود والسكان السوفيات يشعرون بميل قوي إلى حلفائهم الأنغلو-أميركيين. ففي مؤتمر بوتسدام في يوليو (تموز) 1945، قدمت فرقة الرقص والغناء للجيش الأحمر اثنين من أكثر ألحان الحلفاء شهرة: أنشودة الزحف العسكري البريطانية الحماسية "إنه طريق طويل إلى تيبيراري" It’s a Long Way to Tipperary، واللحن الشعبي الأنغلو-أميركي "هناك حانة في المدينة" There’s a Tavern in the Town المعروفة في نسختها الروسية باسم "كاباتشوك" Kabachok. وسجلت هذه النسخ الروسية لاحقاً للغراموفون، وحظيت برواج كبير في الاتحاد السوفياتي جنباً إلى جنب مع الأغاني الأميركية الأخرى، مثل أغنية "كومينغ إن أيه وينغ أند أيه براير" (من دون كثير من الفرص للنجاح) Coming In a Wing and a Prayer، وهي أغنية من الحرب العالمية الثانية عن غارة قام بها الحلفاء وأديت باللغة الروسية على أنها "أغنية المغيرين". وهناك أغنية شهيرة أخرى، معروفة باللغة الروسية باسم "وفي الورطة وفي المعركة" And in Trouble and in Battle التي عزفتها في وقت سابق على الحرب أوركسترا ألكسندر فارلاموف لموسيقى الجاز، وتبين أنها نسخة روسية من الأغنية الأميركية الناجحة عام 1934 "اندفعي يا قاطرة، اندفعي" Roll Along, Covered Wagon, Roll.
لم تكن موسيقى المملكة المتحدة والولايات المتحدة هي التي حظيت وحدها بشعبية كبيرة بنهاية الحرب. بل كذلك كان الحلفاء أنفسهم. في صباح التاسع من مايو، بعد البيان الذي بث عبر الإذاعة في الساعة الثالثة صباحاً عن استسلام ألمانيا، تدفقت حشود ضخمة مبتهجة إلى شوارع موسكو. أوقظ والدي الذي كان في الـ17 من عمره، من قبل زميل له في الصف في الساعة الرابعة صباحاً، واندفعا نحو الساحة الحمراء التي كانت مليئة بالناس المحتفلين. وتوافد الناس طوال اليوم أيضاً على الساحة القريبة حيث تقع السفارة الأميركية، وهو مشهد التقطته عدسات كاميرات ياكوف خاليب وأناتولي غارانين.
في الأعوام الأخيرة من عهد ستالين، أصبحت نزعة العداء لأميركا حجر الزاوية للدعاية السوفياتية
"كنا بطبيعة الحال متأثرين وممتنين لهذه التعابير من مشاعر العامة، لكننا كنا في حيرة من أمرنا غير عارفين كيف نرد عليه"، كما يتذكر كينان، وهو القائم بالأعمال في السفارة آنذاك الذي لم يكن اشتهر بعد بسبب "برقيته الطويلة" حول السلوك السوفياتي (التي ذكر فيها أن الاتحاد السوفياتي لا يرى إمكان التعايش السلمي على المدى الطويل مع العالم الرأسمالي وأن أفضل إستراتيجية هي "احتواء" التوسع الشيوعي في جميع أنحاء العالم). كان سكان موسكو المتحمسون يحملون أي شخص يرتدي الزي العسكري على الأكف كما كانوا مستعدين لفعل الشيء نفسه مع موظفي سفارة دولة صديقة. جازف كينان الذي كان ناطقاً بالروسية، بالصعود على المتراس القائم في مدخل السفارة ليصرخ "تهانينا بيوم النصر! كل التكريم للحلفاء السوفيات!"
