Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فاغنر" بين حرفة "الأجير" وشركات "المرتزقة"

القتال بأجر هو ثاني أقدم مهن التاريخ والحروب أكسبته شرعية دولية في السنوات الأخيرة

أصبحت مجموعة "فاغنر" حديث العالم لدورها في الحرب الروسية الأوكرانية خاصة بعد الخلاف مع موسكو (أ ف ب)

ملخص

كانوا "نهابين" وأصبحوا "مقاتلين"... هل يسري ذلك على "فاغنر"؟

 لا "فاغنر" بعيداً من مصير المجموعة، ولا "داعش" سواء عادوا لسابق أنشطتهم أو دامت غيبوبتهم، ولا الفصائل الفرعية المنشقة عن الفصائل الرئيسة الهاربة من الجيوش النظامية في دول هنا أو هناك، ستضع حداً أو تكتب كلمة "النهاية" أمام ثاني أقدم مهنة في التاريخ.

فأينما وجد بشر وصنعت خلافات وتولدت أطماع وتفجرت مصالح، وجد المرتزقة وتكونت الميليشيات، إذ اختلف المؤرخون في توصيف أقدم مهن في العالم، لكن شبه إجماع حدث في تحديد تقديم الخدمات الجنسية بمقابل أو الدعارة كأقدم مهنة، تليها القتال بمقابل.

ثاني أقدم مهنة

ثاني أقدم مهنة ملء السمع والبصر هذه الآونة بفضل الأسطورة المعاصرة لمجموعة "فاغنر" القتالية شبه العسكرية، وهي التي تحيط بها هالة من علامات الاستفهام والتعجب أكثر مما تطرحه من إجابات شافية أو شروحات وافية، والغالبية تنشغل تماماً بنشاط المجموعة أو التنظيم أو الجماعة أو الميليشيات التي يعمل "المقاتلون" تحت إمرتها، أما الأشخاص فيجدون أنفسهم في الظل تماماً، ورب ظل خير من ضوء من شأنه أن يفتح عليهم أبواب المساءلة والمحاسبة بحسب ما تمليه حسابات السياسة ومصالح الدول غير المعلنة.

الإعلان عن مصير "مجموعة فاغنر" في كفة والإعلان عن مصائر "مقاتلي" المجموعة في كفة أخرى، غالباً تبقى مجهولة ومطموسة إلى أن ينتقل من تبقى من المقاتلين على قيد الحياة إلى مجموعة أخرى أو تنظيم جديد، وذلك بحسب ما تمليه خرائط الصراع وقواعد التآمر ومعايير الدمار.

وما يعتبرهم البعض في العالم "مرتزقة حقراء" ينظر إليهم البعض الآخر على أنهم "مقاتلون شرفاء"، كل بحسب هواه، وعلى مدى التاريخ استخدمهم دول وقادة وأصحاب مصالح، وينتهي بهم الحال إما بسرديات إشادة ومقاطع ثناء، أو بمطولات شجب وأحكام إدانة، أما المقاتل المرتزق فلا يقدم الولاء والإخلاص، ولا يتوقع منه كذلك، فقط يقدم قدرات قتالية ومهارات قتل وتخريب بحسب المطلوب وتوقعات بعدم مغادرة صفوف القتال إلا بعد انتهاء المهمة أو مقتله، وأمنيات بألا يعرض العدو عليه عرضاً أفضل فينضم إليه باعتباره مقاتلاً محترفاً لا مقاتلاً وطنياً.

رواد أعمال براغماتياً

البراغماتيون يسمون الشركات التي يقوم نشاطها على تشغيل المقاتلين بحسب الطلب "رواد أعمال" أما غير البراغماتيين سواء كانوا مثاليين أو وطنيين أو أفراداً عاديين ممن يعتبرون القتال في الحروب مهمة مقدسة يقوم بها الجندي في جيش بلاده من أجل حمايتها ورفعة شأنها وصون كرامتها وذلك من منطلق الوطنية وربما القومية فيعتبرونها "وكلاء خراب ودمار".

مشاعر الوطنية والقومية تثبت الجندي وتشد من أزره في أرض المعركة. ويقول المتخصص في العلوم العسكرية بالحرس الوطني في ماريلاند الأميركية جايمس غريفيث في دراسة عنوانها "متى تكون وطنية الجندي أو قوميته مهمة؟" المنشورة على موقع مكتبة "جون ويلي" (2010) إن إيمان الجنود، لا سيما الأصغر سناً، بقيمتي الوطنية والقومية يؤثر بشكل مباشر وإيجابي في أدائهم في القتال، وكلما زادت هذه المشاعر زاد ارتباط الجندي الإيجابي بالجيش والعقيدة القتالية وارتفعت احتمالات بقائه في الخدمة العسكرية، أما "المقاتل" ضمن مجموعة شبه عسكرية أو جماعة ترفع شعارات عديدة لكن لا تملك جيشاً فتجند ما يلزمها فلا وطنية تؤثر أو مشاعر قومية تدعم أو ولاء وارتباط يصنعان النصر من رحم الهزيمة.

