منذ سنوات تتسع أزمة وسائل الإعلام اللبنانية لتشملها جميعاً. ففيما أغلقت مطبوعات عريقة، غرقت القنوات التلفزيونية في العجز فنالت منها أيضاً الأزمة بدرجات مختلفة.
يصعب تصنيف الأزمات التي مرّت بها التلفزيونات اللبنانية من حيث حدتها، لكن مما لا شك فيه أن التي مرّ بها تلفزيون المستقبل كانت الأشد وطأة، خصوصاً أن عقباتها كانت الأكثر وضوحاً للمجتمع مع توقف التلفزيون عن عرض البرامج ونشرات الأخبار على أثر الإضراب المفتوح الذي أعلنه الموظفون. ويبدو أن تلك الأزمة التي نالت من تلفزيون المستقبل تعود إلى سنوات عديدة ماضية. فعلى الرغم من أن ملامحها لم تظهر واضحة إلا منذ سنوات قليلة، تؤكد إحدى الموظفات في التلفزيون التي فضّلت عدم ذكر اسمها أن الأزمة بدأت عام 2009، لكنها بدت ككرة الثلج التي راحت تكبر من دون توافر سبل للمعالجة، إلى أن انفجر الوضع بشكل لم يعد من الممكن احتماله وكانت النتيجة توقف الموظفين عن العمل إلى حين تأمين حقوقهم، فيما بدا الأفق مسدوداً.
وتقول "الأزمة التي نواجهها لا تتعلق بالتلفزيون فحسب، بل هي تشمل الإعلام ككل. ثمة ذهنية سائدة اليوم ترسخت مع الوقت بأن الموظف يمكن أن يعمل من دون أن يتقاضى أجراً. في ما يتعلّق بتلفزيون المستقبل كنا نعلم بوجود أزمة لكن لم يعد من الممكن أن نستمر أكثر بعد كل ما مررنا به. فمنذ عام 2009 بدأت الصعوبات، وعرفنا أن المال السياسي قد توقف بعد الانتخابات. لكن الأزمة زادت تدريجاً وتحمّلنا كثيراً إلى أن اتخذنا قراراً بالتوقف عن العمل، فتوقفت نشرات الأخبار والبرامج. صبرنا طويلاً وتمسّكنا بالوعود التي كانت تعطى لنا لأننا نعشق هذه المؤسسة الجامعة التي لا تشبه أخرى والتي تضم أشخاصاً من مختلف الانتماءات والطوائف. لم نكن نريد أن نخسرها فخسارتها فاجعة في البلد في هذا الوقت تحديداً، لكننا عشنا دراما يومية حقيقية وشهدنا على مصائب كثيرة لعائلات لم تعد تستطيع الاستمرار في ظل الوضع المعيشي الصعب. ثمة معاشات متوجبة لنا من عام 2015 والوضع لم يعد يحتمل مزيداً من الانتظار. وصلنا إلى النهاية المحتّمة والأمور اتضحت أكثر بعد أن اتخذنا قرار الإضراب المفتوح ولم يصدر بيان رسمي. ثمة وعود دائمة بالدفع لكننا لسنا متـأكدين من ذلك".
من المؤكد، أن هذه الأزمة التي طاولت مؤسسة عريقة كتلفزيون المستقبل تشكل فاجعة حقيقية بالنسبة إلى اللبنانيين عموماً وللموظفين خصوصاً. فهؤلاء تحمّلوا الصعاب، في انتظار أن يتحقق أملهم في الاستمرار في مؤسسة تفانوا في العمل من أجل استمرارها. لكن، هنا يطرح السؤال حول ما إذا كان تمسّك الموظفين بالمؤسسة كافياً وحده في ظل عدم تجاوب القيّمين لإنقاذ المؤسسة بأية طريقة ممكنة.
بين أزمة المستقبل وأزمات "أل بي سي"
ليست أزمة تلفزيون المستقبل الوحيدة في عالم المحطات التلفزيونية، وإن كانت الأبرز على الساحة في المرحلة الحالية لما ترتب عنها من نتائج. ففي مرحلة سابقة شهدنا أزمات المؤسسة اللبنانية للإرسال، وكان أبرزها أزمة موظفي شركة "باك" منتجة برامج "إل بي س"ي الأرضية، إثر النزاع مع الوليد بن طلال في عام 2012. علماً أن "باك" كانت تضم أكثر من 400 موظف صرفوا من العمل من دون أن تعطى لهم حقوقهم من تعويضات ورواتب مستحقة.
وعلى أثر ذلك، دخلت القضية في مرحلة من الدعاوى والمحاكم ليطالب المصروفون بحقوقهم، إلى حين صدر قرار قضائي بالإفلاس الاحتيالي. لكن، على الرغم من أن القرارات القضائية أتت لمصلحة المصروفين، لم تنفذ حتى اليوم ولم يحصلوا على شيء من حقوقهم. وتظل إلى اليوم الأضواء مسلّطة على هذه القضية التي شكلت فضيحة في الساحة الإعلامية. لكن، للأسف مرت سنوات استمرت فيها معاناة الموظفين من دون أن يلقوا صدى لمطالبهم، على الرغم من وقع هذه الأزمة على كل هذه العائلات المتضررة.