على رغم أن الشعب السوفياتي لم يلاحظ ذلك حينها، إلا أن كينان كان يشعر بالفعل بالتوترات الناشئة للحرب الباردة. ووفقاً للمؤرخ جون غاديس، كان الحلفاء الثلاثة الكبار سلفاً في حال حرب مع بعضهم بعضاً، في الأقل على المستويين الأيديولوجي والجيوسياسي، حتى في أعقاب انتصارهم على هتلر. وفي الأعوام الأخيرة من عهد نظام ستالين، كانت نزعة العداء لأميركا تخدم غرضاً إستراتيجياً مهماً، وهو مواجهة التهديد الغربي الجديد لمناطق النفوذ السوفياتي. وأصبحت نزعة العداء لأميركا حجر الزاوية للسياسة الخارجية والدعاية المضادة خلال مرحلة الحرب الباردة بأكملها. إذاً، ليس من المستغرب أن تؤدي مواجهة مماثلة مع الغرب اليوم إلى إخراج الجني القديم من القمقم، إذ لا توجد وسائل أكثر فاعلية.
"ستكون هناك قنابل"
ظهر المصطلح المهين Anglosaksy "الأنغلو-ساكسون"، بشكل مفاجئ عام 2022، وصار موضع استخدام متكرر في سردية الكرملين، بل إنه دخل حتى في مفردات الروس العاديين. إلا أن المصطلح الذي يشير إلى الأميركيين المخادعين الذين يحركون دولاً أوروبية خنوعة تأتمر بأمرهم، ليس بأي حال من الأحوال من اختراع نظام بوتين. إنه يأتي بصورة مباشرة من المعجم السوفياتي للسلطة في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي، عندما استعمل للإشارة إلى أهم خصوم الاتحاد السوفياتي. وفي خضم أيديولوجيتها ودعايتها حالياً، قامت موسكو بشكل فطري أو عن سابق وعي باجترار نظريات المؤامرة الروسية الكلاسيكية التي كانت دائماً في تاريخ الاتحاد السوفياتي وأيضاً في الفترة التي تلته، تمثل طريقة بسيطة وعالمية لشرح مشكلات روسيا أو الإجراءات التوسعية لحكامها.
خلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، روج جهاز الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) بنشاط لفكرة مؤامرة أميركية سرية ضد الاتحاد السوفياتي. دعونا نتأمل الكتاب الذي جرى تداوله على نطاق واسع عام 1979 بعنوان "هدف وكالة الاستخبارات المركزية: اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية" CIA Target: The USSR، بقلم نيكولاي ياكوفليف، وهو مؤرخ روسي جندته الاستخبارات السوفياتية. شرح ياكوفليف إلى جانب أمور أخرى، نظرية كانت شائعة آنذاك في أجهزة الأمن الروسية وفي الأوساط القومية الروسية مفادها بأن هناك "خطة دوليس" الأميركية، نسبة إلى مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية آلن دوليس، وذلك من أجل تدمير الاتحاد السوفياتي. وكما برهن المؤرخ الروسي فيكتور شنيرلمان، فإن من المحتمل أن تكون هذه الفكرة مستوحاة من قراءة خاطئة متعمدة لتعليمات صادرة عن مجلس الأمن القومي الأميركي عام 1948 التي ربما اطلعت عليها الاستخبارات السوفياتية. (كانت التعليمات في الواقع دفاعية بشكل حصري ولم تحتوِ على كلمة واحدة عن "تدمير الشعب الروسي"). حتى إن الأسطورة حول وجود "الخطة" وجدت طريقها إلى بعض كتب التاريخ الروسية.
