ملخص
"مسامرات في الحياة الثانية" قصائد معرفية تنجح في ترسيخ المعادلة الصعبة
أستريح كثيراً لوصف قصيدة محمود قرني بأنها "قصيدة معرفية"، فهي تنأى عن أن تكون انسيالاً عاطفياً أو تعبيراً عن المشاعر والتجاذبات الروحية المفارقة للواقع الحياتي. وظل قرني لنحو أربعين عاماً ينسج معادلته الشعرية الصعبة بين دروب المعرفة المختلفة التي تتمثل في التاريخ والسياسة والفلسفة من ناحية، والشعرية اللافتة من ناحية أخرى، من دون أن تتحول قصيدته إلى استعراض معلوماتي جاف. ويرجع ذلك إلى حرصه دائماً على أن ينطلق من وقائع حياتية، سواء كانت ذاتية أو عامة، وقد تجلى ذلك كله في ديوانه الجديد "مسامرات في الحياة الثانية" (دار الأدهم - القاهرة).
والمقصود بالحياة الثانية الحياة التالية لفناء الجسد، لكنها في تصوري تعني أيضاً الحياة الماضية التي يعود فيها الشاعر إلى الحضارة المصرية القديمة، حين يستدعي أوزوريس، إله الفزع العظيم، أو يشير إلى "خبز الطهارة" الذي تمنحه آلهة الموت لكل من باركت خطواته نحو الجنة. أو حين يتوقف أمام التواريخ المفصلية في التاريخ المصري الحديث مثل عام 1882، عام الاحتلال البريطاني لمصر، وثورة يوليو (تموز) 1952، وأخيراً ثورة يناير (كانون الثاني) 2011. ووسط هذا يأتي على ذكر وليم فوكنر، وأرنولد توينبي، والشيوخ محمد عليش وحسن العدوي وأبي العلا الخلفاوي، الذين أيدوا الثورة العرابية واعتبروا الخديوي توفيق (حاكم مصر وقتئذ) مارقاً لأنه أيد مصالح الإنجليز وانتصر لهم على بلاده.
السرد الشعري
ينطلق شاعرنا إذاً من وقائع تاريخية تتسم بالدراما، وهو ما يحقق شاعرية قصيدته، من خلال ما يمكن أن نطلق عليه "السرد الشعري التاريخي" الذي يتبدى بأوضح ما يكون في قصيدة "عن زرافة جميلة يمكنك أن تطلبها للزواج"، بخاصة المقطع الأول (القاهرة 1882) هذه السنة التي كان الناس يسيرون فيها مثل جماجم أكلتها النيران، كأنهم ينتظرون قيامة آخر الزمان، وكان العرابيون المتجهون لقصر عابدين: "يركبون خيولهم/ يعبرون بين السوقة والرعاع/ فيهتف الناس بصيحات النصر". وهكذا يبدأ السرد من خلال بنية زمنية مطردة، وصولاً إلى هزيمة العرابيين التي أطفأ الناس بعدها المشاعل "وانتظروا الموتى متبوعين بالصرخات والعويل"، وخرج الخائنون الذين اختبأوا في الأقبية - ساعة الثورة - "ليشموا الهواء في أفنية خلت من ثوارها". هذه النهاية المأسوية التي ألقت بظلالها على الجميع، و"بعد عشرين عاماً من هذا التاريخ/ عاد الزعيم من منفاه/ حزيناً كدمعة يحبسها الكبرياء/ مريضاً كقائد خانته يمناه". وعلى رغم الزمن الطويل الذي يفصل بين 1882 و2011 فإن أحلام الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ما زالت ماثلة، وهو ما يصوره الشاعر في المقطع الثاني حين يقول "اقترب مني رجل ذو سحنة إنجليزية/ كان يتحدث العربية بطلاقة/ عرض عليَّ المساعدة/ فشكرته على ذلك/ وفهمت أنه هنا كغيره/ تمثيلاً لبقايا الكلونيالية". وكما هزمت الثورة الأولى، أجهضت الثورة الأحدث فبدت أعمدة الإنارة "كقناديل لحرية معطوبة/ وساحة الميدان وردة عذراء لوثها الرصاص"، كما بدت اللحى التي تتكاثر بين الثوار "كخنجر في خاصرة الثورة".
هجاء الرأسمالية
يحتوي الديوان - في أكثر من موضع - على هجاء ساخر وحاد للرأسمالية التي فرضت هيمنتها على العالم... "ثمة حديث عن أن العمال سينتفضون في قابل الأيام/ لكن شيئاً لم يحدث"، بينما "البورصة لا تنطفئ أضواؤها". وثمة حديث عن أن "رجلاً اشترى نصف الكرة الجنوبي/ لقاء امرأة سمراء فارعة... وثمة حديث آخر عن أن نصف الكرة الشمالي/ سيبيعه الساسة الجدد لقاء جبال الماس في آسيا الوسطى". هذه النزعة المادية التي تستبيح كل شيء في سبيل طموحاتها وجشعها، لا بد أن تعمل على "تطهير العالم/ من الأساطير التي خلفها بيدبا الفيلسوف"، كما تكمن السخرية في استبدال الشاعر شعار "أنا أتسوق إذاً أنا موجود" الدال على النزعة الاستهلاكية بشعار ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود". وفي قصيدة "أمجد ناصر - عشرة أبواب للسعادة"، يصور قرني بشاعة الرأسمالية التي لا تتردد في افتراس الأوطان، ولا يجد الشاعر - أمجد ناصر - حيلة سوى أن يترك فقط "خريطة مضللة/ لقط الرأسمالية الأسود/ الذي أكل أحشاء عدن/ واستكمل مأدبته بعظام صنعاء".
