ملخص
جعل الفن السابع "بزنس" وسيطر على التلفزيون وعارضه مخرجون طليعيون
"عند الحديث عن برلسكوني، يجب تضييق البؤرة، فمهما قلتَ عنه، خياله أوسع من خيالك. تخاله مثلاً في الفراش مع 100 امرأة، فيتبين بأنه كان مع 500". هذا ما قاله لي المخرج الإيطالي سافييرو كوستانزو أثناء حوار لي معه عام 2010 في عز صراع السينمائيين مع الـ"كافالييري"، العائد آنذاك إلى رئاسة الحكومة الإيطالية لفترة ثالثة (2008 - 2011)، وسط تخفيض للموازنة المخصصة للثقافة والفن، ممّا أثار موجة اعتراضات ضد عقيدته الليبرالية في التعامل مع الفن السابع.
رغم السهم الذي رماه كوستانزو في اتجاه برلوسكوني الذي توفي الإثنين الماضي عن 86 عاماً، فهذا لم يمنعه من ان يلجأ إلى شركة "ميدوزا" التي يمكلها برلسكوني لتوزيع فيلمه "عزلة الأرقام الأولى"، مصرحاً أنّ "من الممكن جداً إيجاد شركة تمنحك المال لإنجاز فيلم تشتم فيه برلوسكوني، لكن لا يمكنك الحديث عنه في فيلم جماهيري كبير". هذا يعطينا فكرة بسيطة عن الصعوبة التي تنصّل بها الوسط السينمائي منه، في ظل سيطرته شبه الكاملة على السينما في إيطاليا طوال العقود الماضية. لكن كلمة حق تُقال: نفوذه في السينما أضر بالبعض، كما أفاد البعض الآخر، وكان سلاحاً ذا حدين، ولو إن أحد الحدين كان أكثر ضراوةً.
باولو سورنتينو، مخرج آخر كان من أعداء برلوسكوني، وقد أنجز فيلماً عنه في عنوان "لورو" (بورتريه ينطوي على نقد لاذع للملياردير)، ومع ذلك، فبعض من أهم أفلامه، ومنها "الجمال العظيم"، وزّعته شركة "ميدوزا". لهذه الدرجة كانت العلاقة بين السينمائيين وبرلوسكوني ملتبسة ومتداخلة، بحيث يصعب فصل خيوط الإعتراض عن خيوط الإذعان. في إحدى الدورات الماضية من مهرجان البندقية، عندما وُجِّه سؤال إلى المخرج الإيطالي ميكيلي بلاتشيدو المعارض لسياسات برلوسكوني عن مشاركته في الـ"موسترا" بفيلم من إنتاج "ميدوزا"، لم يجد بلاتشيدو إلا الشتيمة رداً على السؤال، معتبراً أن مقاطعة شركة يملكها برلوسكوني تعني إنهاء حضور السينما الإيطالية في البندقية.
هيمنة وواقع جديد
هيمنة برلوسكوني على مجال المرئي والمسموع صنعت واقعاً جديداً في إيطاليا بدءاً من الثمانينيات، بسبب نفوذه الكبير في مجال الإعلام (مجموعة "ميدياست")، بحيث بات أمبرطوره. كان في قلب كل شيء، وصياً على الشاردة والواردة، محاولاً إيجاد أرض توافق بين السياسة والثقافة. إمتلك قنوات تلفزيونية خاصة، وتحكم في القنوات العامة من خلال موقعه السياسي، وأسس أكبر دار نشر في إيطاليا، وارتبط اسمه بصحف ومجلات عدة. ومن خلال شركة "ميدوزا" للإنتاج والتوزيع السينمائي، تدخّل في محتوى البرامج والأفلام التي تُبث على شاشاته، مانعاً في بعض الأحيان بث الأعمال التي تنتقده أو تنتقد حزبه أو سياساته. هذا التدخل أثار انتقادات من سينمائيين إيطاليين اعتبروه تهديداً لحرية التعبير، وأدانوا سعيه الدائم لتحويل السينما إلى سلعة استهلاكية وأداة لخدمة مصالحه الشخصية والحزبية والحد من تنوعها. في رأيهم أنه عمل على إضعاف دور السينما في تشكيل الوعي الجماهيري والحضاري للإيطاليين.