روج "كي جي بي" لفكرة وجود مؤامرة أميركية سرية من أجل تدمير الاتحاد السوفياتي
على رغم حصول تقارب كبير بين الحكومة السوفياتية والولايات المتحدة خلال حقبة ميخائيل غورباتشوف، إلا أن سلالة العداء الشديد لأميركا استمرت في الازدهار في بعض أركان الدولة السوفياتية وما بعد السوفياتية. ففي تسعينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، ادعى فيليب بوبكوف، وهو ضابط سابق كبير في جهاز الاستخبارات السوفياتية أن الولايات المتحدة دبرت انهيار الاتحاد السوفياتي بمساعدة "مجموعة ياكوفليف"، وهذه المرة كان المقصود هو ألكسندر ياكوفليف، مهندس "بيريسترويكا" [عملية الإصلاح التي أطلقها غورباتشوف] والذراع اليمنى لغورباتشوف. واستمرت نظريات المؤامرة هذه، من دون تغيير، على الهامش القومي لروسيا، بما في ذلك في عمل الفيلسوف الروسي المهاجر إيفان إيلين (1883-1954) الذي أصبح مفهومه عن "عالم [السري] ما وراء الكواليس" على مستوى دولي، أو [ما يشبه مجموعة] "المتنورين" (إليوميناتي)، رائجاً في الكرملين. (ومع ذلك، لا تنبغي المبالغة في تأثير هؤلاء الفلاسفة في بوتين، فلعله اقتبس من إيلين في مناسبتين، كما أشار مرة واحدة إلى الفيلسوف الروسي الكلاسيكي نيكولاي بيردايف، على رغم أنه ربما لا يعرف عنه أكثر مما كان بريجنيف يعرف عن ماركس. فهو في الجوهر، كان يبرهن ببساطة على أن الفكرة التاريخية لروسيا التي تشكلت في مواجهة الغرب استمرت).
إن كل أطروحات الكرملين حول الغرب الخطر ومعارضة روسيا له التي لا يكف بوتين عن ترديدها من دون توقف، صيغت منذ فترة طويلة في أواخر عهد ستالين، وأحياناً حتى شعرياً. مثلاً، نشرت صحيفة برافدا عام 1951 قصيدة بعنوان "على الذرّة السوفياتية" نظمها شاعر الأطفال سيرغي ميخالكوف الذي كتب كلمات النشيدين الوطني السوفياتي ثم الروسي. وجاء النص كما يلي في ترجمة تقريبية، "ستكون هناك قنابل! / هناك قنابل! / يجب أن تأخذ ذلك في الحسبان! / لكن ليس ضمن مخططاتنا / غزو دول أخرى". يمكن أن تكون هذه الأبيات مأخوذة بشكل مباشر من إحدى الخطابات التي ألقاها بوتين.
ثم هناك الطريقة المتمثلة في تصوير أعداء روسيا الأميركيين على أنهم أغبياء. في الواقع، الرسالة هي، "ربما يتسم خصومنا بالخبث، لكنهم لا يستطيعون أن يخدعونا". وكانت القيادة الشيوعية في أواخر سنوات ستالين، روجت إشاعة استخدمت كثيراً عن أميركيين يتجولون في موسكو وهم يحملون الكاميرات والسكاكر التي يعطونها للأطفال على سبيل الرشوة ليظهروا الحزن على هيئتهم من أجل تصوير اليأس المزعوم الذي يسود الحياة في الاتحاد السوفياتي. وكتبت شاعرة الأطفال الروسية أغنيا بارتو في الخمسينيات من قبيل المزاح "أنظر، إن أليك يبكي/ سوف يصورونه من أجل أميركا!". وبشكل مماثل، فإن بوتين ودميتري ميدفيديف، الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، اعتادا الآن على إذلال الأعداء الغربيين وتوصيفهم في خطاباتهم على أنهم "حمقى" و "بُلهاء". يرافق ذلك هوس بوتين المتزايد بمواضيع "مجتمع الميم" والنكات البذيئة عن الغربيين.
أميركا أولاً... روسيا ثانياً
بقدر ما كانت روسيا الرسمية معادية لأميركا في كثير من الأحيان، فإنها كانت أيضاً مهووسة بالقوة الاقتصادية للولايات المتحدة وحتى بالسلع والمواد الغذائية الأميركية. وركز أحد الشعارات الرئيسة من حقبة خروتشوف في ستينيات القرن الماضي على تحقيق التساوي مع الولايات المتحدة من حيث نصيب المواطن الفرد من اللحوم والحليب وإنتاج الزبدة ثم تجاوزها. وعندما وصل بوتين إلى السلطة، كانت فكرة اللحاق بالركب الأميركي بالكاد أقل حضوراً منها في أيام خروتشوف. هكذا فإن "أميركا أولاً" هو بمعنى من المعاني، فعلياً أحد شعارات بوتين إذ يُنظر إلى كل شيء من منظور الولايات المتحدة والغرب. أن تكون مختلفاً يعني ألا تبدو مثل الغربيين وألا تعيش مثلهم. وبتعبير أدق، يعني ذلك تحقيق نجاحات مماثلة [لنجاحات الأميركيين] بالاعتماد على القوة الذاتية والتمسك بالسيادة و"الأصالة" والقيام باستبدال [بضائع وطنية] بالواردات من الخارج. بعبارة أخرى، تواصل الدولة والمجتمع الروسي اتخاذ الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين معياراً يقيسان نفسيهما وفقه.