وبحسب الإعلامية غيتا قيامة من لجنة متابعة المصروفين من شركة "باك"، "عندما تم الإعلان عن وجود أزمة اقتصادية استمررنا بالعمل خلال 4 أشهر والتزمنا بما ينص عليه القانون. وفي مرحلة لاحقة في وزارة العمل، أقمنا اتفاقية تُلزم إعطاءنا حقوقنا، لكن لم يطبق شيء من ذلك. دخلنا حينها في دعوى قضائية وصدر قرار قضائي بوجود إفلاس احتيالي. لكن، كل القرارات الصادرة ومنها القرار الصادر من المحاكم الفرنسية لاعتبار أن الشركة مسجلة في جزر الكايمان لم تدخل حيز التنفيذ".
على الرغم من الجهود والمساعي على مختلف الصعد لا تزال الأمور، وفق قيامة، "في مكانها ولم تصرف حقوقنا بعد. شخصياً، عدت وتوظفت في إل بي سي من 6 سنوات، لكن كثراً من المصروفين من باك الذين تفانوا في العمل في الشركة طوال 20 عاماً، أصبحوا عاطلين من العمل، خصوصاً أن أعمارهم لا تسهّل إيجاد وظائف لهم في مجال الإعلام حيث الأزمة متفاقمة. هذا القطاع مظلوم وما يزيد الوضع سوءاً تردي الوضع الاقتصادي. واليوم، كثرت محطات التلفزيون في مقابل تراجع واضح في مجال الإعلانات. يضاف إلى ذلك أن نسبة مهمة من التلفزيونات تقوم على المال السياسي، ما يزيد الوضع صعوبة".
وكأن المؤسسة اللبنانية للإرسال لم تكفها هذه الأزمة التي استمرت تداعياتها سنوات عدة، ففي الوقت نفسه برزت قضية الأحقية في ملكية المؤسسة المحلية "أل بي سي" التي تأسست في الثمانينيات في مواجهة بين بيار الضاهر وحزب القوات اللبنانية بشخص رئيسها الدكتور سمير جعجع. هذه الأزمة التي دامت أيضاً سنوات طويلة تخللتها دعاوى وسجالات في المحاكم إثر إقامة القوات اللبنانية دعوى ضد المؤسسة اللبنانية للإرسال ورئيسها بيار ضاهر ولا يزال الملف عالقاً.
"إم تي في" أزمة من نوع آخر
لم تنجُ محطة تلفزيونية من الأزمة، لكن قضية "أم تي في" بدت مختلفة تماماً عما شهدناه على الساحة لما تخللته من نزاعات ضمن العائلة الواحدة حول الأحقية في رئاسة مجلس إدارة Studio Vision المنتجة، وذلك ما بين غابريال المر وابنه جهاد وابنته كارول من جهة، وابنيه ميشال وكارل من جهة ثانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فعلى الرغم من أن الخلافات بين الطرفين قديمة حول إدارة Studio Vision، فإن الصراعات احتدمت ووصلت الأمور إلى القضاء، فكانت الرغبة في النفوذ والسلطة والمال أقوى من أي اعتبارات أخرى لتشهد الساحة الإعلامية صراعات من نوع آخر لم تشهد لها مثيلاً من قبل.
بقيت الصراعات إلى اليوم تنبئ ساعة بفوز غابريل وساعة بفوز ميشال في ظل حيرة الموظفين وارتباكهم بشأن هذا الموضوع.
وآخر التطورات حول هذا الصراع صدور قرار عن محكمة البداية في جبل لبنان بالرجوع عن تجميد رئاسة جهاد غابريال المر لمجلس إدارة Studio Vision، وبالتالي عودته إلى منصبه واستبعاد شقيقه ميشال.
وكان قد سبق هذا القرار قرار في أبريل (نيسان) الماضي للجمعية العمومية بتعيين جهاد رئيساً لمجلس الإدارة، إلا أن القرار لم يطبق إلا لساعات لأنه سرعان ما عاد ميشال وحصل على قرار من قاضي الأمور المستعجلة بتجميد قرار الجمعية.
واللافت أن هذا الصراع زاد حدةّ وخرج إلى العلن عبر وسائل الإعلام التي سلطت الضوء على خلافات العائلة وعلى تراشق في الكلام غير مسبوق بين أفرادها. هذا، فيما يبرر كل من الطرفين الخطوات التي يقوم بها ومساعيه إلى الحصول على المنصب. وتبدو الخلافات المستمرة من سنوات بين أفراد العائلة الواحدة بعيدة من المألوف وتصعب مقارنتها بغيرها من الأزمات التي تشهدها محطات التلفزيون اللبنانية أو وسائل الإعلام كلها. يبقى السؤال مطروحاً حول الجهة الفائزة بعد كل هذه النزاعات الداخلية التي تأتي في الوقت غير المناسب مع اشتداد الأزمات المالية على المؤسسات الإعلامية التي تبدو في معظمها عاجزة عن الوقوف في وجهها والتي يبدو من الأجدى تحدّيها بشتى الطرق المتاحة.