Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين الخروف والفرخة جدل الأضاحي يطغى على العيد في مصر

تضاؤل القدرة المالية وسط الأزمة الاقتصادية الخانقة دفعت كثيرين إلى البحث عن ذبائح بديلة في الفتاوى الدينية

شراء خورف العيد أصبح أمراً صعباً في مصر في ظل ارتفاع الأسعار (الحقوق محفوظة - وسائل التواصل)

ملخص

فتاوى مصرية أجازت شراء أضحية العيد بالتقسيط أو ذبح طيور لمواجهة الغلاء وارتفاع الأسعار... فماذا يقولون؟

فريق قليل العدد، خافت الصوت، ضئيل الأثر، يقول إن المصريين فقدوا القدرة على الاجتهاد، وأغلقوا آذانهم وقلوبهم وعقولهم أمام أية محاولات للتفكير أو جهود للتجديد، وفريق كبير العدد، زاعق الصوت، كبير الأثر، يقول إن المصريين ما زالوا على رغم الصعوبات الاقتصادية والمطبات السياسية، قادرين على التمسك بتلابيب دينهم والحفاظ على صميم ممارساتهم العقائدية تماماً كما كان يفعل الأولون، وعلى رغم أنف من "يدعون" أنهم مجددون.

تجديد خروف العيد

محاولات تجديد "خروف العيد" أسفرت عن تحويله إلى "فرخة" (دجاجة)، وفي أقوال أخرى "بطة"، وفي ثالثة "وزة"، هذا كل ما رأته الجموع وفهمته الجماهير من نقل عنكبوتي لتغطية صحافية منقولة من حوار تلفزيوني لرجل الدين المصنف لدى الأقلية باعتباره متنوراً وقادراً على تخليص الخطاب الديني المصري مما لحق به من غبار السبعينيات وصدأ جماعة "الإخوان المسلمين" وعكارة شتى جماعات الإسلام السياسي، وهو نفسه رجل الدين المصنف لدى القاعدة العريضة الممسكة بتلابيب نسخة التدين السبعينياتية المتوغلة في كل صوب وحدب بالخارج على المنهج والمبتعد عن المراد.

أراد أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر سعد الدين الهلالي أن يرد على تعبئة الأثير المصري، ومنه إلى العقل الجمعي بكم مذهل من دعوات شراء الأضحية، وإن تعذر ذلك بصكوكها بالتقسيط أو الاقتراض، إضافة إلى فتح باب "السلف" والتقسيط من أجل أداء فريضة الحج التي هي في الأساس "لمن استطاع إليه سبيلاً".

قال الهلالي في مداخلة عبر برنامج تلفزيوني إن الأصل في الاقتراض مشروع، شرط أن يتعلق بالرشد، وإنه يتفهم أن يقترض شخص من أجل أن يؤدي فريضة الحج للمرة الأولى في حياته. وأضاف "أما الأضحية عبر الاقتراض، فالأمر مختلف"، لافتاً إلى أن بعض المذاهب تعتبر الأضحية سنة، في حين يراها البعض الآخر واجبة، ولكن ليست فريضة. وأشار إلى أن الفقهاء أجمعوا على أن الأصل فيها هو منح لحومها لأهل البيت والتصدق بقليل منها.

وبينما الهلالي يتابع مداخلته، إذ بالدماء تغلي في عروق بعض من أعضاء الفريق الثاني الممسك بتلابيب الدين وتفسيراته كما وردت على ألسنة مشايخ بأعينهم، لا يحيدون عنها قيد أنملة، على رغم أنها في الأصل اجتهاد منهم قابل للتجديد.

الاشتياط غضباً

غليان العروق تفجر نقداً وقدحاً لاذعين على منصات التواصل الاجتماعي، بينما الرجل يتكلم، قطاع عريض من المصريين يشكو الأمرّين من أزمة اقتصادية طاحنة طرحت الجنيه أرضاً، ودفعت بنسب التضخم لتناطح السحاب، ودفعت بالطبقة المتوسطة في اتجاه خط الفقر، وبالقاطنين في المناطق المحيطة بالخط إلى ما تحته بكثير، هذا القطاع نفسه لا يجد غضاضة أو غرابة في الدخول في "جمعية" (اتفاق بين مجموعة من المعارف على أن يدفع كل منهم مبلغاً ثابتاً شهرياً ويتقاضى أحدهم المجموع كل شهر)، أو التقدم بطلب للحصول على قرض من البنك من أجل شراء "خروف العيد"، أو حتى الاستدانة من الأهل والأقارب لشراء صك أو صكين لهما الأولوية على سداد قسط مدرسة الصغار أو قسطين.

هذا القطاع متشوق لشراء "خروف العيد"، وكأن الجنيه استعاد عافيته أمام الدولار (خسر الجنيه ما يزيد على نصف قيمته أمام الدولار)، أو أن التضخم استمع لصوت العقل بعد أن جن جنونه (وصلت نسبته في مايو/ أيار الماضي إلى 32.7 في المئة في صعود وصف بالتاريخي)، أو أن قدراتهم الشرائية استعادت عافيتها المنكسرة المنتكسة.

