"وسيكون رمادي أكثر حرارة من حياتهن". بهذه العبارة ختمت كونتيسة من أصل روماني واحداً من أجمل نصوصها وأكثرها جرأة، فيما كانت على سرير المرض تنتظر أيامها الأخيرة عاجزة عن الحركة، وهي التي ما عرفت سوى الحركة أسلوباً للعيش في صباها. أما اللاتي كانت الكونتيسة تعنيهن بحديثها عن حياتهن، فلسن سوى نساء المستقبل اللاتي كانت الكونتيسة تتنبأ لهن بحياة باردة مفعمة بالعادية. والحال أن أي حياة كان من شأنها أن تبدو باردة عادية بالمقارنة مع حياة تلك المرأة الصاخبة الضاجة التي شغلت باريس والحياة الأدبية الفرنسية عند بدايات هذا القرن، إلى درجة دفعت مارسيل بروست إلى أن يستلهم منها شخصية الفيكونتيسا دي ريفيون في واحد من أجزاء روايته الأشهر "البحث عن الزمن الضائع".
جنازة استثنائية
اسمها آنا دي نواي. كانت في السابعة والخمسين من عمرها حين رحلت عن عالمنا يوم الثلاثين من أبريل (نيسان) 1933، حين كان أكثر من 10 آلاف شخص في جنازتها الباريسية مما جعلها أكبر جنازة قيضت في العاصمة الفرنسية لشاعر أو لأديب منذ رحيل فيكتور هوغو. ترى ما الذي جذب أولئك الأشخاص إلى جنازة سيدة مكتهلة، كانت حين موتها قد أضحت بشعرها وشخصيتها "خارج الموضة" على حد تعبير أصحاب "الثورة السوريالية" الذين أعلنوا منذ اندلاع "ثورتهم" في 1927 أن آنا دي نواي ليست بشاعرة ولا من يحزنون، وأنها "ليست أكثر من سيدة مجتمع عرفت كيف تستغل ثروتها وجمالها". ربما كان هذا بالتحديد، مما دفع الألوف إلى تشييعها. فالصحافة لم تكن لتتوقف عن الحديث عن آنا دي نواي، عن غرامياتها وكتاباتها وحفلاتها الصاخبة، ولكن بخاصة عن صالونها الأدبي الذي كان في زمانه الأشهر في الحياة الأدبية الباريسية. والأهم من هذا أن آنا دي نواي كانت صاحبة لسان سليط حاد توزع عباراتها التهكمية على الجميع، في الوقت الذي تعلن فيه أنها اشتراكية من دون لف أو دوران، وتقف مناصرة درايفوس في معركته ضد اليمين المتطرف. وكل هذا جعل من آنا دي نواي، أو الكونتيسة دي نواي، شخصية تخرج عن المألوف في مناخ باريسي كان مجرد الخروج عن المألوف فيه يعتبر مأثرة.
من القلب المتعدد إلى ظل الأيام
ولدت آنا دي نواي عام 1876 في باريس ابنة لأمير روماني وحفيدة لباشا تركي مسلم. وهي جعلت نفسها فرنسية الهوية واللغة حتى من قبل أن تتزوج نبيلاً فرنسياً. ومنذ صباها وجدت كل ما يحلم به الآخرون ملك يديها: الجمال والثروة والمكانة الاجتماعية، إضافة إلى موهبة أدبية رعاها بشكل جيد أصدقاء لها من كبار الكتاب من بينهم مارسيل بروست وجان كوكتو وكوليت وبول فاليري. وهي ردت جميلهم عبر إقامتها صالونها الأدبي الذي كانوا يرتادونه شاعرين أنهم في بيتهم، وهم راحوا يشجعونها على نشر قصائدها بعد أن كانت في البداية مترددة في ذلك لكنها ما إن حل العام الأول من القرن العشرين حتى كانت تصدر مجموعتها الأولى "القلب البلا عدد" فأصبحت لها في عالم الشعر مكانة، وراح النقاد يبالغون في تقريظ شعرها. وبعد ذلك بستة أعوام أتت مجموعتها الثانية "ظل الأيام" لتؤكد للمعجبين بها مكانتها. ومنذ تلك اللحظة كف كثيرون عن النظر إليها كسيدة مجتمع تهوى الكتابة ليتعاملوا معها كشاعرة حقيقية تجعل من شعرها نشيداً لتمجيد الطبيعة وعلاقة الإنسان بهذه الطبيعة. وكان من الطبيعي لشعر من ذلك النوع أن يثير إعجاب الحلقات الأدبية، لا سيما مارسيل بروست الذي كان، على أي حال، من أوائل الذين راهنوا عليها إذ كان يرى فيها، وعلى حد تعبيره "النقطة الأكثر حساسية في الكون"، بل إنه لفرط إعجابه بها صورها في روايته على تلك الصورة التي اتسمت بتقدير ومحبة.