 الهزيمة والانتصار

"هزيمة" فاغنر أو انتصارها، ونصر "داعش" أو انكساره، ومن قبلهما ما فعلته "بلاك ووتر" في العراق، وقبله بمئات السنوات ما جرى في الحروب الفارسية اليونانية بين عامي 492 و478 قبل الميلاد حين تعاقدت الإمبراطورية الفارسية مع مرتزقة يونانيين لغزو إسبرطة، أو ما أسفرت عنه الحروب البوتية بين روما وقرطاجة، إذ كان الجيش القرطاجي يضم مقاتلين من مختلف المناطق المطلة على البحر المتوسط، وهيمنة المرتزقة على الحروب التي كانت دائرة بين الدويلات الإيطالية في العصور الوسطى وغيرها من مئات الصراعات على مدى تاريخ البشرية تقف على طرف النقيض من مشاعر الوطنية وما تعنيه وتستوجبه من "أموت ويحيا الوطن".

في صفوف المرتزقة يموتون نعم، لكن لا يحيا الوطن بالضرورة، لأنها مهنة كغيرها من المهن، إذ يقومون بعمل في مقابل مادي، صحيح أن العمل مضن وقاس وخطر، لكنه بمقابل وربما مميزات، لا أكثر أو أقل، حتى أولئك "المقاتلين" الذين تم توظيفهم من قبل الشركة والذين يحملون جنسية بلد منشأ الشركة، فيظلون مرتزقة من حيث نوعية المهام التي يقومون بها بحسب طلب العميل، وعملاء "فاغنر" كثيرون، أو ربما هو عميل واحد ولكن متعدد الأنشطة العابرة للحدود والمحيطات.

"مجموعة فاغنر" الروسية مثلاً التي خرجت إلى النور عام 2014، وما قبلها غير معروف، بدأت بنحو أربعة آلاف جندي وضابط متقاعد من الجيش الروسي، وعملياتها الموثقة الأولى كانت مساندة الانفصاليين الموالين لروسيا في صراعها المزمن شرق أوكرانيا، ويبدو أنها أبلت بلاءً حسناً قتالياً واقتصادياً، فأخذت أنشطتها تتوسع وتتمدد، فمن شرق أوكرانيا إلى سوريا ومنها إلى موزمبيق والسودان ثم جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا ودول عديدة أسماؤها واردة على قائمتها.

هذا التمدد والتوسع، مع الابتعاد عن المركز (روسيا) استدعى ضم مقاتلين من جنسيات أخرى، وهالة السرية المفروضة على "فاغنر" ومقاتليها الذين لا يظهرون في الصور ومقاطع الفيديو ووجوههم مخفية تقول كثيراً عن طبيعة عمل المرتزقة، حيث يعود الجندي من المعركة مزهواً بزيه فخوراً بمعركته، لكن المقاتل المرتزق يعود، إن عاد، آملاً في أن تبقى عودته سراً، وإن عرفت فيأمل في الغفران أو النسيان، أيهما أقرب.

تغيرات وتبدلات

أمور المرتزقة وشؤونهم تتغير وتتبدل، ففي العقود القليلة الماضية بذلت جهود كثيرة لإعادة هيكلة منظومة "الارتزاق" لعلها تحظى بقدر أوفر من القبول وأقل من الرفض والاشمئزاز، ويشار إلى أن هذه الجهود لم تبذل رأفة بالمقاتلين الذين يتم تجنيدهم، وحفاظاً على مستقبلهم لدى عودتهم، لكن الغرض منها هو تهيئة الأجواء لمزيد من عمل الشركات شبه العسكرية وفي أقوال أخرى الأمنية، لأن مستقبل القتال لن يخلو منها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلميع شكل الشركات شبه العسكرية له تاريخ حديث وأسباب تبدو منطقية لكل الأطراف الضالعة سواء الدولة القابلة للتعامل معهم أو الشركات العاملة في هذا المجال، وكذلك المقاتلون الراغبون في القتال بأجر.

