ملخص
"أمل" عنوان المعرض الذي تقيمه الفنانة التشكيلية جنان الخليل، العائدة بعد غياب قرابة 25 عاماً عن لبنان، في غاليري كاف - بيروت، في مبادرة للتذكير بريشة رسامة هجرت بيروت منذ زمن الحرب وعادت إليها، محملة بالذكريات والرؤى والمشاهد.
في لوحات الرسامة جنان الخليل أشياء من فرح الحياة وكسورها وحطامها وأحداثها المتشابكة وتفاصيلها المبهمة، المغطاة بابتسامة الطبيعة وربيع فصولها. الفنانة هي من خريجات معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية في بيروت عام 1988، أسهمت في مطلع التسعينيات في إدارة غاليري مرام في شارع الحمرا بالتعاون مع الفنان والناقد زهير غانم، لكنها انتقلت للعيش في البحرين بعد نجاح معرضها هناك، واستقرت في المنامة حيث تولت إدارة غاليري "فيروز" بالتعاون مع الفنان جمال عبدالرحيم، وعرضت نتاجها في عدد من العواصم العربية والأجنبية قبل أن تتنقل للإقامة في القاهرة.
ثمة بداية قد تكون ضربة لون أو شكل ولا يهم كيف يصدر بأي ارتجال، ولكن أمام اللوحة الفارغة كل المشاعر تتأهب لاستكمال المغامرة من دون معرفة نتائجها. غالباً ما تصيب لوحاتها جماليات أليفة بمظاهرها التجريدية وأضوائها الساطعة وألوانها المبهجة، وهي مشغولة بالألوان الزيتية، طبقات تلو طبقات في مراحل متتالية. هذا الانطباع الأول إزاء مناظر جنان الخليل، يُشعرك بشيء من الحيرة، بأنك أمام لوحات تعرفها أو كأنك رأيتها من قبل، لسهولة قراءتها والاندماج فيها ولسبب جاذبية ألوانها وتركيبة تآليفها على مسطح واحد منبسط، يضاف إلى ذلك أن بعض الأعمال تسيطر عليها فئات متناغمة من مشتقات اللون الواحد (الأصفر الليموني، أو الأحمر البركاني أو أزرق البحر)، مما يقربها ويبعدها في آن واحد من مناخات التجريد الغنائي في مدرسة الحداثة في التشكيل اللبناني.
ولكن ثمة خصوصية في أسلوبها ومقارباتها لحركة سحب الضوء وتنقلاته، بل ثمة خبايا تتبدى ليس في قشرة المظهر اللوني وسطوحه، بل في الحوافز الداخلية التي تعتمل في قلب اللوحة أو في زواياها أو قعرها، حيث الغليان الذي يعج بالتفاصيل والخربشات (الطفولية) والهلوسات الغائمة والمائجة بعضها ببعض، مما يجعلها كأنها عوالم سردية مكتوبة بطريقة غير معلنة، لذا فهي بعيدة من الوضوح، عملاً بقول هيربرت ريد: "دع الخط يذهب في نزهة".
اللون منصة التعبير
جنان الخليل رسامة مفتونة باللون والضوء. في معرضها تبدو وكأنها على ضفتين ما بين أنقاض مدن مدمرة وطبيعة حالمة، أي بين يأس ورجاء. من جهة المرحلة السوداء التي تهيمن على قماشاتها مع ألوان الدخان والرماد، ومن جهة ثانية استذكارات آتية من حقائب الماضي الذي يتبدى بعفوية رسم الأشكال بتدفق عفوي مليء بالانفعالات الخطية في مناظر لونية لافتة. كما لو أن لوحاتها هي جزء من طريقتها في التعبير عن نفسها وأفكارها، أو كأنها سيرتها الزاخرة بعوالم ترتكز على تداعيات رموز الواقع في متواليات أحداثه. فهي تحيل المرئيّ من الواقع إلى إشارات وعلامات وتفاصيل مثل شبكة خيوط مكوكية، في أسلوب يجمع ما بين أثر المكان وسياقات فنائه.
أمضت جنان الخليل عاماً كاملاً وهي ترسم وتترصد تداعيات وقائع فواجع الحرب في غزة وجنوب لبنان. ذلك ما يفسر سر اللون، الذي جعلته منصة لحب الحياة، حيث تتبلور أنغام الأشكال البسيطة التي تنسينا الموت في تعبيرها المتواصل عن خراب العمائر والبيوت في جيولوجيا الأرض المدمرة والمحروقة، وكأنه لم يبق من المدن سوى الريح التي عصفت بها. فاللوحات تعكس شعورها حيال مآسي قلق الوجود في جحيم حروب وهجرات متكررة. على رغم ذلك فإن أسلوبها بعيد من المأسوية، لأنها لا ترسم بصورة مباشرة فصول النكبة الجديدة لمدن مدمرة وضائعة وإنما تتوغل في التعبير عن وجود مديني، يتناثر في فضاء لوني كبير، في مناخات مجردة من التشخيص المباشر، وإنما بلغة تكتفي بالإيحاء.
تتماهى جنان خليل في رسم إيقاعات الأجسام المتداعية التي لا تثبتُ على أي شكل، وإنما تتشابك وتتراصف كمربعات وخطوط متقاطعة في ما بينها، كي تعبر عن حركة انكسارات هندسية وخطوط متموجة، كتضاريس طوبوغرافية لأمكنة من دون تفاصيل إلا ما اختزنته الذاكرة وما حولته من أصداء ومن حالات لونية. كما لو أن جنان الخليل تسعى إلى قطف سديم اللون الذي يظهر ويؤسس لمناخات شعرية، فهي تجسد عبر اللون مخاض الدراما الداخلية للمنظر الذي يفيض بتداعيات الواقع المفجع، تجسده كحقائق داخلية لرغبات تبحث عن متنفس من جموح الخطوط وحطامها، فهي تمضي في صناعة المحتوى الشكلاني واللوني معاً، وتلقي الضوء وتسلطه على المشهد اللوني وهي تستكشف مضامين وأشكالاً مفككة السياق، فتستدعي هيئات أشخاص بخطوط واهية في التعبير عن الغياب. أشياء تتزاحم وتتراكم وتنمحي وأخرى تظهر. ثمة أبنية مقوضة ونوافذ معلقة في الفراغ وهياكل أبنية متداعية، وأنقاض وكثير من الأنقاض، يقابله إسراف في سلالم ألوان الباستيل والطيف الشمسي وتناغماته ودفئه.