يعود هذا النمط للأعوام الأولى لعهد الاتحاد السوفياتي. ظهر "المتخصصون البورجوازيون" الأميركيون في الاتحاد السوفياتي أثناء حملة التصنيع التي قام بها ستالين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وصورهم الكاتب السوفياتي فالنتين كاتاييف بطريقة ساخرة إلى حد ما، لكن الحقيقة هي أن الاختراق الصناعي لم يكن من الممكن أن يحصل من دون التكنولوجيا الأميركية. عندما قدمت الولايات المتحدة المعرض الوطني الأميركي في موسكو عام 1959، وهو الحدث الذي جذب جمهوراً سوفياتياً زاد عدد أعضائه على مليوني شخص ممن تذوقوا مشروب "بيبسي" المرطب وشاهدوا الغسالات الأميركية للمرة الأولى، كما شهد "مناظرة المطبخ" بين نيكيتا خروتشوف وريتشارد نيكسون، إذ ناقشا المزايا النسبية للرأسمالية والاشتراكية. في ذلك الوقت، شعرت القيادة السوفياتية بوضوح بتخلفها في المجال الاستهلاكي. وكان ذلك أيضاً السبب الذي دفع الاتحاد السوفياتي إلى شق قيادة سباق الفضاء، وذلك من أجل التحرر من قالب اللحاق بالركب.
كانت مجلة "أميركا" التي تتناول باللغة الروسية الحياة الأميركية، تصدر عن وزارة الخارجية الأميركية، عنصراً مرغوباً فيه، على رغم أنها كانت أقل جاذبية من الجينز والعلكة والمشروبات الغازية. وبشكل لافت، حظرت المجلة، عام 1948، عندما كانت نزعة العداء الستالينية لأميركا في ذروة زخمها، وأصدرت مرة أخرى خلال مرحلة الانفتاح المناهضة للستالينية في ظل خروتشوف خلال خمسينيات القرن الـ20. وفي السبعينيات، قبل ليونيد بريجنيف بكل سرور نماذج أولية من صناعة السيارات الأميركية كهدية من الأميركيين، مما زاد من جو الانفراج. وعندما التحمت مركبتا "سويوز" و"أبولو" معاً في الفضاء في يوليو 1975، احتفي بذلك الالتحام في موسكو بظهور "تبغ فيرجينيا الحقيقي" في سجائر أطلق عليها اسم الحدث التاريخي والتي لم تكن من تبغ الوطن الأم الحانق، ولكن برائحة عطرة آتية من عالم آخر. بحلول خريف الاتحاد السوفياتي، كانت الصناعة السوفياتية تعتمد إلى حد كبير على الإمدادات والتقنيات الغربية إلى درجة أن العقوبات المفروضة على موسكو بسبب غزو أفغانستان عرضت صناعات بأكملها، مثل الهندسة الكيماوية، للخطر.
أدى التعلق الروسي بالنماذج الأميركية وحديث بوتين عن عالم أحادي القطب مفروض من قبل الولايات المتحدة، حتى في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، إلى خلق شعور لدى الروس بالاعتماد الذي لا مفر منه على "هؤلاء". ربما يقول المشاركون في مجموعات التركيز البحثية الروسية في بعض الأحيان إن دستور روسيا لعام 1993 كتب في واشنطن وإن تعديلات بوتين عليه كانت لازمة للحفاظ على السيادة الحقيقية للبلاد. بيد أن الناس، في الوقت نفسه، يدركون أن الولايات المتحدة كانت قوة اقتصادية يمكن لروسيا أن تتعلم منها كثيراً من أجل تحقيق مستوى المعيشة نفسه. ومرة جديدة، جرى التعبير عن مزيج من التفوق الروسي والدونية الروسية في الوقت ذاته في موقف موسكو المتناقض تجاه منافستها الأميركية.