تشير دراسة أنجزها "مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية" التابع لجامعة جورج تاون الأميركية ضمن برنامج مخصص لدراسة وتحليل القوة العسكرية الروسية إلى أن الاتحاد السوفياتي السابق أرسل آلاف الاختصاصيين العسكريين تحت مسمى "استشاريين" لأماكن النزاع في دول عدة حول العالم، وذلك في حقبة الحرب الباردة، ولعب هؤلاء دوراً مهماً في تحديث القوات المسلحة في هذه الدول، وفي التسعينيات يعتقد أن "متطوعين" روساً شاركوا في الصراعات الانفصالية في دول مثل مولدوفا وجورجيا، لكن روسيا نفت ذلك، إلا أنه يبدو أنها درست كيفية عمل الشركات الأمنية وشبه العسكرية الخاصة الأميركية والغربية بشكل عام، وطريقة عملها في دول الصراع مثل أفغانستان والعراق، ثم سارت على نهجها مضيفة لمساتها الخاصة.

مصائر ومهام

مصير الجيش الجرار وقوامه نحو 50 ألف مقاتل يعملون لحساب "فاغنر" في عدد من الدول بينها أوكرانيا ليست معروفة، كذلك الحال بالنسبة إلى المقاتلين الذين حاربوا من أجل "داعش" وتوقفوا حالياً عن "القتال"، وقبلهم "موظفو "بلاك ووتر" الذين عملوا بكد وجد وقاتلوا على مدى سنوات في العراق وأفغانستان وغيرهم غير معروف لأن السرية عقيدة والتجهيل غاية.

أحدهم لم يكتف بالخروج على السرية والتمرد على التجهيل فقط، بل تخصص في شؤون المرتزقة وتعمق في قواعد تشغيلهم وتبحر في شرح قواعد الجيوش الخاصة. اسمه جون مكفيت، وهو ضابط سابق في الجيش الأميركي، وخبير في السياسة الدولية، وزميل "المجلس الأطلسي" أو "أتلانتيك كاونسيل" أحد مراكز الفكر الأميركية ذائعة الصيت، وهو أيضاً مقاول عسكري متخصص في تعاقدات المقاتلين غير التابعين لجيوش، وكان "مقاتلاً" في شركة خاصة من قبل.

يقول مكفيت إن بين خبراته الكثيرة التعامل مع أمراء الحروب الأفارقة، وتجهيز الجيوش لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية، والتعامل مع الجماعات المسلحة في منطقة الصحراء، وإبرام صفقات السلاح في أوروبا الشرقية، والمساعدة في منع وقوع إحدى الإبادات الجماعية في رواندا.

ويتابع القول في دراسة عنوانها "عودة المرتزقة" إن "أغلب الناس لا يفكرون إلا في شركة (بلاك ووتر للاستشارات الأمنية) ودورها في العراق عام 2007 كنموذج لمقاولي العمليات العسكرية الخاصة، لكن سوق القوة تطورت كثيراً، والشركات مثل (بلاك ووتر) تبدو طريفة إذا ما قورنت بـ(مجموعة فاغنر) وغيرها من شركات المرتزقة الأكثر حداثة، إذ إن القوة الخاصة أصبحت مجال عمل كبيراً ودولياً حتى وإن ظلت قيمته غير معروفة، لكنها بضعة مليارات في أقل تقدير.

وشهدت السنوات القليلة الماضية انتعاشاً كبيراً في نشاط المرتزقة وعملهم في دول عدة مثل اليمن ونيجيريا وأوكرانيا وسوريا والعراق وليبيا، وكثيرون من هؤلاء المقاتلين بأجر يتفوقون على الجنود النظاميين في المهارة، وبعضهم يقف على قدم المساواة مع القوات الأميركية الخاصة".

خروج من الظل

مكفيت بحكم خبرته كـ"مقاتل" غير نظامي سابق بعد تركه الجيش، وكذلك بحكم عمله لبعض الوقت كـ"مقاول عسكري" يقول إن الصورة النمطية للمرتزق بأنه الشخص الشرير الخارج على القانون قد ولت وأدبرت، وإن "المرتزقة حالياً خرجوا من الظل ليصبحوا أداة رئيسة في السياسة العالمية" حيث لم تعد الدولة "العميل" الوحيد للشركات شبه العسكرية، لافتاً إلى أن "الصناعات القائمة على المناجم مثلاً تستعين بهم لحماية أفرادها وأصولها في أكثر الأماكن خطورة في العالم، كما أن بعض الجمعيات الإغاثية والإنسانية بات يستعان بها لحماية عامليها.