غالبية التعليقات عكست غضباً مشتعلاً، واحتوت على غيظ مكمور، وبدا تماماً أن للهلالي جمهوراً هادراً ينتهز الفرصة، ولكن في الاتجاه المعاكس، وربما يبحث عنه ليسفه من كل قول ينطق به، ويسخر من كل اجتهاد يتفوه به، ويرفض كل مقترح يطرحه للنقاش، ووصل الأمر إلى درجة أن بعض من سارعوا إلى المشاركة في "جهاد" الرفض والسخرية عبر الـ"سوشيال ميديا" لم يكن أتيح لهم مشاهدة أو متابعة أو معرفة ما قاله الهلالي، فقط أتوا ليشاركوا في السخرية والرفض، ومنهم من ذيل سخريته أو رفضه بسؤال "ماذا قال هذه المرة؟".

الاستدانة للصدقة

هذه المرة، أضاف الهلالي في مداخلته التلفزيونية أن التصدق بثلث الضحية والإبقاء على ثلث منها لأهل البيت، وتوزيع الثلث الأخير على الأهل والجيران مسألة لم ترد إلا في حديث أخرجه أبو موسى الأصفهاني. وأضاف "لو أن الغرض من الأضحية صدقة، فمن عدم الرشد الاستدانة عملاً بقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في البخاري، وأخرجه أحمد "لا صدقة إلا عن ظهر غنى"، بخاصة أن ثمن التقسيط أعلى من الكاش، ومن ينتفع بالفرق هو التاجر وليس الفقير، كما أن التقسيط له أخطار الملاحقة".

لكن ما حدث لحظياً هو أن الهلالي هو من وجد نفسه في عين الملاحقة، صخب وصل إلى حد الصراخ، ورفض تطاول بعضه ليصل إلى درجة السباب، وقليلون فقط هم من عارضوا أو عبروا عن اعتراض عبر طرح رأي مغاير.

زاد الطين بلة

وزاد طين ترجيح رفض الاقتراض لشراء "خروف العيد" بلة ما ذكره الهلالي عن "نشر ثقافة الأضحية بالطيور بدلاً من نشر الاستدانة والتقسيط"، ومضى الهلالي قدماً في تحطيم "الثوابت" الشعبية المرتبطة بـ"خروف العيد"، وهي التي تجمع من اعتادوا التضحية ومن لم يفعلوها طيلة حياتهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولم يلتفت الهلالي – وربما التفت، لكن لم يبال - حين وسع دائرة العداوة وعمق حفرة الضغينة بقوله "علينا كذلك نشر ثقافة حرية شراء اللحوم بالكيلو من الجزارين مباشرة، وليس شراء الصكوك المحددة بـ10 أو ثلاثة كيلوغرامات كما تنص الإعلانات".

هنا دخلت عشرات الجمعيات "الخيرية" الإسلامية على الخط، والتحمت بالجماهير الغفيرة الممسكة بتلابيب "خروف العيد"، ولو بالتقسيط أو الاستدانة، أو حتى الإبقاء عليه معززاً مكرماً في الأماكن المخصصة لبيع الخراف مرحلاً للعام المقبل لعل الاقتصاد يتحسن والجنيه يتعافى والتضخم يتلاشى.

موسم الأضحية

عشرات الجمعيات تعتمد في وجودها بشكل رئيس على "موسم" الأضحية، في الأيام الأكثر رخاءً ورفاهاً، كانت تقدم خدمات الذبح بالإنابة، كما كانت تبيع الصكوك عبر أكشاك في كل ركن من أركان مصر، وفي الأيام العجاف، حيث ثالوث التعويم والغلاء والتضخم يحكم قبضته على جيوب الجميع، وجدت في عروض التقسيط وخدمات الصكوك المشتركة ما أعطاها مساحة أوفر وضمن لها عملاً أوسع، وشد من أزرها تواتر فتاوى جواز التضحية بالتقسيط أو الاقتراض.

الجمعيات لا يمكنها المجاهرة بعداوة مباشرة أو الدخول في معركة صريحة مع رجل دين، حتى لو كان مختلفاً عليه ولا يحظى – كعادة رجال الدين في مصر الحديثة - بمكانة أشبه بالأنبياء والقديسين، وشمر عديد من رجال الدين عن سواعدهم ودخلوا بكل قوتهم إفتاءً مضاداً ورفضاً قاطعاً وتنديداً واضحاً لمسألة الترشيد ومنظومة التضحية بطائر وفكرة النأي برأي الدين عن "فتاوى الرخاء، ومنها الإكثار من الحج والعمرة" (والتي كانت الضربة القاصمة التي أنهى بها الهلالي مداخلته).