ومع ذلك، لم تكن مركبات النقص لدى الروس حول الولايات المتحدة ملحوظة للغاية حتى عاد بوتين إلى الرئاسة عام 2012 وضمت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014. كان بوتين في السنوات الأولى من حكمه، بدءاً من عام 2000، لا يزال يحاول التأقلم مع الغرب ويبدي الحذر من تبديد إرث سلفه بوريس يلتسين. ولم يكن يرى روسيا على أنها تحدد الاتجاه في النظام العالمي الذي يقوده الغرب. ومع ذلك، فإن العداء الصريح للغرب الذي عبر عنه بوتين في خطابه في مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، كان بمثابة نقطة البدء بتدهور العلاقات مع الولايات المتحدة، وتأخر ذلك التدهور قليلاً فقط بسبب محاولة "إعادة ضبط" العلاقات خلال فترة رئاسة ميدفيديف التي استمرت أربعة أعوام. وبحلول 2014، أعاد تأكيد موسكو الجديد على الكبرياء الروسية، من جهة، ويقظة طموحات القوى العظمى مرة أخرى، من الجهة الأخرى، إثارة كل المشكلات القديمة حول الولايات المتحدة، مما حرك هستيريا شبه وطنية. لكن برزت أقوى مظاهر هذه الهستيريا مع بداية "العملية الخاصة" العام الماضي.
منذ ذلك الحين، ساءت المواقف الروسية تجاه الولايات المتحدة بشكل كبير. في فبراير (شباط) 2022، كان 31 في المئة من الروس يتخذون موقفاً إيجابياً حيال الولايات المتحدة. لكن وفقاً لمركز ليفادا، وهو مؤسسة استطلاعات رأي روسية مستقلة، فبعد مرور عام واحد كان لدى 14 في المئة فقط ممن جرى استجوابهم نظرة إيجابية عن الولايات المتحدة، فيما اتخذ 73 في المئة منهم موقفاً سلبياً. إن التراجع في المواقف الإيجابية إزاء أوروبا لا يقل كثيراً عن التراجع الذي شهدته مواقف الروس حول أميركا، فقد كان لدى 18 في المئة فقط من الذين شملهم الاستطلاع رأي إيجابي حيال دول الاتحاد الأوروبي في فبراير 2023، مقارنة بـ 69 في المئة آخرين لم يكن لديهم رأي كهذا. عندما يقترن الولع المرضي الروسي بأميركا مع نظريات المؤامرة وعزلة بوتين المتزايدة، يصبح الخليط برمته وصفة قوية لكي تسيطر الروح العسكرية [على العلاقات بين البلدين].
جذور السلوك الروسي
إن احتضان بوتين لنظريات التآمر المعادي لأميركا خطر بشكل خاص بسبب تجاهل نظامه المتزايد للخطوط الحمراء القديمة. ففي الأقل، خلال الحرب الباردة، اتفق الطرفان على أن عواقب إلحاق الضرر ببعضهما بعضاً ستكون غير مقبولة. إن مشكلة بوتين، وهي في الواقع، مشكلة العالم بأسره في الوقت الحالي، تكمن في أن الحكومة الروسية تفتقر إلى الغريزة نفسها التي أدت منذ أواخر الستينيات باستمرار إلى انفراج العلاقات مع الغرب، أي إلى الاستعداد للتفاوض. وبدلاً من ذلك، عمد بوتين إلى تجميد التعاون في مجال حظر انتشار الأسلحة النووية وناقش بطيش طفولي إمكان توجيه ضربة نووية وكانت له تظلماته على طريقة المراهقين وأظهر عدم استعداده للحفاظ حتى على الحد الأدنى من الحوار. كل هذه الإجراءات تميز بوتين وتجعله يتفوق على أسلافه الراحلين من حيث التشبث بنزعة العداء لأميركا.