من يحمي المرتزقة حتى لو أضفت جهود الـ"نيو لوك" عليهم مظهراً أكثر جلالاً أو بهاءً، أو باتوا يسمونهم "مقاتلين" أو "مدافعين" أو "محاربين" أو "حراساً" أو غيرها فتظل القواعد غير حاكمة ومصائرهم في أيدي "الشركة" المشغلة لهم.

المؤكد أن حاجز الوصمة جرى رفعه من قبل أصحاب المصلحة في التشغيل والتجنيد، ويكفي مثلاً أن شركات عدة في دول كبرى تعمل بشكل "قانوني" في هذا المجال وتجاهر بـ"الوظائف" المطلوبة والشروط الموصوفة ومعها المميزات المنصوص عليها، إحدى هذه الشركات تبحث حالياً عن مترجم فرنسية إنجليزية في جمهورية أفريقيا الوسطي مقابل 725 دولاراً في اليوم، و"كاميرا مان" عسكري في روسيا بـ700 دولار يومياً إضافة إلى المصروفات الشخصية، وتنفيذي في فريق الحماية في واشنطن يتقاضى 500 دولار في اليوم، ومسؤول إجلاء في السودان بأجر يومي يتراوح بين ألف وألفي دولار يومياً.

أريد أن أكون مرتزقاً

الطريف أن أثير الإنترنت عامر بأسئلة يوجهها البعض من الراغبين في أن يكونوا "مرتزقة" أو "مقاتلين بأجر"، يسألون عن المواصفات المطلوبة، والحد الأدنى والأقصى للأعمار، والأجور، والمميزات، والشركات الأفضل، وأماكن الدفن وإجراءاتها في حال قتلوا، والأكثر طرافة أن الإجابات تأتي محملة بالنصائح ومن بينها "لو لم تكن تمتلك خلفية أو تدريباً عسكرياً عليك البدء في تلقي بعض التدريب، واحرص على أن تحدث صفحات السوشيال ميديا الخاصة بك، لا سيما (لينكد إن) مع ذكر مهاراتك القتالية، وبعضهم ينصح بأنه في حالة لم تتمكن من العثور على فرصة، فعليك الذهاب إلى السوق، احمل حقيبتك وتوجه إلى أحد أماكن الصراع حيث ستقابل حتماً "أمير حرب" أو "مقاولاً عسكرياً".

نفسياً وعصبياً واقتصادياً لا يحال المرتزقة على التقاعد، وينتهي الصراع الذي تم توظيفهم فيه، فلا يجمعون متعلقاتهم ويعودون أدراجهم إلى بيوتهم، بل كثيراً ما يتوارون في قرية صغيرة قريبة من مكان الصراع الذي انطفأ على أمل أن يعاد إشعاله وتتم الاستعانة بهم مجدداً، وبينهم من يبادر بمعاودة إشعال الصراع ليعودوا إلى عملهم ويعاودوا تلقي أجورهم، ومنهم من يحترف عملاً آخر ولكن يحتاج إلى مهارات يملكها المرتزقة، فيتحولون إلى خاطفين طلباً لفدية، أو هجامين بحثاً عن إتاوة.

قاعدتان رئيستان تهيمنان على هذا القطاع، الأولى هي أن مزيداً من المرتزقة يعني مزيداً من الصراع وإطالة أمده، والثانية هي أنهم بالضرورة وبالمنطق غير قابلين للتنظيم، وحتى إن تم تنظيمهم بصرامة في دول المنشأ، أي حيث تم تأسيس شركة المقاولات العسكرية، فإنهم يشطحون خارج الحدود حيث لا مجال للضبط أو الربط، فقط القتال في مقابل المال.

مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ما زالت تعرف المرتزق بأنه الشخص الذي يجند خصيصاً محلياً أو في الخارج للقتال في نزاع مسلح، ويكون دافعه الأساسي للاشتراك في الأعمال العدائية الرغبة في تحقيق مغنم شخصي، ويبذل له فعلاً من قبل طرف في النزاع أو باسم هذا الطرف وعد بمكافأة مادية تزيد كثيراً على ما يوعد به المقاتلون ذوو الرتب والوظائف المماثلة في القوات المسلحة لذلك الطرف أو ما يدفع لهم، ولا يكون من رعايا طرف في النزاع ولا من المقيمين في إقليم خاضع لسيطرة أحد الأطراف، أو من أفراد القوات المسلحة التابعة لأيهم، ولم توفده دولة ليست طرفاً في النزاع في مهمة رسمية بصفته من أفراد قواتها المسلحة، كما لا يجوز للدول الأطراف تجنيد المرتزقة أو استخدامهم أو تمويلهم أو تدريبهم، وعليها أن تحظر هذه الأنشطة، لكنها لم تعد تسمى "مرتزقة".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير