ملخص
في عرضه الجديد "الرقص مش إلنا" أظهر أن الرقص للجميع
يمكن القول إن ما دلنا إليه الراقص ومصمم الرقص المعاصر والمسرحي اللبناني عمر راجح هو أن خير الكلام ما دل عليه الرقص واختصره. أو يمكن تفكيك المقولة كلها من بعد عرض راجح الراقص في مسرح مونو في بيروت لتصبح "خير الكلام الرقص"، لأنه بما قل يمكنه أن يدل على ما يريد الفنان اللبناني المعاصر أن يخبرنا إياه في عرضه الأشبه بسيرة ذاتية، مكتوبة بحركات الجسد المترافقة مع إيقاع واحد لآلات العزف النقرية، يرتفع وينخفض خلال العرض بحسب مواقف السيرة الحياتية التي يرويها راجح في أقل من ساعة بحرفية تامة. حتى ليكاد المشاهد يعتقد أن عرض عمر راجح "الرقص مش إلنا" هو الأخير لهذا الفنان الشاب، وصاحب المبادرة الثقافية المهمة والمؤسسة في ثقافة الفنون الجسدية والراقصة في العالم العربي. وقد انهار معظمها أمام ناظريه بعد أن كان بدأ ببناء عمارته حجراً فوق حجر، معتقداً أن هذا البناء المراقب والواضح في مبتغاه وما يرغب في إنتاجه، سيصل إلى الذروة التي تخيلها أو أرادها له. إلى أن اصطدم بالواقع الذي يظهر أن بناء مشروع ثقافي فوق فالق الزلازل الثقافية البيروتية هو كبناء من الغبار في مهب الريح. هذه السيرة النضالية التي أراد عمر راجح أن يرويها أمام الجمهور البيروتي الذي كان ينتظره بعد غياب سنوات، على أثر توقف انعقاد دورات "مهرجان الرقص المعاصر" السنوية للأسباب الكثيرة التي يذكرها عمر راجح في مسرحيته بلغة الجسد، والتي يبرع في نقلها كما لو أنها شفهية.
السيرة التي يرويها عمر راجح يمكنها أن تكون سيرة أي فنان لبناني معاصر كان قد بدأ مشروعه الفني في بيروت منذ بداية القرن الحالي، ثم أصاب بيروت ما أصابها من نكبات جعلت كل المشاريع في مهبها. والمشاريع الثقافية كانت الأكثر تضرراً من بين سائر المشاريع المتضررة بسبب قابليتها للكسر بطبيعتها، كبلور لامع يتم استعراضه فوق فوهة بركان غير خامد ومقبل على الانفجار.
المسرحي اللبناني فائق حميصي علق على عرض عمر راجح الراقص كاتباً "بدلاً من أن يبكي عمر راجح مدينة بيروت التي أصبحت مدينة المآسي بعد أن تشظت أجسادنا فوق ترابها بمختلف أساليب القتل المتوحش، أهدانا شتلات لمزروعات بلدية (أهدى الممثل الجمهور شتلات مزروعة لجمهور الحاضرين) بعد أن سعى إلى تفجير كل مفصل في جسده لينتشر في كل الجهات، ولكن دائماً تحت جسد هذا الفيل الضخم الذي هبط من السماء على بيروت كما يقول عمر، في عرضه المتشظي أمام أعيننا".
"الرقص مش إلنا" (الرقص ليس لنا) هو العرض الأول الذي يقدمه راجح في لبنان منذ انتقاله إلى فرنسا قبل سنوات قليلة، وبعد عروض ثلاثة سينتقل العرض في جولة إلى زغرب الكرواتية وروما وميونيخ، ثم إلى فرنسا خلال يوليو (تموز) وإسبانيا في سبتمبر (أيلول).
تسند العرض الراقص موسيقى الألماني جوس تورتبول وشربل الهبر الإيقاعية المتسارعة، كنبضات القلب، في حالتها كلها من العاطفة إلى الحب إلى الشوق والأمل ثم الإحباط والانحدار والانحطاط والتلاشي. كان الإيقاع المرافق مساهماً أول في تحديد إيقاعات الجسد الراقص، وفي تحديد سرعة/ بطء مرور حياة الفنان الذي يروي القصة داخل المسرحية. أما الدقائق القليلة التي يمنحها العرض من الاستماع إلى هذا الإيقاع المنساب طوال الوقت فتكون دقائق قليلة من أغنية لأسمهان وأخرى لنصري شمس الدين.
صمم عمر راجح وميا حبيس الكوريغرافيا، وميا شريكة عمر في تنقلاته الفنية والمكانية بين بيروت وباريس، وكانت أحد أعضاء الفريق الذي حقق "مهرجان الرقص المعاصر" الذي أقيم سنوياً في بيروت، قبل أن يتوقف للأسباب نفسها التي أدت إلى توقف مشاريع شبابية كثيرة كانت على أهبة الانطلاق، في مدينة كان من المفترض أنها مقبلة على قيامة من موت لا على موت في داخل الموت.
وحول تجربة مهرجان الرقص المعاصر يقول عمر راجح عن هذه التجربة الخاصة إنها بدأت بعفوية "لم أفكر في حياتي أن أنظم مهرجاناً. عندما كنت لا أزال أدرس في لندن فكرت في البقاء هناك معتقداً أنه لا مجال للرقص في بيروت"، ولكن بعد تقديم عرض "صفرا" ثم "حرب عالبلكون" بدأ راجح يفكر في تشكيل أرضية لمهرجان رقص لبناني يمكنه أن يتحول إلى مهرجان عالمي، من حيث إدارته وجنسيات المشاركين فيه وأمكنة إقامة العروض وتنقلها عبر العواصم، "أهم الإنجازات كانت حين طورنا شبكة للمهرجان في عام 2007، حينها لم يكن قد بدأ التشبيك الفني في هذ المجال من العروض في لبنان والعالم العربي. فأسهم المهرجان في تنقل العروض نفسها بين بلدان مختلفة، خصوصاً العروض العالمية المشاركة التي تنقلت بين بيروت وعمان ورام الله ودمشق لسنوات، قبل أن تهب الريح مرة جديدة ولكن بهمجية أوسع هذه المرة. وكأن المتنبي حين كتب بيت الشعر حول السفن وما تشتهيه والرياح وما تشتهيه، كان يشير إلى كل السفن الثقافية على شواطئ لبنان وإلى كل ريح تهب من الشرق والغرب وتمر عبر شواطئ لبنان. فهذه الريح وتلك السفن لم تتماشيا معاً يوماً، بل ولطالما كانت الرياح تجري بعكس ما تشتهي السفن".