من خلال مؤسسات تدعم الثقافة والفن، صنع برلوسكوني أعداء كثراً، خصوصاً من اليساريين، فهو كأي رجل أعمال وسلطة، كان يعمل وفق مبدأ ربحي صرف. يتحسس مسدسه عندما يسمع كلمة "ثقافة" ما لم تخدم رؤيته. لم يكن يؤمن بالحوار في هذا المجال، بل بالسيطرة والهيمنة وبسط السلطة. أما السينما الفنية فكانت في نظره معقل اليسار، أصحابها يجلدون ذواتهم والآخرين، ويجب تقزيم دورهم مهما كلف الثمن.
قبل نحو عقد، عندما كانت تظهر علامة شركته "ميدوزا" التجارية في جنريك الأفلام المعروضة في مهرجان البندقية، كانت تعلو صيحات الإستهجان في الصالة، ومع ذلك، يقول أحد أعضاء لجنة المشاهدة في المهرجان نفسه، بأن شركته هذه تركت بصمات دامغة على الحياة الثقافية والفنية الإيطالية، سواء على المستوى الإنتاجي أو الجمالي، بدءاً من الثمانينيات حين تولى إنتاج كمية كبيرة من الأعمال التي وُزِّعت في جميع أنحاء العالم ونالت جوائز، علماً أنه كان دخل بزنس السينما كأي رجل أعمال يرى في الفن مكسباً مالياً ولا يرى فيه بُعداً ثقافياً.
قناة برلسكونية
نجاحه في مجال الإنتاج السينمائي جاء نتيجة حلف بين الشاشة الصغيرة (التي كانت بدأت تسرق جمهور السينما) والشاشة الكبيرة. فهو بعدما جمع ثروة من تجارة العقارات في ميلانو، استثمر أمواله في تأسيس أول قناة إيطالية خاصة، أطلق عليها "القناة الخامسة". هذه القناة ذات التوجه الشعبوي، استطاعت بفترة قياسية منافسة القنوات الإيطالية الرسمية، محطمةً كل الأرقام القياسية في نسبة المشاهدة، ولا تزال إلى اليوم الرقم واحد في إيطاليا. ولأن التلفزيون يحتاج إلى مواد لعرضها على المشاهدين، انكب برلوسكوني على الإنتاج السينمائي في فترة الثمانينات التي كانت تعاني فيها السينما الإيطالية من جمود وتراجع، فارضاً قواعد جديدة للسوق، في خطة اعتبرها البعض "إنقاذية" والبعض الآخر بديلاً مقبولاً للدعم الرسمي. ولإعطاء فكرة عن حجم تراجع السينما في الفترة تلك، ينبغي التذكير بأن استوديوات تشينيتشيتا أصبحت تحتضن مسلسلات هابطة ودعايات، بعدما كانت مفخرة السينما الإيطالية طوال الفترات السابقة.
الأعمال التي خرجت من تحت عباءة برلوسكوني كان فيها الغث والثمين: أفلام هابطة وسينما استهلاكية مشغولة على عجل، وبعض الأعمال الفنية الراقية. في المقابل، ولّدت سياسته الإنتاجية كسلاً فكرياً عند السينمائيين، وحثّتهم على عدم تحمل أي مسؤولية، فالمال يفسد الفن أحياناً، خصوصاً إذا كان النظام الإنتاجي المعمول به، لا يحتاج إلى عرض الفيلم في الصالات ليسترجع تكالفيه. لم تسلم سياسات برلوسكوني من الجدال، فبعضهم كان يعتبره المنقذ، في حين اعتبره آخرون رجل أعمال سلّع السينما الإيطالية المجيدة ووضعها في خدمة التلفزيون، خصوصاً أن قنواته كانت تقطع الأفلام لبث فقرات إعلانية، الأمر الذي أزعج فيديريكو فيللني. رفع الأخير دعوى قضائية، لكن المحكمة لم تنصفه. صحيح أن برلوسكوني لم يتسبب بأزمة السينما الإيطالية في هاتيك الفترة، لكنه عمّقها، ومضى فيها إلى المزيد من الإنهيار. وقد قام بتغيير قوانين الإنتاج السينمائي خلال توليه رئاسة الحكومة في العام 2001، ليسمح بمزيد من التحكم في صناعة الأفلام وتشجيع الأعمال التجارية التي تقوي موقع شركاته، مقلصاً الدعم الحكومي للسينما. رفضت مجموعة من السينمائيين هذه الإجراءات، واعتبرتها تدخلاً سافراً وتضييقاً لنطاق الحرية.
