ملخص
التطورات في روسيا فاجأت المراقبين وزعزعت قوة نظام بوتين
أول من أمس في 23 يونيو (حزيران) 2023، شن يفغيني بريغوجين، زعيم منظمة المرتزقة "فاغنر" تمرداً على الجيش الروسي، في تحدٍّ مباشر لحكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. واعتباراً من بعد ظهر اليوم، يبدو أنه أوقف لبعض الوقت في الأقل عجلة ما ظهر على أنه زحف على موسكو. لا يزال من الصعب للغاية معرفة مآل الأحداث في روسيا. فالوضع متقلب ولا يزال من المبكر تقديم تقييم حاسم، ولا نريد أن نكون استنتاجات متسرعة. ومع ذلك: كيف أمكن أن يحصل كل هذا؟
كوتكين: بريغوجين يرتجل تحركاته. ربما أوقف تقدمه نحو موسكو، لكن ماذا سيحصل الآن؟ عودة إلى القواعد والثكنات، كما يقول. حسناً، لكنه لا يزال يمسك بزمام الأمور. مهما كانت التسمية فبعضهم يقول انقلاب، وأقول بوتش (انقلاب). تدعوها بندورة، وأسميها طماطم: فلنلغ العملية برمتها ونجمدها - في الوقت الراهن فقط، لكنه نجح في الدخول إلى المقر العسكري الروسي في الجنوب، وهو يقع وسط روستوف، في قلب المدينة. استولت "فاغنر" على المقر - لكنها لم تأخذه بقوة السلاح، إنما بفضل الهواتف الذكية إجمالاً. غيرت التكنولوجيا وجه اللعبة كلياً. من يدير أوكرانيا في زمن الحرب هو شركة إنتاج تلفزيوني - وهي تحقق نجاحاً باهراً. أما بريغوجين فيستخدم "تيليغرام"، لكن بوتين يعرف بغيابه عن الإنترنت، ويبدو أنه لا يفهم وسائل التواصل الاجتماعي ولا يفقه في أمرها شيئاً. وهذا خطأ جسيم.
في النهاية، يمكن أن تتحول دينامية الأحداث إلى ما يحاكي سحب المودعين الأموال من البنوك. تذكروا ما حدث عند انهيار مصرف "وادي السيليكون": سحب أموال المودعين بتحفيز من "تويتر"، لو بدأ الجيش الروسي بالتشرذم في الميدان، سيكون ذلك أشبه بانهيار حفزه "تيليغرام" لبنك سياسي - عسكري.
إن حصل ذلك - ويجب أن نضع "إن" بين قوسين كبيرين - قد يكون بريغوجين الهدية التي تستحقها أوكرانيا: البديل الحاسم لبوتين الذي يختبر ولاء جميع الأطراف داخل روسيا، ويكشف عن وجود دعم قليل، أو معدوم، للحرب في أوساط المقاتلين الذين يحاربون على الجانب الروسي، ويقوض الوضع في موسكو ويفرط عقده. كان الهجوم الأوكراني المضاد في أيامه الـ10 الأولى اختباراً لنقاط الضعف - أو اختباراً لنقاط الضعف الأوكرانية للأسف، التي ظهرت من كل حدب وصوب تقريباً، لكن قد يتحول هذا الهجوم فجأة إلى أمر بغاية السهولة إن ألقى الروس أسلحتهم بسبب ارتباكهم - أو قفلوا عائدين أدراجهم بكل بساطة بعد إصابتهم بالإحباط. كان الهجوم الأوكراني المضاد يواجه احتمالات كثيرة شائكة وصعبة، والسيناريو الوحيد الذي يجعل الكفة تميل لصالح الأوكرانيين كان حصول تهديد داخلي ضد بوتين. وها قد وصلنا - ربما - إلى هذه النقطة.
لطالما وصفت نظام بوتين بأنه "أجوف، ومع ذلك لا يزال قوياً". وقد تمكن من الصمود، وهو قادر على الاستمرار طالما لا يوجد أي بديل سياسي عنه. قد نرى اليوم إلى أي درجة النظام أجوف. أطلق بوتين اختباراً لقوة نظامه الخاص يحاكي فحص الإجهاد، من دون أن يدرك ذلك. فتبددت هالة الغموض المحيطة به بسبب الإخفاقات في الهجوم على أوكرانيا. وعندما يفقد الغموض وتتبدد الهالة، يكاد يكون من شبه المستحيل استعادتهما. على نحو ما يذهب الكليشيه القديم عن ثياب الإمبراطور [الإمبراطور العاري]. لا يزال يمتلك نفوذاً لا يستهان به، يستند إلى بنى أرساها حول نفسه، مثل حرسه الوطني، وأخرى هدمها - مثل قضائه على كل الاحتمالات السياسية وجعل الساحة السياسية في روسيا أرضاً بوراً لا احتمالات فيها ما خلاه، وتوسله بالقمع الشديد لتشتيت صفوف الجماهير.
معظم محاولات الانقلاب مصيرها الفشل. الاحتمالات قليلة، لكن على الأقل، يلوح في الأفق اليوم احتمال بديل عن بوتين
ما يخشاه كل الطغاة فعلاً إلى حد كبير هو أمر واحد: وجود البديل. ويقع وقع الصدمة أن بوتين، بعد سنوات طويلة من قمعه البدائل بلا كلل، وإدخاله شخصيات تافهة إلى دائرته المغلقة من باب الحرص على عدم تهديد أي أحد له، قد سمح لبديل بأن يتكون. أكاد لا أصدق ذلك.
تبني الأنظمة الاستبدادية جيوشاً وأجهزة أمنية بالغة القوة، لكنها تؤلب كل منها على الأخرى وتزرع الشقاق بينها عن سابق تصور وتصميم القائد، كي يتسنى له أن يمسك بمقاليدها ويجعلها معتمدة عليه. ويتعمد القائد أن يعطيها صلاحيات متداخلة ويعزز الخصومات الداخلية عند كل فرصة ممكنة ويجلس في كرسي المتفرج السعيد عادة، لكن في هذه الحالة، صنع بوتين عدوه بيده.
أقول منذ فترة أن سبيل لفت انتباه بوتين وزعزعة نظامه هو تحديد وتجنيد منشق من الداخل، يكون قومياً روسياً تميل إليه قاعدة بوتين، لكنه أيضاً شخص اعترف بوجود أمة ودولة أوكرانية قائمة بنفسها. ويستحسن أن يكون شخصاً بزي رسمي. وها قد منحنا بوتين مرشحاً.
لا يزال من المبكر تقديم تقييم راجح. علينا أن نحذر الوقوع في آمال واهية. فتاريخ الانقلابات في روسيا رهيب. وكل انقلاب حول العالم يفشل تقريباً. الاحتمالات بعيدة، لكن في الأقل، هناك احتمال الآن.
لكن ما البدائل عن بوتين؟
كوتكين: من اليسر أن نصرف النظر عن بريغوجين ونستخف به، وأن نعتبره فحسب قائد كتائب موت - قوامها عناصر ميليشيات سجنوا بتهم القتل أو الاغتصاب وعمل شخصياً على تجنيدهم من داخل معسكرات الاعتقال. وسبق أن حكم عليه بالسجن لأعوام، وتقول بعض الروايات إنه قضى تسع سنوات في السجن، لكنه يمثل من بعض النواحي أيضاً بديلاً قد يكون جذاباً بعض الشيء: القومي الروسي المستبد الذي يعترف بأن الحرب خطأ ويعود عنه بشكل حاسم أو في الأقل ينهي مرحلة القتال المحتدم حالياً، فيطوي صفحة الحرب، سواء عن قصد أم لا، هذا هو النوع الوحيد من الأشخاص القادر على تهديد بوتين - والأخير لم يحرك ساكناً فيما كرت سبحة الأحداث مباشرة، ونقلتها فيديوهات شاهدها العالم أجمع.
