ملخص
فيلم سينمائي يروي حياة العبقري الموسيقي راي تشارلز خلال سنواته الصعبة بين 1948 حين كان في الـ17 من عمره وأواسط ستينيات القرن الـ20 حين قيض له أن يبرأ أخيراً من إدمانه على الكحول ومن المشكلات التي سببها لنفسه جراء علاقاته النسائية.
حين توقف قطار الفن السابع أمام محطة مئوية السينما عام 1996 وحتى بدايات الألفية الجديدة، كان طبيعياً كثرة إنتاج الأفلام التي تتحدث عن سير فنانين، لا سيما السينمائيين، الذين كانوا وقوداً لدوران عجلة الإنتاج، وراحت موضة سير الكبار الذين صنعوا القرن الـ20 تخرج إلى النور بأعمال ضخمة.
ولما كان المغني الأميركي من أصول أفريقية راي تشارلز قد رحل حديثاً كان طبيعياً لهوليوود أن تهتم بسيرته فخرج إلى النور فيلم عن سيرته أبقاه في الذاكرة لفترة ما قبل أن تفعل ذلك أغانيه. ويتحدث فيلم "راي" للمخرج تايلور هاكفورد، طبعاً، عن حياة تشارلز الذي رحل عن عالمنا قبل عرض الفيلم بعام ونيف، بعد أن ملأ دنيا الموسيقى، والجاز خصوصاً، وشغل ناسها عقوداً طويلة من السنين.
بالنسبة إلى مشروع الفيلم عن راي تشارلز يبدو منطقياً السؤال: لماذا تأخر... من دون أن يعني هذا أن أصحاب هذا المشروع قد انتظروا رحيل الفنان "العبقري"، بحسب توصيفه في عالم الموسيقى، حتى يحققوا فيلماً عنه... فالواقع يقول إن العمل على الفيلم بدأ والرجل لا يزال حياً، بل أسهم بنفسه في رسم خطوط رئيسة فيه، واجتمع مرات عدة إلى كاتبه ومخرجه وإلى الممثل الذي اختير لأداء الدور جايمي فوكس، وكان يردد أمامهم جميعاً أنه يفضل ألا يموت قبل مشاهدة الفيلم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فإذا أضفنا إلى هذا أن الابن الأكبر لراي تشارلز، راي روبنسون تشارلز جونيور، كان في عداد منتجي الفيلم، يمكننا أن نفهم أننا هنا أمام ما يشبه "السيرة الموثقة" لصاحب العلاقة. وهذا ما يعطي الفيلم صدقية كبرى قد تفتقر إليها أفلام كثيرة تتناول سير شخصيات عاشت خلال فترة من الزمن.
حياة تراجيدية
الفيلم في نهاية الأمر يحاول أن يروي لنا حياة "العبقري" خلال سنواته الصعبة، بين 1948 حين كان في الـ17 من عمره، وأواسط ستينيات القرن الـ20، حين قيض له أن يبرأ أخيراً من إدمانه الكحول، ومن المشكلات التي سببها لنفسه جراء علاقاته النسائية، وتحت وطأة ذكريات عذابه وواقع عماه، ورد فعله على كل الذين استغلوه واستغلوا فنه خلال السنوات السابقة.
وفي هذا الإطار يبدو الفيلم محدداً زمنياً، مع أنه يطل زمنياً، بوفرة، على ما قبل عام 1948، ثم يطل أخيراً، وبشيء من الاختصار على العقود الأربعة الأخيرة من حياة راي تشارلز... أي العقود التي يوحي إلينا أن حياته خلت خلالها من الأبعاد الدرامية، بل التراجيدية، لتستقيم سيرته كفنان عالمي يحقق نجاحات مدهشة ويعيش حياة عائلية مستقيمة، ويصبح نجماً في أعين عشرات الملايين من محبيه في العالم أجمع.
سمات وعظية
بدا هذا تأطيراً منطقياً، لفيلم درامي، لكن المشكلة معه أنه بدا وكأنه يعطي الفيلم سمة وعظية، أي يجعل من مشاهده درساً في الأخلاق، مع نيته الأصلية التي كانت كما يبدو تقديم البعد الدرامي حول سقوط إنسان وعودته إلى النهوض بفعل إرادة قوية ما. وحياة راي تشارلز العملية، كما يرويها لنا الفيلم، تبدأ بتلك الرحلة التي يقوم بها من مسقط رأسه إلى سياتل عبر فلوريدا، بعد أن تلقى فتات علم ودراسة وراح يتقن العزف على البيانو.
كان يشعر بأنه في سياتل سيبدأ حياة فنية ما من دون أن يدرك، طبعاً، المدى الفسيح الذي ستوصله إليه تلك الحياة. وهكذا تتوالى أمام ناظري المتفرج سيرة، معروفة إلى حد كبير، وتكاد تشبه سيراً أخرى عدة في عالم فناني الجاز الأميركي من البائسين السود الذين كان عليهم أن يبذلوا جهوداً مضاعفة للخروج من وضعيتهم المزدوجة كأقلية في المجتمع الأميركي... أقلية كونهم زنوجاً وأقلية كونهم، بالتالي، فقراء.