وفي قصيدة "تفاؤل" يصف الحضارة بأنها عظيمة في ذاتها لكن "ينقصها فقط رجل يعيد الذرة إلى سابق عهدها/ قبل الانشطار". أي رجل ينزع عنها طابعها التدميري وهو أمر يتسم بالاستحالة، مما يجعل هذا التفاؤل الوارد في العنوان مشكوكاً فيه. وفي هذه الحالة لا يملك الشاعر سوى "سباب الإمبراطوريات" التي تتوسع بقوتها التدميرية على حساب غيرها.
غواية الرائحة
تكثر في الديوان دلالة "الرائحة" سواء كانت رائحة الحرب النفاذة أو رائحة الزهور التي تتفتح ناشرة عبقها - في ما هو مفترض - على الجميع، أو رائحة "الغائب" التي تجذبه للعودة إلى موطنه الأول. ففي "زغرودة من أجل الحكمدار" يتحدث الشاعر عن أمه التي تسأله حين يهاتفها "متى ستعود أيها الغريب؟" فيقول لها: "رائحتي ما زالت بين يديك/ والرائحة تسترد البعيد"، لكن الشاعر ينأى عن هذه الحميمية حين يتحدث عن "رائحة الزهور" التي كان من المفترض أن تفوح على الجميع "لكن اليساريين القدامى/ يقولون إن الرأسمالية/ عقدت معها صفقة شيطانية". وهو ما يعد تمهيداً للحديث عن "الحرب نفاذة الرائحة" التي يأمل الشاعر أن يعلن تجار السلاح توبتهم "قبل حلول فصلها الأخير". وهكذا يتخذ دال "الرائحة" تجلياته الرمزية. ويتوازى ذلك مع الحضور الزمني المهيمن على وعي الشاعر في قوله - مثلاً - "إنه يوم الجمعة/ الذي لا أحب منه إلا صوت أمي/ أهاتفها عادة في منتصف نهاره/ فيأتيني صوتها كوردة جرحها عاشقان". وفي قصيدة "أمجد ناصر - عشرة أبواب للسعادة" يقول "اليوم هو الثلاثاء/ هو نفسه اليوم الذي فاز فيه الشاعر بالمنفى"، ناهيك بتحديد أعوام التحولات الكبرى في التاريخ المصري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شك أن القصيدة المعرفية عند محمود قرني تدفعه إلى الاعتماد على تقنية التضمين والإشارات المتعددة إلى الأحداث والشخصيات الشهيرة، ففي "زغرودة من أجل الحكمدار" يضمن بيتي حافظ إبراهيم اللذين كان جده لأمه يضعهما في مقدمة شكاياته ضد "سعد بك العيسوي" عمدة البلدة: "لا تلم كفي إذا السيف نبا/ صح مني العزم والدهر أبى/ رب ساع مبصر في سعيه/ أخطأ التوفيق في ما طلبا". أو تضمينه لقول الشاعر الإنجليزي وليام ووردزورث: "إني لأعجب كيف لشعب/ أن يأخذ درساً من كلب؟"، تعليقاً على مباركة الكنيسة صعود نابليون إلى عرش فرنسا. أو قول نيتشه في "هكذا تكلم زرادشت": إن "كل شيء طلب الكمال/ فقد طلب الموت"، مبدداً بذلك حلمه المستحيل في خلق "السوبر مان". وفي موضع آخر نراه يشير إلى صفقة "فاوست" مع الشيطان حين يقول لأمه "لعلها الصفقة الخاسرة/ التي عقدتها مع شيطان/ يسكن جلباب بائع الكتب القديمة/ عندما استبدلت بصحيح البخاري/ عشرة أعداد من مجلة تضج بتصاوير النساء". وفي قصيدة "موت بطل الروايات الناقصة" - وفي المسامرة الأولى - نراه يحاكي الأدعية التي كان يقولها المصري القديم أمام الإله حين يقول "بحكمة الآلهة/ كنت طيباً/ فلم أسط على غلة جاري/ كما لم أراود أخته عن نفسها/ ولا سرقت محراثاً/ ولا أشعلت النار في مخزن غلال الملك/ لأخفي دفاتر الحسابات المزورة".
لا يطرح محمود قرني آلامه بصورة آسية مستسلمة على نحو ما كنا نرى عند بدر السياب مثلاً. إنه في تصوري أقرب إلى صلابة أمل دنقل في "الغرفة رقم 8"، فنراه في "زغرودة من أجل الحكمدار" يتجاهل موت أمه ويصر على مهاتفتها حين يقول "إنه يوم الجمعة/ وقد أدركني منتصف نهاره/ سأهاتف أمي حالاً/ ولن أقيم أي اعتبار/ للنعي الذي نشره إخوتي عن وفاتها/ صبيحة الثلاثاء الماضي". وفي قصيدة "تفاؤل" يواجه متاعبه بشموخ مصارع قديم: "قدماي تتورمان بفعل فساد في كبدي/ وبفعل الدماء التي تتسرب من مخارجي/ ومع ذلك أدخل المستشفى/ بشموخ مصارع قديم". إننا أمام شاعر يحتفي بالحياة، فعندما يحمله ابنه ويذهب به إلى المتجر ليشتري بزة تليق بالموت نراه يشتري "شالاً أحمر" كانت تعشقه امرأة جميلة ما زالت تطارده في المنام.