بيئة نسوية وعلمانية
في الواقع أن الأدباء والنقاد الذين أسبغوا على الكونتيسة أهمية فائقة وجعلوا لها زعامة شعرية مطلقة، بالغوا في ذلك إلى حد كبير، لكن الحداثويين وصولاً إلى السورياليين كان لهم رأي آخر فيها. ففي نهاية الأمر لم تكن كتابات آنا دي نواي "زوبعة في فنجان" كما قال واحد منهم بل هي منذ "القلب المتعدد" عرفت كيف تخلق في الشعر عالماً ولغة جديدتين تتعدد أبعادهما ناهلة من النهضويين وصولاً إلى جان جاك روسو تماهياً للكينونة البشرية مع الطبيعة، مضيفة إلى عالمها البيئوي المبكر هذا رومانطيقية وجدتها لدى "الأستاذ الوحيد الذي اعترفت به" فكتور هوغو. ومن هنا امتلأ شعرها بتعابير تكاد تكون حلولية في التمازج مع الطبيعة ناهيك بلمساتها التي اعتبرها النقد الأكثر جدية، شرقية المزاج "وصلتها من جدودها المسلمين الأتراك" وربما استفادت فيها من تلك الأشعار التي نقلها الألماني غوته في ديوانه الشرقي الغربي الذي في الأقل وصلت إليها أصداؤه إن لم تكن قد قرأته. وبصورة مؤكدة كان من الواضح أن هذه الكاتبة انطلقت منذ بداياتها تنظر إلى المسألة الشعرية نظرة شديدة الجدية ممتزجة بلمسات لا تخلو من أنثوية تصل إلى حدود ما يمكننا اعتباره "نزعة نسوية مبكرة" من دون أن ننسى ذلك البعد العلماني الصريح الذي أضفته على توجهها العلماني الذي كان لديها صنواً لتوجه اشتراكي عرف خصومها في الأقل كيف يعتبرونه "مأخذاً" عليها انطلاقاً من تركيزهم على ثروتها ومكانتها الاجتماعية اللتين تناقضان اتجاهاتها الفكرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إصدارات متتالية
ومهما يكن من أمر، لا بد من القول إن الكونتيسة الشاعرة واصلت نفس توجهاتها الإبداعية الشعرية متمازجة مع نزعاتها الفكرية والسياسية في ما تلا "القلب المتعدد" من مجموعات وكتب أصدرتها خلال الدزينة التالية من السنوات التي نشطت خلالها ككاتبة وشاعرة، لكن النقد الجاد ظل يحفظ لـ"القلب المتعدد" مكانة أساسية في مسارها الإبداعي، معتبراً أن كل ما كتبته من بعده قد لا يكون أتى أضأل منه شأناً لكنه سار على خطواته من دون أي تجديد حقيقي في تلك السنوات المجنونة التي كان عدم التجديد يعتبر في ذاته نوعاً من انتحار أدبي. ومن عناوين إصدارات آنا دي نواي التالية لـ"القلب المتعدد"، "انبهارات" (1907) و"شرف المعاناة" و"وجه مفتون" "والأحياء والموتى" الذي صدر عام 1913.
عداء السورياليين
كل هذه الإصدارات أسبغت على كاتبتنا مجداً كبيراً، وكان من شأنها أن تمكنها من التربع طويلاً على عرش شعري خاص بها، ولكن كان من سوء حظها أن اندلعت الثورة السوريالية... في اللحظة التي كانت تبدأ رحلتها إلى الخلود الأدبي. والسورياليون، منذ البداية، لم يحبوا آنا دي نواي. وهم لسبب مجهول ركزوا عليها في مقالاتهم الهجومية، مع أنها إن لم تكن أحسن من كثيرين فإنها لم تكن على أي حال الأسوأ بين الشعراء. وهي أبدت ضعفاً إزاء معركتها مع السورياليين، حين لم تكن تخفي مقدار ما كانوا يسببونه لها من ألم. وعبرت عن ذلك في مجموعتها الأخيرة "شرف الألم" 1927 إذ عبرت عن خوفها من الموت وعن انهيار أعصابها وعن إحباطاتها وأحزانها. والواقع أنها في ذلك الوقت بالذات كانت تعيش لحظات عصيبة، إذ دهمتها الأمراض لا سيما ألم في الرأس لم يعرف الأطباء له سبباً فأقعدها في الفراش، حيث أمضت السنوات الأخيرة من حياتها لا تستقبل زوارها إلا راقدة. وفي النهاية تمكنت أمراضها منها فماتت، ليقول كوكتو تعليقاً على موتها "لم يكن في إمكانها أن تحتمل الحريق الأحمر الذي أصاب العالم القديم ولهيبه المهدد... أضجرها كل ذلك وجعلها تستقبل الموت بترحاب". وهكذا رحلت آنا دي نواي الاشتراكية المتحمسة والليبرالية العتيقة والحديثة ضحية لحداثة لم تهضمها أبداً.