قد لا يبدو بريغوجين خصماً مقبولاً، لكن من بعض النواحي، تعد خلفيته مناسبة أكثر للفترة الراهنة من خلفية بوتين. فصحيح أن كليهما من سانت بطرسبورغ، لكن بريغوجين ينتمي إلى طبقة المثقفين والمفكرين، على رغم قضائه حكماً بالسجن. أمه فنانة، تدير معرضاً في لندن. ومستواه باللغة الروسية أفضل من بوتين. ومن ناحية الطبقة الاجتماعية، فهو أعلى بطبقة من بوتين، كما أن الجانب الفني لبريغوجين واضح في الفيديوهات التي يصورها. هو لا يجيد الحساب (مهاراته في الرياضيات سيئة جداً، وهذا ما تكشف عنه فيديوهاته أيضاً)، لكن علينا النظر إلى كلماته البليغة والدقيقة، وإيقاع حديثه، وقدرته على لعب دور الرجل القاسي، والوطني الروسي الذي يفصح عن مكنونات نفسه ومشاعره، الذي يقول الحقيقة ويفضح الانتهازيين والأغبياء واللصوص الذين عينهم بوتين.
ما يخشاه كل الطغاة بشكل كبير هو أمر واحد فحسب: توفر البديل عنهم
يبدو إلى حد ما أن بريغوجين تعلم من مهارة (المعارض الروسي) أليكسي نافالني وأدائه في الفيديوهات. ونافالني نفسه لا يزال على قيد الحياة. هو مسجون ويواجه حكماً جديداً باتهامات مزورة. وطالما بقي على قيد الحياة، يمثل هو أيضاً بديلاً. هو الآخر قومي روسي، مع أنه من طينة مختلفة بلا شك، لكنه قومي يجاهر بأن الحرب كانت فكرة سيئة جداً وأنها تؤذي روسيا وتلحق الضرر بها.
وإضافة إلى ذلك، يمثل نافالني ورقة رابحة ترمي إلى رفع العقوبات متوفرة لأي بديل مستقبلي يحل محل بوتين، حتى لو لم يكن نافالني نفسه ذلك البديل الذي يخلف الرئيس الروسي.
ما الذي يقدر بوتين أن يفعله لقلب مسار الأمور؟
كوتكين: يمكن لبوتين أن يلجأ إلى سلاحه الجوي القوي، الذي لم يمسه سوء حتى الآن، من أجل تسديد ضربة إلى قوات "فاغنر". ويبدو أن الجيش الروسي كان يقصف قوات "فاغنر" وهي في طريقها إلى موسكو. وكان في إمكان بوتين [قبل التفاهم] توجيه ضربة إلى بريغوجين، وهذه خطوة حاسمة، أثناء احتمائه داخل روستوف، المركز العسكري الرئيس في روسيا لحرب بوتين على أوكرانيا. تخيلوا رمزية الضربة. وإلى ذلك، يمكن لضربة جوية أو صاروخية أن تقضي على هذا التمرد المحتمل بسرعة. ولو لم يستخدم بوتين سلاح الجو بشكل حاسم وسريع، قد يفقد السيطرة على الوضع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يمتلك بريغوجين الأسلحة الثقيلة الضرورية لفرض السيطرة العسكرية على موسكو. فجعبته خالية من سلاح جو - ما لم تنشق بعض عناصر السلاح الجوي الروسي وتنضم إليه.
هل لنا أن نقلق من احتمال إقدام بوتين على خطوة جذرية.
كوتكين: إن قرر بوتين بالفعل استخدام قوة سلاح الجو ضد بريغوجين، فذلك قد يعقد الأمور بالنسبة له شخصياً. لأنه سيقصف قواته الخاصة. فروستوف تقع في روسيا وليس أوكرانيا. وفيها أطفال روس. أما المقر العسكري الرئيس فيقع في مركز مدينة مكتظة بالسكان، وداخله جنود وضباط روسي وليس فقط مرتزقة "فاغنر" - ولدى هؤلاء أمهات وآباء وإخوة وأخوات كذلك. لن يتمكن بوتين من التعتيم على خطوة كهذه، لأن الفكرة الأساسية منها هي أن يبرهن أنه يمسك بزمام الأمور.
علينا أيضاً أن نقلق من أن يقدم بوتين على خطوة حاسمة هدفها تشتيت الانتباه واستعادة السيطرة، فقد فجر سد كاخوفكا. وماذا عن محطة زابوريجيا النووية؟ يمكن أن يأمر بوتين بتفجيرها فتنتشر الإشعاعات بعد ذلك في كل أرجاء أوكرانيا. ويحتمل أن تصبح أجزاء كبيرة من أوكرانيا غير صالحة للسكن لفترة طويلة: فخطر الإشعاعات أسوأ بكثير من المياه الملوثة أو الألغام التي تزرعها روسيا في كل أرجاء الأراضي الأوكرانية الشاسعة التي تقع في قبضتها. حاولت القوات الأوكرانية الخاصة مرات عدة أن تعبر نهر دنيبرو وتستعيد السيطرة على المحطة النووية هذه، وفشلت.