المختلف هنا، للوهلة الأولى، أن راي تشارلز كان ينتمي إلى أقلية ثالثة، كونه ضريراً، لكنه -وهذه إشارة رائعة في الفيلم- كان ضريراً من دون عصا ومن دون كلب. لماذا؟ لأن حاسة السمع لديه حلت مكان حاسة النظر، الذي فقده منذ كان في السابعة بسبب داء نادر أصابه. وهكذا، يدفعنا الفيلم -وأحياناً في تكرار مزعج- إلى ملاحظة كيف أن راي يستمع إلى أصوات لا يقيض إلى غيره الإصغاء إليها. ومن هنا، طبعاً، حسه الموسيقي المذهل. وهذا الحس قاده إلى مهنته التي ستبدأ مع بداية الفيلم، فسيعمل عازفاً أول الأمر، ثم يبدأ الغناء ثم التأليف، حتى تبدأ شهرته بالتنامي، وسط عالم يهيمن عليه اللصوص والانتهازيون، بيد أن ما هو أسوأ في حال راي تشارلز، كان أن تنامي شهرته وقوته الموسيقية إنما تزامناً مع بدء إدمانه الهيروين، وتشعب علاقاته النسائية التي لم يحد منها زواجه بمغنية شابة أنجبت له ذريته وظلت رفيقته حتى النهاية.
مشكلة سيناريو
هذا كله يروي لنا في الفيلم، عبر لغة بسيطة وهادئة تتمركز أساساً من حول أداء جايمي فوكس، الذي ظهر على الشاشة وكأنه راي تشارلز نفسه مجسداً بأفضل ما يكون، لكن المشكلة هنا تكمن في أن أداء فوكس الداخلي والرائع، لم يستغل كما يجب إخراجياً في الأقل، وربما تبعاً إلى نقصان في السيناريو المكتوب. وهكذا غابت اللحظات التي كان يمكن لنا فيها أن نرصد الإرهاصات التي كانت تقود راي إلى هذا الموقف أو ذاك، إلى رد فعل معين، أو حتى إلى تصرف سيرافقه ويسيء إليه طوال سنوات عدة من حياته.
لقد أجاد الفيلم في الحديث عن استغلال الآخرين للفنان، مالياً ومعنوياً، لكنه جعل من رد فعله على هذا، حين يعيه، فجائياً، ويبدو خارجاً عن السياق التدريجي لردود الفعل وولادتها، بل صوره انتهازياً، من دون أن يدينه على ذلك. غير أن ما لا بد من قوله هنا هو أن هذا كله لم يقلل من أهمية هذا الفيلم، حتى وإن كان منعه من أن يكون فيلماً عبقرياً يليق بالفنان الراحل.
طريقة جديدة
ومع هذا، فإن الأساسي في الفيلم، فن راي تشارلز، قدم بطريقة جيدة، بل تكاد تقترب في جودتها من المستوى الذي كان فيم فندرز، مثلاً، قد وصل إليه في فيلم حققه قبل أعوام قليلة، لحساب مارتن سكورسيزي، عن تاريخ موسيقى الجاز. ففي هذا الإطار، قدم الفيلم صورة مفصلة، بل رائعة، للإضافات التي أضافها راي تشارلز إلى شتى أنواع الجاز، حين مزج الموسيقى الدينية "غوسبل" بالجاز الراقص و"الكاونتري" بموسيقى "الصاول" الروحية.
وقدم في السياق نفسه، صورة لافتة للاحتجاجات المتزمتة التي قامت مجابهة استخدام تشارلز لموسيقى "الغوسبل" في شكل دنيوي. وعلى هذا النحو، وضمن إطار هذا كله، يجد المتفرج، الملم في الأقل، نفسه أمام مشاهد ولحظات تصور ولادة ومسار بعض أشهر أغاني راي تشارلز، منذ "حصلت على امرأة" التي كانت أول أغنية كبيرة ناجحة له في عام 1954، وصولاً إلى "أنت دائماً في خيالي" أواسط الستينيات، مروراً بـ"أطلق سراح قلبي" و"اضرب في طريقك يا جاك" وغيرها من تلك الروائع التي رافقت أجيالاً بأمرها معطية الجاز وغناءه نفساً جديداً وشعبية واسعة.
تحية إلى جورجيا
وفي هذا الإطار لافت أن يكون الفيلم قد توقف طويلاً عند واحدة من أغاني راي تشارلز الأساسية "جورجيا أون ماي مايند" ليذكرنا بأن تشارلز قد كتب هذه الأغنية تحية لمسقط رأسه، ولاية جورجيا التي كانت من أكثر الولايات الأميركية عنصرية، إلى درجة أنها منعته بمرسوم من الحاكم، من الغناء فيها سنوات، لمجرد أنه احتج ذات يوم، وبعد أن كان صار في أوج شهرته، على حجز مقاعد حفلته كلها للبيض.
ويبدو ذو دلالة هنا أن يكون واحداً من آخر مشاهد الفيلم هو ذاك الذي تتراجع فيه الولاية عن قرارها، وتعيد إلى راي تشارلز اعتباره ومواطنيته، بل تعتبر "جورجيا أون ماي مايند" نشيدها الوطني... يبدو هذا ذو دلالة في مضمار العنصرية ومعاناة راي تشارلز منها، وكأنه غفل عن الأمر طوال الفيلم، ليعود ويتذكره في ذلك المشهد النهائي، الذي قد لا ينتبه كثر إلى أن "ممثله" لم يكن راي تشارلز نفسه، بل قرينه جايمي فوكس.