هكذا اذاً، بقوة المال والإستثمارات الضخمة ومد يد العون للفنّانين بشروطه الخاصة، فرض برلوسكوني نفسه على المشهد السينمائي، فأصبح مجمل السينما تحت رحمته، ليس فقط إنتاجاً وتوزيعاً بل عرضاً، فهو كان افتتح عدداً كبيراً من الصالات في أنحاء إيطاليا. ولم يتوانَ من التحالف مع أحد كبار المنتجين في إيطاليا، طمعاً بالسوق الدولية، لكن الملايين التي أُنفقت لم تحقق الأهداف المنشودة، فظلت طموحاته محلية.
أخذت السينما في الفترة الأولى من هيمنة برلوسكوني عليها، طابعاً سوقياً واستهلاكياً، يشبه بعض الشيء عقيدة الملياردير والفراغ الفكري الذي يرزح تحته. جاء هذا كله نتيجة التماهي مع خطاب اليمين الشعبوي، بحيث لا هم سوى الترفيه والتمسك بثقافة الإستهلاك في محاولة للحفاظ على المكتسبات.
سرجيو ليوني اتهمه صراحةً بتدمير السينما، آخرون مثل إيتوري سكولا رفض ماله مفضّلاً إجهاض مشاريعه، لكن من كل السينمائيين الذين عارضوا برلوسكوني، سواء في أفلامهم أو في تصاريحهم، تصدّر اليساري ناني موريتي المشهد، رغم أنه كان من الذين تلقوا دعماً إنتاجياً من مؤسسات برلوسكوني. هذا لم يمنعه من رفع الصوت ضد ممارسات الرجل. بعد فيلمه "نيسان" (1998)، حيث نراه يتابع نقاشاً تلفزيونياً بين برلوسكوني وخصمه، أنجز موريتي "التمساح" (2006)، وفيه يروي قصة مخرج أفلام رديئة يحاول إيجاد مثل يجسد دور برلوسكوني. موريتي لعب دور برلوسكوني بنفسه، متنكراً وجاعلاً منه كاريكاتوراً، مصوّراً إياه شخصاً يفتقد لأبسط القيم والمبادئ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عام 2010، كاد فيلم "دراكويلا" الوثائقي الذي يهاجم برلوسكوني، أن يثير أزمة دبلوماسية بين الحكومة الإيطالية وإدارة مهرجان كانّ. إختار المنظمون هذا الفيلم الذي أخرجته المتخصصة في الكاريكاتور السياسي سابينا غوتسانتي، مما أثار امتعاض وزير الثقافة ساندرو بوندي، فاعترض على أن يمثّل ايطاليا عمل إعتبره دعائياً ويشوه الحقائق ويسيء إلى الشعب الايطالي، فقرر مقاطعة الدعوة التي وجهت اليه لحضور المهرجان. انطلقت غوتسانتي من حادثة الزلزال الذي ضرب منطقة إيطالية اسمها أكويلا في ابريل (نيسان) 2009، متهمة "الكافالييري" بتوظيفه سياسياً لمكاسب مادية وأغراض مشبوهة. من خلال تحقيق أجرته في ملابسات هذه الكارثة التي يبدو أنها ساهمت في صعود شعبية برلوسكوني، نتعرف إلى الكيفية التي تعمل بها آلة البروباغندا البرلوسكونية لغسل أدمغة الإيطاليين وتأثيراتها الأخلاقية والنفسية والمالية.
أما ماركو بيللوكيو الذي لطالما اعتقد أن برلوسكوني يستخدم السينما كأداة تخدم فكره السياسي، فحاول ان ينجز كوميديا سوداء عنه، قبل أن ينسحب الممولون من مشروعه خشيةً من تداعيات سلبية على حياتهم المهنية. كان في رغبة بيللوكيو تصوير الحفلات الجنسية التي اشتهر بها الملياردير، ومن خلالها الحديث عن سوء استخدام السلطة في إيطاليا. اليوم، بعد أكثر من عقد على المشروع، لا يتوقف بيللوكيو عن التصوير، مستفيداً من نظام جديد فرض نفسه، يدعم السينما غير الربحية ويسهّل عملية الإنتاج ويصون الفكر الحر، فيما برلوسكوني بات من الماضي القريب والبعيد.