هذه سيناريوهات مخيفة.
كوتكين: هل تجنبنا الكارثة أم أرجأناها فحسب؟ هل تقررت بتاريخ جديد؟ أكاد لا أصدق أنني أتفوه بهذه الكلمات. شدد بوتين أخيراً أن سياسة الحكومة في شأن استخدام الأسلحة النووية تنحصر في سيناريو التهديد الوجودي على الدولة الروسية، لكنه يرى أن حكمه الشخصي هو في مصاف الدولة الروسية [ولا يميز بينهما].
لا شك في أننا لا نريد أن نذعر ولا أن نبث الذعر في نفوس الناس. لا أعلم إن كان إعلان نظام بوتين بأنه نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروس له أساس من الصحة. كل ما يحتاج إليه هو أن ينشر سلاحاً واحد. إن أطلق سلاح نووي واحد من بيلاروس، هل يبرر ذلك تحركاً انتقامياً من روسيا؟
فلنتذكر أنه عندما حاول بوتين اغتيال من اعتبرهم خونة في المملكة المتحدة، لم يأمر قوات الإعدام التابعة له بأن ترديهم بالرصاص ولا أن تدس الزرنيخ في الشاي الذي يحتسونه، بل كلفها باستخدام البولونيوم وغاز نوفيتشوك. وكانت تلك رسالة أيضاً - ليس فقط أنه سيقتل الخونة أينما كانوا، بل أيضاً "طريقة" القتل.
مهما كان رد بوتين، يبدو أنه يواجه خطر فقدان السيطرة
كوتكين: قد يتبدد هذا الخطر بسرعة. بوتين ناج من المصاعب. وقد يؤدي الإحساس بوجود خطر يهدد الدولة الروسية إلى جمع مختلف الجهات المتنافسة لمآزرته ورص الصفوف.
في رده المصور على بريغوجين، أشار بوتين إلى وجود لحظة خطر شبيهة بتلك التي وقعت في عام 1917 - حين أرسل لافار كورنيلوف، القائد العام لجيش الإمبراطورية الروسية في الحرب العالمية الأولى، قواته كي تزحف على العاصمة سانت بطرسبورغ، بهدف إعادة فرض النظام، لكنه لم ينجح سوى في مفاقمة تشرذم الجبهة السياسية الداخلية.
أو مثلاً تذكروا محاولة ألكسندر كيرينسكي بعدها بفترة وجيزة باحتواء محاولة انقلاب عبر إرساله القوات كي توقف تحركات البولشفيك وتعتقلهم، وهذا ما حفز الانقلاب نفسه الذي أراد كيرينسكي وحكومته الموقتة أن يحولا دون وقوعه. وتداعت الإمبراطورية الروسية. في حال وافق الرجال الأقوياء (وراء بوتين) ولو أحسوا بوجود مرحلة خطر مماثلة، ليس بالنسبة إلى بوتين وحده، بل بالنسبة إلى روسيا، فقد ينقذونه في سبيل إنقاذ البلاد.
ماذا علينا رصد لنعرف أين تتجه الأمور؟
كوتكين: عليكم بمراقبة رئيس مجلس الأمن نيكولاي باتروشيف. لم تعلق بكين بعد على الأحداث، قد تكون هذه اللحظة المواتية التي يقرر فيها شي جينبينغ أنه لا يملك فعلياً أي بديل عن وجود نظام شبه صوري في موسكو. في ظل احتمال إطاحة بوتين، قد يريد شي جينبينغ أن يستبق وجود خيارات لا يرغب بها فعلاً، مثل بروز بديل لديه موقف ودي من الغرب. وفي ذلك تداعيات عميقة بالنسبة إلى الصين.
وراقبوا أمير الحرب الشيشاني رمضان قديروف الذي لديه ميليشيات كبيرة خاصة به تماماً مثل بريغوجين. صحيح أنه يجاهر بولائه المطلق لبوتين، لكنه قد يسهم في تفجير شرارة مشكلة في شمال القوقاز. فلنر إن كان قديروف، الذي يعاني من مشكلات صحية خطرة، سيبقى في غروزني أو في جوارها، أو إن كان سيظهر في أي مكان آخر ليلعب دوراً ما. يبدو أن رجاله متورطون في قمع فاغنر. ما يصعب تصديقه هو أن طموح قديروف يتركز في [إنقاذ] موسكو، لكن من شأن إثارة أي مشكلة في شمال القوقاز أن تخلف تداعيات واسعة النطاق - على جنوب القوقاز والمشرق وروسيا.
وحري بكم مراقبة بيلاروس كذلك. قد يقرر الرئيس المتقلب، ألكسندر لوكاشينكو، أن الأمور تسير على ما لا تحمد عقباه، ويهرب فجأة، مما سيؤدي إلى انعكاسات أخرى. قد يحاول بوتين حتى أن يطيحه ويستبدله. من يعلم؟ ربما يغير لوكاشينكو ولاءه ويتجه نحو الغرب.
هل غيرت أحداث الـ24 ساعة الأخيرة نظرتك إلى بوتين؟
كوتكين: بالمحصلة: حتى لو قضي على البديل الآن، فقد سمح له بالبروز والوصول. وحصل كل ذلك مباشرة عبر الفيديو على الملأ، وعلى امتداد أشهر. لم يتدخل بوتين في وقت أبكر وسمح للأمور أن تتفاقم وتبلغ هذه المرحلة، هذا مذهل. فإما تدهور حاله إلى أقصى درجات انعدام الكفاءة، أو أنه لا يملك درجة التحكم بإدارة العمليات التي تزعمها ماكينته الإعلامية. أو الأمرين معاً. توقعت أن يجيد أصول الاستبداد بشكل أكبر. وتوقعت منه أن يفهم أن هذا هو الخطر الأكبر مباشرة. توقعت منه أن يضع حداً للألاعيب وسياسة فرق تسد مع الجهات المتنافسة، لأن ذلك أصبح يشكل خطراً عليه شخصياً، لكنني بالغت في تقديره. إنما لا أرغب أن أرتكب الخطأ الآخر وأستخف به الآن.
أين يقع وجه التشابه التاريخي مع الأحداث هذه؟
كوتكين: ذكرت فيما تقدم عام 1917 لأن بوتين نفسه ذكر الحدث وليس انفجار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، الذي عاصره شخصياً، وغالباً ما ذكره وفكر فيه، لكن الجانب اللافت في الموضوع بالنسبة إليَّ ليس في الإحساس الغريب بذلك الماضي البعيد الذي يبدو قريباً جداً مرة أخرى، بل في الثورة التقنية والإعلامية. أنظر إلى شركة الإنتاج التلفزيوني الأوكرانية التي تدير هذه الحرب، وأنظر إلى طريقة إنتاج جلسات الاستماع في أحداث 6 يناير (كانون الثاني) هنا في الولايات المتحدة - كان منتج تلفزيوني يدير جلسات استماع ليز تشيني، وكان تأثيره فعالاً وقوياً - وأفكر في أنه "بهذه الطريقة يدار الأمن القومي بشكل أكثر فاعلية اليوم: باستخدام الهواتف الذكية والفيديوهات والميمز". كل تلك الإحاطات السياسية التي كتبت وأرسلت بالبريد الإلكتروني، وكل تلك الاجتماعات التي حضرها مديرون ونواب من أجهزة الأمن القومي البيروقراطية المنتشرة، وكل ذلك التجسس والتمويه والغموض - وفجأة: "تيليغرام" ورفع إبهامين [إشارة الإعجاب على "فيسبوك"].
هل يمكن لأوكرانيا الاستفادة من هذا؟
كوتكين: لم أكن يوماً من المقتنعين بأن أوكرانيا ستأخذ مجموعة من الرجال الذين يعملون في متاجر بقالة محلية، وتدربهم لعدة أشهر على استخدام أكثر الأسلحة تطوراً في العالم، ثم ترسلهم إلى مواجهات ضد أشد المواقع تحصيناً على الإطلاق. أي أن تصر على شن هجوم يعلم فيه العدو بالتحديد أين ستضربه ولديه متسع من الوقت لكي يستعد له، بل قد استعد له بقوة بالفعل.
لا يملك الجانب الأوكراني أعداداً كبيرة من القوات المدربة تدريباً جيداً، والتي تمتلك مهارات في العمليات العسكرية المشتركة، وهي من أصعب الأمور بالنسبة إلى الجيوش، بل جل ما يملكه هو مدنيون أوكلت إليهم مهمة شديدة الصعوبة، على رغم كل شجاعتهم وعزمهم، ومن دون أن تكون لهم أي يد في ذلك. لم ترسل كل الكتائب الأوكرانية التي تدربت حديثاً إلى القتال. مع ذلك، لم يكن أداء القوات مثيراً للإعجاب حتى الآن. صحيح أن أوكرانيا لا تملك طائرات "أف 16" القتالية بعد، إذ من المفترض أنها في الطريق إليها، لكنني لا أفهم كيف يمكن للطيارين أن ينجحوا بتنفيذ مهام قتالية على متنها وهم في مرمى أنظمة الدفاع الجوية الروسية "أس-300" و"أس-400" التي تطلق عليها النيران من الأراضي الروسي.
قد نكون شاهدين على القاع الذي يبلغه نظام بوتين الأجوف
كنا نتابع القوات الروسية في مواقع الدفاع، وهي تتعلم وتتكيف، وتستخدم المروحيات العسكرية بمهارة عالية. يجب ألا يفاجئ ذلك أحد، لكن يبدو أن بعض المحللين تفاجأوا به، كما أن الألغام الروسية كثيرة ومميتة وهي تستخدم بشكل متطور وبكميات هائلة.
لكن ماذا لو نجح بريغوجين في تفكيك الجيش الروسي؟ ماذا لو نجح في زعزعة النظام في موسكو؟ ماذا لو حصل هذا التفكيك والزعزعة حتى بعد التخلص منه، بشكل ما أو درجة ما في كل الأحوال؟ قد تكون تلك الهدية التي تستحقها أوكرانيا، الهدية التي استحقها الأوكرانيون بفضل شجاعتهم وتضحياتهم، هذا السيناريو - القومي الروسي الذي ينبذ الحرب - هو أسرع السبل التي قد تبلغ أوكرانيا من طريقها شكلاً من أشكال الانتصار. طبعاً عندها، ستصبح الأولوية لقضية القرم.
ما خيارات واشنطن وحلفائها في "الناتو"؟ التريث وانتظار مآل الأمور فحسب؟
كوتكين: لو ظهر أن واشنطن أو "الناتو" أو أوكرانيا تدعم بريغوجين، أو تتآمر معه، قد يؤدي ذلك إلى تقويض أي فرصة يملكها بوضع حد للعدوان. لذلك، كان ردهم مراقبة الأوضاع والوقوف موقف المتفرج في انتظار أن تتجلى الأمور، وهذا هو الرد المناسب، فيما خرجت من كييف بعض التعليقات الساخرة، لكن في ما عدا ذلك، لا تنبس واشنطن ولا بروكسل ببنت شفة.
طبعاً، وراء الكواليس، مراقبة شديدة من كثب لكل ما يجري، ومشاورات مكثفة. 12 ساعة، و24 ساعة، و36 ساعة من الترقب القلق، لكن بعد كل هذه التقلبات والانفعالات، قد نعود إلى نقطة الصفر: بوتين في موقع السلطة في موسكو، وأوكرانيا أمام هجوم مضاد يصعب النجاح فيه جداً.
*حوار مع ستيفن كوتكين 24 يونيو (حزيران) 2023
*ستيفن كوتكين مؤرخ بارز متخصص في الشأن الروسي وكاتب السيرة الذاتية لجوزيف ستالين التي وضعها في ثلاثة أجزاء (يرتقب صدور الجزء الثالث قريباً)، واستحسن النقاد هذا العمل. حاوره المحرر التنفيذي في "فورين أفيرز" جستين فوت في وقت سابق من اليوم في شأن الأحداث الدرامية التي شهدتها روسيا خلال الـ24 ساعة الماضية. حرر النقاش لدواعي التوضيح والتلخيص.