كتب كينان عام 1950 يقول إن "الشخصية السياسية للقوة السوفياتية كما نعرفها اليوم، هي نتاج أيديولوجيا وظروف". وإذا نظر المرء إلى مصادر السلوك الروسي اليوم، فإن الظروف هي ديكتاتور مهووس بمهمته. أما بالنسبة إلى الأيديولوجيا، فإن مفهوم السياسة الخارجية الجديد لروسيا يشير إلى "المكانة الخاصة للبلاد باعتبارها دولة أصلية، وقوة هائلة أوروبية- آسيوية وفي منطقة أوروبا- المحيط الهادئ"، وهو مصطلح جديد جدير بالملاحظة. يشير هذا المفهوم أيضاً إلى دور روسيا في توحيد "الشعب الروسي والشعوب الأخرى التي تشكل المجتمع الثقافي والحضاري للعالم الروسي"، وهو فضاء جغرافي لم يرسم حدوده بدقة بعد.
هذا الجوهر الانتقائي لهذه الأيديولوجيا الذي ظهر مرة أخرى في مراحل مختلفة من التطور التاريخي لروسيا، جرى وصفه بدهاء في "قطعة محادثة، 1945" لفلاديمير نابوكوف، وهي قصة قصيرة يعلن فيها عقيد سابق في الجيش الأبيض [هو الجيش الذي حارب الجيش الأحمر في الحرب الأهلية الروسية عقب ثورة البلاشفة عام 1917] هاجر إلى الولايات المتحدة، "لقد استيقظ الشعب الروسي العظيم وأصبح بلدي مرة أخرى دولة عظيمة". ويتابع قائلاً "كان لدينا ثلاثة قادة عظماء. كان لدينا إيفان الذي وصفه أعداؤه بالرهيب، ثم كان لدينا بطرس الأكبر، والآن لدينا جوزيف ستالين. ... واليوم، في كل كلمة تخرج من روسيا، أشعر بالقوة، أشعر بروعة روسيا الأم العجوز. إنها مرة أخرى بلد الجنود والدين والسلاف الحقيقيين".
في خطابه لمناسبة يوم النصر في التاسع من مايو، قال بوتين إن أعداء روسيا معروفون بأيديولوجيتهم الخاصة بالتفوق. ومما يلفت الاهتمام أنه يستخدم في كلامه تقريباً كل ما يمكن أن يُقال عنه هو، مثل "الطموح الباهظ الثمن والغطرسة والانحلال" على حد تعبيره في كلمته، ويلقي باللوم على خصومه متهماً إياهم بهذه الممارسات. هنا يكمن الغرض الأعمق من نزعة العداء الروسية لأميركا، وهو أن تنسب كل المؤامرات التي تدبرها بنفسك، كل تلك الخطط غير الأخلاقية التي تحيكها، إلى الولايات المتحدة.
لكن هذه الأيديولوجيا التي أعيد إحياؤها تعكس أيضاً غياب نظام الحرب الباردة ثنائي القطبية وغياب العظمة والقوة الروسيتين اللتين رافقتاه. وهكذا، عندما يتحدث بوتين وأعضاء فريقه عن عالم جديد متعدد الأقطاب، فإنهم يحاولون ببساطة إعادة تأكيد مكانة موسكو المفقودة كقوة عظمى وتصوير أنفسهم على أنهم بمثابة الضوء الهادي للجمهوريات السوفياتية السابقة وبلدان أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. كل هذا نتيجة الصدمة النفسية لانهيار الاتحاد السوفياتي التي حملتها معها النخبة التي وصلت إلى السلطة عام 2000. وبعد 22 عاماً، أدت تلك الصدمة إلى كارثة عالمية.
أندري كوليسنيكوف زميل بارز في مركز كارنيغي لبحوث روسيا- أوراسيا
مترجم عن "فورين أفيرز" 25 مايو 2023