اصطفاف رجال الدين

رجال الدين الذين اصطفوا اعتراضاً بعضهم ينتمي إلى المؤسسات الدينية الرسمية المصرية، وبعضهم محسوب عليها، وفريق ثالث يعمل وينشط تحت مظلة جماعات الإسلام السياسي وينشطون في مواسم المصائب ومناسبات الكوارث ليضيفوا معولاً إضافياً من معاول الهدم.

مواقع ومنصات "إعلامية" تابعة لهذه الجماعات تستثمر الفرصة الذهبية هذه الآونة بكل ما أوتيت من قوة "جرافيكس" وبأس "سوشيال ميديا"، صور مركبة تجمع بين الهلالي والكاتب الطبيب خالد منتصر والباحث والإعلامي إسلام البحيري (وثلاثتهم يشكلون أعدى أعداء هذه الجماعات، وكذلك الجماهير الغفيرة التي لا تعترف إلا بالنسخة بالغة التشدد من الدين) تنتشر على الأثير العنكبوتي معلنة ضياع الدين وخراب الدنيا مذيلة بصورة ديك.

الزميل اللدود

وتتوالى التغريدات والتدوينات جبناً إلى جنب مع مئات الموضوعات الصحافية واللقاءات التلفزيونية المخصصة والموجهة للرد على ما قاله الهلالي، وأول المعارضين المهاجمين هو الزميل "اللدود" له أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر أيضاً أحمد كريمة، والذي لا يقل عن الهلالي إثارة للجدل، ولكن في الاتجاه المعاكس الذي ينعته البعض بـ"المتشدد".

"كلام خاطئ جملة وتفصيلاً"، "كلام شاذ وضعيف ومرجوح"، وجمل وعبارات أخرى كثيرة أطلق لها كريمة العنان في إطار رده على الهلالي (دائماً ما يلجأ إليه الإعلام للرد على تصريحات وآراء الهلالي إمعاناً في إثارة مزيد من الجدل وتأمين قدر أوفر من "الترند")، حيث قال إن الله جعل الشعائر العبادية للمسلمين "بهيمة الأنعام"، وأن النحر يكون للإبل والبقر والجاموس، وهو المنقول من القرآن والسنة وإجماع العلماء في كل زمان ومكان، مشهراً أن "القول بغير هذا مرفوض شكلاً وموضوعاً".

شكل الاعتراض على موقف الهلالي وموضوعه تراوح بين الجد والهزل، شخص يعرف نفسه بأنه "داعية" وكثير الظهور في الإعلام اسمه محمد علي اختار أن يقول "حين تقول الطيور (ماء)، حينها يجوز جعلها أضحية".

آراء سلفية

أما أحد "مشايخ" السلفية واسمه مازن السرساوي فسجل مقطعاً صوتياً وجه فيه سلسلة من الشتائم والاتهامات للهلالي، واصفاً آراءه بالبعد عن الحق، وأنه يجري تقديمه كـ"علامة، وهو ليس بذلك".

يشار إلى أن السرساوي سبق وأفتى في عام 2017 بأنه يحق للرجل أن يتزوج من ابنته التي أنجبها من علاقة غير شرعية، معللاً ذلك بأن الابنة التي تنجب من علاقة غير شرعية لا تنسب رسمياً للأب، وبذلك لا تكون ابنته شرعاً فيجوز له الزواج منها.

ما يجوز وما لا يجوز صارا محل عراك محتدم في مصر في العقود القليلة الماضية، "ما يجوز" يتحول إلى "ما لا يجوز" بحسب الهوى والتوجه، غالبية رجال الدين يعتبرون محاولات غيرهم من رجال ونساء التفكير أو الاجتهاد أو محاولة الفهم والتفسير دون إذن مسبق منهم أمر لا يجوز.

الغريب أن رجال الدين أنفسهم يرفضون اجتهاد وآراء أقرانهم وزملائهم حين تأتي على غير هواهم أو خارج السياق الضيق المحدد مسبقاً، فإن جاءت مختلفة عنها فإنها "حرام"، أما حين تتسق ومواقفهم وآرائهم واجتهاداتهم، فإنها "حلال".

اللافت أن صفحات وحسابات عديدة لمواطنين عاديين ورجال دين منتمين لمؤسسات دينية رسمية لجأت إلى "إمام الدعاة" الذي رحل عن عالمنا قبل ربع قرن محمد متولي الشعراوي سارداً منظومة الأضحية ومفنداً أنواعها وشارحاً قيودها وشروطها.

أما الأضحية، وعلى رغم غياب "الخوار" وخفوت "المأمأة" هذا العام، وعلى رغم بقاء الدجاج والبط والأوز على حالها وتضاؤل احتمالات اللجوء إليها لتحل محل الأبقار والخراف، فتبقى حلماً يداعب مخيلة الملايين تترجمه الأقساط إلى حقيقة والقروض إلى واقع رغم أنف الهلالي والقلة المرحبة برأيه.

يقول المصريون إن "بصلة المحب خروف"، لكن لا مجال لما يحل محله، سواء كانت بطة أو أوزة أو "فرخة".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير